الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
انتحال البطون القرشية للأخبار والأشعار:
تحدث المؤلف بأن القصّاص يضيفون إلى أسرة النبي- عليه الصلاة والسلام ما يرفع شأنهم، ويثبت تفوقهم على قومهم، وعلى العرب. وأن هذا القصص يستتبع الشعر، وأتى على أن التنافس كان يشتد بين بني أمية وبني هاشم، وأن الخصومة بين قصاص هذين الحزبين كانت تشتد، وأن الروايات والأخبار والأشعار كان تكثر، وذكر أن هذا الأمر لا يقتصر على بني أمية وبني هاشم، بل تشاركهم فيه الارستقراطية القرشية كلها.
ثم قال في (ص 73): "وإذن، فالبطون القرشية على اختلافها تنتحل الأخبار والأشعار، وتغري القصاص وغير القصاص بانتحالها".
يمرّ القاريء الملمّ بصناعة المنطق على هذه الجملة، فيقع في ظنه أن المؤلف استخلصها كالنتيجة من مقدمات سابقة، فيرجع البصر فيما تقدمها من حديث، فلا يظفر- ولو بشاهد- على أن البطون القرشية على اختلافها انتحلت الأخبار والأشعار، وأغرت القصاص وغير القصاص بانتحالها.
هل عدّ المؤلف بطون قريش بطناً فبطناً، وضرب لكل بطن مثلاً يرينا كيف انتحل خبراً، أو شعراً، أو أغرى القصّاص وغير القضاص بانتحاله؟ هل جاء المؤلف برواية تثبت أن بطون قريش على اختلافها تنتحل الأخبار والأشعار، وتغري القصّاص وغير القصّاص بانتحالها؟.
لم يفعل المؤلف هذا ولا ذاك، إذن، هذه العبارة الواسعة إنما هي دعوى أخرجها في صورة نتيجة، وما هي بنتيجة.
*
قصة أبي بكر بن عبد الرحمن:
قال المؤلف في (ص 74): "ولست في حاجة إلى أن أضرب لك
الأمثال، فأنت تستطيع أن تنظر في "سيرة ابن هشام" وغيرها من كتب السير والتاريخ، لترى من هذا كله الشيء الكثير. وأن أضرب لك مثلاً واحداً يوضح ما ذهبت إليه من أن بطون قريش كانت تحث على انتحال الشعر منافسة للأسرة المالكة، أموية كانت أو هاشمية". وذكر هذا المثل، فقال: "تحدث صاحب "الأغاني" بإسناد له عن عبد العزيز بن أبي نهشل، قال: قال لي أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام - وجئته أطلب منه مغرماً-: يا خال! هذه أربعة آلاف درهم، وأنشد هذه الأبيات الأربعة، وقل: سمعت حساناً ينشدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
وساق المؤلف القصة المعروفة في "الأغاني"(1)، وهي تنتهي بأن أبا بكر قال لعبد العزيز بن أبي نهشل: قل أبياتاً تمدح بها هشاماً -يعني: ابن المغيرة-، وبني أمية، فقال الأبيات العشرة المبدوءة ببيت:
ألا لله قوم و
…
لدت أخت بني سهم
ولما جاءه بها، قال له أبو بكر: قل: قالها ابن الزبعرى، قال: فهي الآن منسوبة في كتب الناس إلى ابن الزبعرى.
سرد المؤلف القصة، وقال:"فانظر إلى (أبي بكر بن) (2) عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام، كيف أراد صاحبه على أن يكذب، وينتحل الشعر على حسان، ثم لا يكفيه هذا الانتحال حتى يذيع صاحبه: أنه سمع حساناً ينشد هذا الشعر بين يدي النبي، كل ذلك بأربعة آلاف درهم". ثم قال: "فيتفقان آخر الأمر على أن ينحل الشعر عبد الله بن الزبعرى شاعر قريش.
(1)(ج 1 ص 30) طبع بولاق.
(2)
ساقطة من قلم الناسخ لكتاب (في الشعر الجاهلي).
ومثل هذا كثير".
إذا عثر المؤلف على قصة مصوغة في مثال رغبته، نسي (ديكارت)، ولعن منهج (ديكارت)، وًاخذ يحدثك بها حديث من شهدها بأذن تسمع، وقلب يفقه، ويد تلمس، وانطلق يبني عليها، وشمتنبط منها حتى يرضى.
القصيدة منسوبة في كتب الناس إلى عبد الله بن الزبعرى، ونقل صاحب "الأغاني" بسنده إلى محمد بن طلحة: أن عمر بن أبي ربيعة قائلها (1)، ونقل بسنده أيضاً عن (عبد العزيز بن أبي نهشل) أنه هو الذي قالها، وعزا إلى أبي بكر بن عبد الرحمن ما عزا.
ما وقف المؤلف على قصة أبي بكر هذا ومن يسميه (عبد العزيز بن أبي نهشل) حتى اعتنقها باليمين والشمال، وضمها إلى أشباهها مطوية على تحريفها الذي وقعت فيه نسخة "الأغاني"، وكذلك يفعل من يحاول التطاول على أمة جعل الله منزلتها فوق السماكين.
هل وجد أستاذ الآداب بالجامعة في غير هذه النسخة من الأغاني أن في الشعراء من يسمى (عبد العزيز بن أبي نهشل)؟ هو لا يعرف شيئاً عن هذا الذي يسميه (عبد العزيز بن أبي نهشل) سوى أن في نسخة "الأغاني" التي وقعت بين يديه أن صاحب هذا الاسم حكى قصة تحط من شأن أبي بكر بن عبد الرحمن، وتشتمل على انتحال شعر، وعزوه إلى ابن الزبعرى.
ورد في سند هذه القصة من كتاب "الأغاني" ما نصه: "عن عبد العزيز ابن أبي ثابت، عن محمد بن عبد العزيز بن أبي نهشل، عن أبيه
…
إلخ"،
(1)(ج 1 ص 31).
ففهم المؤلف أن محمد بن عبد العزيز روى عن أبيه عبد العزيز بن أبي نهشل: أنه قال له أبو بكر بن عبد الرحمن: يا خال! هذه أربعة آلاف
…
إلخ.
ولو كانت القصة ثابتة على هذا المساق، لكان في الشعراء من يسمى: عبد العزيز بن أبي نهشل؛ وفي الصحابة من يسمى بهذا الاسم أيضاً، ولكنك تبحث دواوين الشعر وكتب الأدب، فلا تجد شاعراً يسمى (عبد العزيز بن أبي نهشل)، وتفحص الكتب المبسوطة في إحصاء أسماء الصحابة واستقصاء آثارهم، فلا تجد صحابياً يسمّى: عبد العزيز بن أبي نهشل. وأصل العبارة في نسخ مخطوطة (1): "عن محمد بن عبد العزيز، عن ابن أبي نهشل، عن أبيه"، وكذلك جاءت في نسخة "الأغاني" التي نقل منها المؤلف، حين أعاد صاحب "الأغاني" الحديث عن القصة في (ص 31) بسند آخر ينتهي أيضاً إلى محمد بن عبد العزيز، عن ابن أبي نهشل.
وإذا وضعنا هذه القصة وسندها على محكّ النقد، اعترضنا في قبولها أمران:
أولهما: أن السند يدور على عبد العزيز بن عمران، وهو ابن أبي ثابت، وقد توارد أهل العلم على الطعن في روايته. قال يحيى بن معين في شأنه:"ليس بثقة، إنما كان صاحب شعر، ورأيته ببغداد، كان يشتم الناس، ويطعن في أحسابهم، ليس حديثه بشيء". وقال الحافظ أبو يحيى الذهلي: "عليّ بدنة (2) إن حدثت عنه حديثاً"، وضغفه جداً. وقال البخاري: "منكر الحديث،
(1) النسخة التيمورية، ونسخة مصطفى فاضل بدار الكتب (رقم 8 أدب م).
(2)
ناقة أو بقرة تنحر بمكة - "المعجم المدرسي" للأستاذ زين العابدين التونسي.