الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كانا صديقين يتصيدان بأكلُب لهما، فقال القرشي لصاحبه:
ازجركلابك إنها قلطية
…
بُقع ومثل كلابكم لم تصطد
فرد عليه ابن حسان:
من كان يأكل من فريسة صيده
…
فالتمر يغنينا عن المتصيد
إنا أناس ريقون وأمكم
…
ككلابكم في الولغ والمتردد
حزناكم للضبّ تحترشونه
…
والريق يمنعكم بكل مهنّدِ
وعظم الشر بين الصديقين من ذلك اليوم".
لعلك تقرأ هذه الجمل، فينساق ذهنك إلى أن صاحب "الأغاني" لم يعرج على السبب الذي اعتمده المؤلف، وأن المؤلف استمده من كتاب غير "الأغاني"، والواقع أن صاحب "الأغاني" -بعد أن حكى ما يعزى إلى الأنصار وقريش في سبب تهاجي الشاعرين- قال: وأما هشام بن الكلبي، فإنه حدّث عن خالد د سحاق ابني سعيد بن العاص: أن سبب التهاجي بينهما: أنهما خرجا إلى الصيد بأكلب لهما في إمارة مروان، فقال ابن الحكم لابن حسان: "ازجر كلابك
…
إلخ" (1).
والمؤلف يأخذ في بعض الأحيان بهذه الطريقة، وهي أنه يقطع الرواية عن "الأغاني"، ويأتيك ببقية الحديث في صورة المعروف في غيرها، حتى لا تعده ضيفاً ثقيلاً يأوي إليها كلما احتاج إلى رواية تبلّ صدى عاطفته.
*
عقوبة الشاعرين جزاء تهاجيهما:
أراد المؤلف ألا يبقي صبابة من حديث عبد الرحمن بن الحكم،
(1)(ج 13 ص 151).
وعبد الرحمن بن حسان، فملأ نحو صحيفتين بحكاية بعث معاوية إلى سعيد ابن العاص يأمره بضرب كل واحد من الشاعرين مئة سوط جزاء تهاجيهما، وتعطيل سعيد أمر معاوية إلى أن خلفه مروان بن الحكم، فنفذ الأمر في عبد الرحمن بن حسان دون أخيه، وأبيات كتب بها عبد الرحمن بن حسان إلى النعمان بن بشير يشكوه فيها ما صنع مروان، وقصيدة النعمان التي خاطب بها معاوية في هذا الشأن، وبعث معاوية إلى مروان بتنفيذ أمره في أخيه عبد الرحمن بن الحكم أيضاً.
ثم قال في (ص 64): "ولقد يستطيع الكاتب في التاريخ السياسي أن يضع كتاباً خاصاً في هذه العصبية بين قريش والأنصار، وما كان لهما من التأثير في حياة المسلمين أيام بني أمية، لا نقول: في المدينة ومكة ودمشق، بل نقول: في مصر وإفريقيا والأندلس. ويستطيع الكاتب في تاريخ الأدب أن يضع سفرًا مستقلاً فيما كان لهذه العصبية بين قريش والأنصار من التأثير في شعر الفريقين الذي قالوه في الإسلام، وفي الشعر الذي انتحله الفريقان على شعرائهما في الجاهلية".
لا جناح على الرجل يعطف على قبيلته، ويحرص على أن يكون لهم مجد، وأن يكون لهذا المجد ذكر سائر، فهذا أمر تنساق إليه النفس بفطرتها، وقد قلنا: إن هذه الخصلة متى سارت على منهج الاعتدال، فحملت صاحبها على القيام بمصالح عشيرته، أو ذكر مآثرهم الحميدة، دون أن يتعرض لغيرهم بسوء، لا تعد من الحمية الممقوتة، ولا العصبية التي يريد الإسلام محوها.
وليس في تلك القصة على طولها وعرضها ما يقع في عين الموضوع،
وهو العصبية المشتدة بين قريش والأنصار، فمعاوية أمر بعقوبة الشاعرين: القرشي، والأنصاري، وسعيد بن العاص لم يجر العقوبة على واحد منهما، ومروان قد يكون انتقم لعبد الرحمن بن الحكم من جهة كونه ابن أبيه الحكم، لا من جهة أنه من قريش، وقد يفعل مثل هذا من يكون خالي الذهن من معنى التعصب للقبيلة، وشكاية عبد الرحمن إلى ابن بشير من قبيل الالتجاء إلى ذي وجاهة وقربى؛ ليرفع عنه مظلمة، وخطاب النعمان بن بشير لمعاوية عرض لقضية اضطهد فيها مروان عامله رجلاً من الأنصار، وإن سمّي مثل هذا تعصبًا، فهو من نوع التعصب المقبول، وقد انتهت الرواية بأن معاوية كتب إلى مروان بتنفيذ أمره في عبد الرحمن بن الحكم، فنفذه، ولم يعص له أمراً.
وفي الأبيات التي قيل: إن النعمان خاطب بها معاوية، ذكر ليومي بدر وفتح مكة، وإراءته الأنصار في كثرة عدد، وعزّة جانب، ولا حرج في رفع الشكاية بهذا الأسلوب إذا ألجأ إليه حال الدفاع، ولم يرتجف له قلب السياسة حمقاً، وتجنّ له يدها بطشاً.
ومن المحتمل القريب أن تكون قصة تهاجي ابن الحكم وابن حسان قصيرة ذات لون واحد، فأصبحت في كتاب "الأغاني" ذات ذيول وألوان مختلفة، وزادها المؤلف بتصرفه أصباغًا غريبة، وقد أوردها المبرّد في "الكامل"(1) بلون واحد، وجمل لا تشير إلى قصيدتي ابن حسان وابن بشير، فساق ثلاثة أبيات لابن حسان يهجو بها عبد الرحمن بن الحكم، ثم قال:
(1)(ص 149) طبع أوربا.
"فكتب معاوية إلى مروان أن يؤدبهما، وكانا قد تقاذفا، فضرب عبد الرحمن ثمانين، وضرب أخاه عشرين، فقيل لابن حسان: قد أمكنك من مروان ما تريد، فأشد بذكره، وارفعه إلى معاوية، فقال: إذاً والله! لا أفعل، وقد حدني كما تحد الرجال الأحرار، وجعل أخاه كنصف عبد. فأوجعه بهذا القول".
لا ينكر أحد أن الحمية المتطرفة ظهرت في عهد بني أمية، ولا يسلم أحد أنها بلغت بالعرب إلى مثل ما كانوا عليه من جاهليتهم، فضلاً عن أن يكون شراً منه، وهذا المؤلف يحكي أن معاوية لم يحد عن مبدأ المساواة حين أمر بتأديب القرشي والأنصاري، وحين أمر عامله بأن يضرب أخاه الأموي مقدار ما ضرب ابن حسان، وهل يستطيع المؤلف أن يقيم لنا شاهداً على أن عصبية قريش أو الأمويين في الإسلام بلغت عُشر عصبية هذه الدول أو الأمم التي يود أن يكون له في جوفه قلب آخر يملؤه باحترامها، ورأس ثان يهوي به ساجداً لعظمتها!.
إن من هذه الأمم، أو الدول القابضة على شمال أفريقية من يعتدي على حياة الوطني، ولا يقضى عليه ولو بالسجن بضعة أيام، وإذا أنعمت النظر في عصبية هذه الدول أو الأمم، وقايسته بعصبية قريش الخارجة عن حد الاعتدال، وجدت بين العصبيتين فرقاً يكاد يشبه الفرق بين الحرية والاستبداد، أو العدالة والاضطهاد. وقد كانت عصبية الجاهلية تشبه في شدتها وآثارها عصبية هذه الأمم التي يقدس لها المؤلف، ولا تمتاز عنها بشيء إلا أنها كانت تخرج في غير نظام، بل رأينا سبعين مرة كيف تحمى عصبية المدنية، ويتخبطها الغضب، فتظهر في خلقتها الشوهاء، وتصبح أشبه بعصبية الجاهلية