الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيه القدماء والمحدثون، وهذا عبد القادر البغدادي صاحب "خزانة الأدب" تكلم عن قصيدة:
أتوا ناري فقلت: منون أنتم؟
…
فقالوا: الجن، قلت: عموا ظلاما
وقصيدة:
أتوا ناري فقلت: منون أنتم؟
…
فقالوا: الجن، قلت: عموا صباحا
وقال: الأولى نسبت إلى سمير بن الحارث الضبي، والثانية منسوبة إلى جذع بن سنان الغساني، ثم قال:"وكلا الشعرين كذوبة من أكاذيب العرب".
فلم يكن المؤلف هو الذي عقل بطلان ما يزعم من أن للشعراء شياطين يلهمونهم الشعر، بل نبه عليه أناس من قبل أن يخلق (ديكارت)، ويوضع منهج (ديكارت). إذاً، لا تعد هذه النظرية في حساب ما وصل المؤلف إلى استطلاعه على منهج (ديكارت).
*
وجود الجن حقيقة:
قال المؤلف في (ص 70): "وفي القرآن سورة تسمى: "سورة الجن"، أنبأت بأن الجن استمعوا للنبي وهو يتلو القرآن، فلانت قلوبهم، وًامنوا بالله ورسوله، وعادوا فأنذروا قومهم، ودعوهم إلى الدين الجديد، وهذه السورة تنبئ أيضاً بأن الجن كانوا يصعدون في السماء يسترقون السمع، ثم يهبطون وقد ألموا إلمامًا يختلف قوة وضعفاً بأسرار الغيب، فلما قارب زمن النبوة، حيل بينهم ويين استراق السمع، فرجموا بهذه الشهب، وانقطعت أخبار السماء عن أهل الأرض".
وجود الجن حقيقة دلت عليها الآيات المحكمات، وليس في استطاعة من لا يؤمن بهذه الآيات أن يقيم دليلأ على نفيهم، ولو أصبحت عقليته غربية بحتة! وبُعث (ديكارت)، فابتدع له منهجًا أقرب من هذا المنهج وأجلى.
إن العقل وحده لا يستطيع أن يثبت كائناً يقال له الجن، كما أنه لا يستطيع نفيه بحجة، فوجود هذا الكائن خارج في نفسه عن حد الواجب والممتنع، وماذا بعد الواجب والممتنع إلا الإمكان؟ وما كان من قبيل الممكن في نفسه قد يدل على تحققه ما قام البرهان على صدقه، وهل بعد نبوة محمد عليه الصلاة والسلام من برهان؟! وإن شئت مزيد غَوص في هذه النظرية، فإليك السبيل:
إن للعلم الذي يعبر عنه باليقين معنيين:
أحدهما: ما ثبت على وجه لا يجيز العقل خلافه، ولو في صورة الاحتمال المجرد؛ كالاعتقاد بأن الكل أكبر من الجزء، وأن لهذا العالم صانعاً حكيماً. فكل ما يتهافت من الاحتمالات المخالفة لهذا الاعتقاد يجد من الدلائل النظرية ما يطرده، ولا يبقي له في ساحة التعقل باقية.
ثانيهما: اعتقاد بأمر لا يقوم في جانب خلافه احتمال يستند إلى مأخذ دليل أو أمارة، ولكن الاحتمالات المجردة عن المقتضيات ليس للعقل قوة على دفعها. وتجرد الاحتمال المقابل للمعلوم من الدلائل والأمارات لا يكفي في امتناع وقوعه، وجعل هذا المعلوم أمراً لا يتحول أو يطرأ عليها تغيير، بل لا بد من إقامة دليل خاص على أن هذا الأمر المعلوم أمر حتم، وأن خلافه ضرب من المحال الذي لا تتصور العقول وقوعه بوجه. واليقين بالنظريات
التجريبية لا يخرج عن هذا النوع الذي لا يرتفع عنه إمكان التغيير، بل قد تغيره يد الإبداع عند ما تريد إقامة المعجزة على سنّة غير مألوفة.
أتى على الإنسان حين من الدهر، وهو يعتقد أن الضياء الساطع في ظلام الليل لا يكون إلا من طلعة القمر، أو من لهب النار، فإذا آنس تحت جناح الليل نوراً يتألق بمكان بعيد، لم يرتب في أنه بهرة قمر، أو شعلة نار، وهذا الاعتقاد لا يبلغ في اليقين درجة اعتقاده بأن العرض؛ كالحمرة والبياض لا يستقل بنفسه، فإن هذا الاعتقاد الأخير مبني على أن ماهية العرض تقتضي بطبيعتها ألّا تبرز إلى الخارج إلا في محل وهو الجرم، فيدرك العقل بالضرورة أن البياض أو السواد لا ينفرد عن المادة، ويقضي بذلك قضاء لا يحوم حوله احتمال، وأما يقينه بأن ذلك الضياء نار أو قمر، فقائم على التجربة فقط، فلا يخلو من احتمال أن يكون الضوء غير قمر أو نار، إلا أنه احتمال لم يكن له في العهد المتقدم وجه من النظر حتى يحل من اليقين الذي عقدته التجربة، وقد أصبح ذلك الاحتمال اليوم متحققاً في العيان حيث انضم إلى القمر والنار عنصر من عناصر الإنارة، وهي الكهرباء.
فلو لم يخترع الفيلسوف التنوير بالنار، وكان فيما نقل من معجزات الرسل إنارة بعض الأجرام من غير أن تمسه النار، لقال الذين في قلوبهم مرض: إن الإنارة إنما تنشأ عن لهب النار، ولا سبيل إلى تحقق الأثر متى فقد سببه.
زعم بعض المرتابين في المعجزات: أن قطع المسافة البعيدة كما بين المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في ليلة واحدة أمر لا يحتمله الإمكان، ولا يتقبله العقل، ولو ناظرتهم في وجه الامتناع عقلاً، لم يكن منهم سوى
أن يحيلوك على المشاهدة، ويقولوا: إنا نرى أن أسرع الأجسام تنقلاً يقضي في قطع تلك المسافة ليالي وأيامًا. وهذا الأمر الذي كانوا يذكرونه بوصف المحال قد كشف العلم الصحيح عن إمكانه، وأخرجه للناس في جملة الكائنات المبصرة. وإذا تمكن المخلوق باختراع الطيارة أن يجعلك تقطع المسافة البعيدة في مدة وجيزة، فماذا يكون شأن قدرة الخالق التي هي أبدع تقديراً، وأحكم صنعاً؟!.
وكان أشباه الفلاسفة يعتقدون أن الوزن من خصائص ما يوصف بالخفة والثقل من الأجسام، وقالوا: لا نفهم لوزن الأعراض معنى؛ إذ ليس من المعقول تناولها من معروضاتها، ووضعها في كفة ترتفع تارة، وتنخفض مرة أخرى، وما راعهم إلا أن صنع الفيلسوف ميزان الحرارة والبرودة، وأراهم أن وزن الأعراض من قبيل الممكنات، وأن للوزن طرقاً غير ما تعرفه الباعة في الأسواق.
يهون علينا أن يقف عبّاد الطبيعة موقف المطالب ببرهان على وجود الخالق، أو إثبات الرسالة، ولكن الذي يثير العجب في نفوسنا، ويحشرهم في زمرة المستضعفين من الرجال والولدان، أن يخرجوا في زي الفلاسفة، ويمسحوا ألسنتهم بطلاء من المنطق، ثم لا يلبثوا أن يصفوا كل ما لا تناله حواسهم بكونه محالًا، ويزعموا أن صدر الفلسفة يضيق عن احتماله، كأن دائرة الإمكان والفلسفة لا تسع إلا ما يرد إليها من طريق الحس والتجربة.
كشف فيلسوف هذا العصر الغطاء عن كعير من الحقائق التي كانت أذناب الفلاسفة تعجل إلى إنكارها، ولا تبالي أن تلقبه باسم ما لا يكون.
ولو قال النبي عليه الصلاة والسلام: إن في هذا الماء الذي