الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
اللغة القحطانية واللغة العدنانية:
قال المؤلف في (ص 25): "على هذا كله يتفق الرواة، ولكنهم يتفقون على شيء آخر أيضاً أثبته البحث الحديث، وهو أن هناك خلافاً قوياً بين لغة حمير "وهي العرب العاربة"، ولغة عدنان "وهي العرب المستعربة"، وقد روي عن أبي عمرو بن العلاء: أنه كان يقول: ما لسان حمير بلساننا، ولا لغتهم بلغتنا".
أخذ المؤلف يذكر الشاهد الأقوى على اصطناع الشعر الجاهلي، وهو أن اللغة القحطانية غير اللغة العدنانية، والشعر المنسوب إلى بعض شعراء اليمن لا يختلف عن شعر العدنانية، وهذا مما استشهد به (مرغليوث) قبله، وكاد أثق بأن المؤلف استعاره منه، قال (مرغليوث) في مقاله المنشور في "مجلة الجامعة الآسيوية":"هنا دليل لغوي واضح من هذه الأشعار، وهو أنها كلها مكتوبة بلهجة القرآن"، وقال:"إذا فرضنا أن الإسلام أرغم قبائل جزيرة العرب على توحيد لغتهم بتقديمه مثالاً أدبياً لا يقبل الجدل في جودته وعلو شأنه، وهو القرآن، فمن الصعب اعتقاد أن يوجد قبل هذا العامل الحيوي لغة عامة لقبائل الجزيرة تختلف عن لغات المخطوطات الأثرية، إن لهجة كل قبيلة تمتاز بمفرداتها ونحوها، وإننا لنجد جميع المخطوطات في هذه الأنحاء مرسومة بلغة أخرى غير لغة القرآن".
لا ننازع فيما دلت عليه الآثار المخطوطة من أن اللغة القحطانية كانت كلغة أجنبية عن العدنانية، كما أن (مرغليوث) والمؤلف لا ينازعان في أن اللغتين اشتد الاتصال بينهما بعد ظهور الإسلام، وأصبحتا كلغة واحدة. والذي نراه قابلاً لأن يكون موضع جدال بيننا وبين (مرغليوث) والمؤلف،
هو حال الاختلاف بين اللغتين في عهد يتقدم ظهور الإسلام بعشرات من السنين، فنحن لا نرى ما يقف أمامنا إذا قلنا: إن الاختلاف بين اللغتين قد خف لذلك العهد، وزال منه جانب من الفوارق، ولم تبق القحطانية من العدنانية بمكان بعيد.
والذي جعل اعتقادنا يدنو من هذه النظرية وهي خافضة جناحها: أن قبول اللغة القحطانية لأن تتحد مع اللغة العدنانية بعد ظهور الإسلام لا يكون إلا عن تقارب وتشابه هياهما لأن يكونا لغة واحدة؛ فإن انقلاب لغة إلى أخرى تخالفها في مفرداتها وقواعد نحوها وصرفها ليس بالأمر الميسور، حتى يمكن حصوله في عشرات قليلة من السنين.
يقولون: إن بعض هذه المخطوطات كان من آثار المئة الخامسة بعد المسيح، وهذا لا يخدش فيما نراه قريباً، بل لا يقف في سبيلنا أن يكون هؤلاء المنقبون قد عثروا على أثر مخطوطافي أواسط المئة السادسة بعد المسيح، فاللغتان كانتا في تباعد، والشواهد قائمة على أنهما قد أخذتا في التقارب من قبل أن يطلع في أفقهما كوكب الإسلام. ومن السهل علينا أن نفهم أن تقرب اللغة القحطانية من اللغة العدنانية لم تبتدئ به قبائلها في عهد واحد، بل سبقت إليه القبائل المجاورة للعدنانية، ثم أخذ يتدرج فيما وراءها من القبائل رويداً رويداً إلى أن أدركها الإسلام، فخطا بها تلك الخطوة الكبرى، فالوقوف على أثر مخطوط قبل الإسلام بنحو مئة سنة أو ما دونها، إنما يدل على أن سكان الناحية التي انطوت على هذا الأثر لم يزالوا على لسان حمير القديم، وهذا لا ينفي أن يكون غيرها من القبائل القحطانية قد ارتاضت ألسنتهم بلغة تشبه اللغة العدنانية في نحوها وصرفها،
وتختلف عنها في قسم من الألفاظ المفردة أسماء أو أفعالاً.
ومن الممكن القريب أيضاً أن يكون أهل المكان الذي عثر فيه على هذه المخطوطات الأثرية ينطقون باللغة القريبة من اللغة العدنانية، ولكنهم استمروا في الكتابة على لغتهم التي كانت اللسان الرسمي لسياستهم أو ديانتهم، وقد حكى التاريخ لهذا الوجه نظائر تسمو به إلى درجة القبول. فاللغة البابلية تفرعت إلى عدة لغات، من بينها اللغة الآرامية، وبقيت مع هذا الاختلاف لغة الكتابة إلى أن قامت اللغة الآرامية مقامها في السياسة والتجارة. وكذلك يقول جرجي زيدان في الحديث عن الأنباط:"أما لسانهم الذي كانوا يتفاهمون به، فإنه عربي مثل أسمائهم، ولا عبرة بما وجدوه منقوشًا على آثارهم باللغة الآرامية؛ فإنها لغة الكتابة في ذلك العهد مثل اللغة الفصحى في أيامنا، وذلك كان شأن الدول القديمة بالشرق، ولا سيما فيما يتعلق بالآثار الدينية أو السياسية"(1).
ومما يلائم هذا البحث: أنك تجد في السيرة النبوية أمثلة من أقوال زعماء اليمانيين الوافدين على النبي صلى الله عليه وسلم، فتراها قريبة من اللغة العدنانية، أو مماثلة لها من جهة قواعد الصرف والنحو، ولا أريد باقوال هؤلاء الزعماء ما يحكيه المؤرخ بقصد إفادة معانيه كما يحكي لك كلاماً أعجمياً بلفظ عربي مبين، بل أريد بها: ما يحكيه الرواة قصداً إلى بيان لهجتهم وأسلوب حديثهم.
ومن هذه الأمثلة خطبة طهفة بن أبي زهير (2) النهدي حين وفد على
(1)"العرب قبل الإسلام"(ص 79).
(2)
منسوب إلى نهد قبيلة باليمن.
النبي صلى الله عليه وسلم، وقال يشكو إليه الجدب: "يا رسول الله! أتيناك من غوري تهامة بأكوار الميس (1)، ترتمي بنا العيس، نستحلب الصبير (2)، ونستخلب الخبير (3)، ونستعضد البرير (4)، ونستخيل الرهام (5)، ونستحيل (6) الجهام، من أرض غائلة النطاء (7)، غليظة الوطاء، قد نشف المدهن (8)، ويبس الجعثن (9)، وسقط الأملوج (10)، ومات العسلوج (11)، وهلك الهدي (12)، ومات الودي (13)، برئنا إليك يا رسول الله من الوثن والعنن (14) وما يحدث الزمن، لنا دعوة الإسلام وشرائع الإسلام ما طما البحر وقام تعار (15)، ولنا نعم همل أغفال
(1) شجر صلب يعمل منه رحال الإبل.
(2)
السحاب.
(3)
العشب، واستخلابه: احتشاشه بالمخلب؛ أي: المنجل.
(4)
ثمر الأرك.
(5)
الأمطار الضعيفة؛ أي: نتخيل الماء في السحاب القليل.
(6)
السحاب الذي فرغ ماؤه، والمعنى: لا ننظر إلى السحاب في حال إلا إلى جهام.
(7)
البعد.
(8)
الغدير.
(9)
أصل النبات.
(10)
ورق الشجر.
(11)
الغصن.
(12)
ما يهدى إلى الحرم من النعم، ثم أطلق على الإبل، وإن لم تكن هدياً.
(13)
فسيل النخل.
(14)
الباطل.
(15)
اسم جبل.
ما تبل ببلال، ووقير (1) كثير الرَّسل (2)، قليل الرِّسل (3)، أصابتها سنة حمراء مؤزلة (4) ليس لها علل ولا نهل".
وتجد خطاب مالك بن نمط الهمداني يجري على هذا النحو.
ويروي أصحاب الحديث والسيرة أيضاً بعض كتب كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث بها إلى نواحي اليمن مصوغة في مثال كلامهم، وهي لا تكاد تخرج عن نمط هذه الخطبة المضروبة مثلاً. وقد يسوق علماء اللغة شذرًا من هذه الأحاديث، كما حكى الأزهري في كتاب "التهذيب" عن وائل بن حجر: أنه قال: كتب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا جلب ولا جنب ولا وراط، ومن أجبى فقد أربى".
ومما يلفت نظرك إلى أن لغة القبائل اليمانية أخذت تتصل باللغة العدنانية قبل عامل الإسلام: أنك تطالع تاريخ العهد المتصل بالإسلام، أو الأيام التي جعلت القبائل اليمنية تفد على مقام النبوة، فتفهم من روح التاريخ -على اختلاف مصادره، وتباين طرقه-: أن العدنانيين والقحطانيين لم يكونوا في حاجة عندما يتحاورون إلى مترجم ينقل حديث أحدهما إلى الآخر، ولو كانت اللغتان مختلفتين في المفردات، وقواعد النحو والصرف، لم يسهل على العدناني أو القحطاني فهم لغة الآخر، إلا أن يأخذها بتعلم، أو مخالطة غير قليلة.
(1) القطيع من الغنم.
(2)
التفرق.
(3)
اللبن.
(4)
آتية بالأزل؛ أي: القحط.