الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دولة ذات عصبية جاهلية لو بسطت يدها على أمم أكثر من قبيلتها عدداً، وليست أقل منها علماً وخلقاً.
للعصبية أثر في سقوط دولة بني أمية، وكبر سبب في سقوطها ذلك الحزب الذي يرى أن بني هاشم أحق بالخلافة، وأخذ يبدو تارة، ويحتجب تارة أخرى، حتى وقعت الدولة في ترف، وفقدت الرجال القوامين على الحروب، وبعدت عن خطة الخلافة الرشيدة، فنهض هذا الحزب، وسرعان ما جمع حوله شعوباً وقبائل تنقم على تلك الدولة خلل سياستها، فافتكّ منها الخلافة، ووضعها في أيدي بني العباس.
فدولة بني أمية -على ما كان فيها من عصبية أو هوى- قد خدمت الإسلام بفتوحات واسعة، وكان لكثير من رجالها مآثر عمرانية فاخرة، ولا تنس أن من رجال تلك الدولة من يبرأ من العصبية، ولم يأت في سياسته على ناحيتها؛ كعمر بن عبد العزيز، ومنهم من كان يغمرها بالهمم الكبيرة، والقيام على كثير من المصالح العامة؛ كالوليد بن عبد الملك.
فنسبة سقوط دولة بني أمية إلى العصبية وحدها، من نوع المبالغة التي لا تقبلها المباحث العلمية، ودعوى أن العرب وقعت بعد عمر بن الخطاب في أشد مما كانوا عليه في جاهليتهم، لا تصدر إلا ممن يريد إذاية هذه الأمة الكريمة، وجحود ما كان لها من مزية وفضل، حتى على هذه الدول الغربية التي يود المؤلف أن يكون له لسان آخر وقلم ثان يصرفهما في سبيل الدعوة إلى ما ينفعها.
*
رواية الشعر الجاهلي:
قال المؤلف في (ص 65): "وقد أرادت الظروف أن يضيع الشعر
الجاهلي؛ لأن العرب لم تكن تكتب شعرها بعد، وإنما كانت ترويه حفظاً. فلما كان ما كان في الإسلام من حروب الردة، ثم الفتوح، ثم الفتن، قتل من الرواة والحفاظ خلق كئير. ثم اطمأنت العرب في الأمصار أيام بني أمية، وراجعت شعرها، فإذا كثره قد ضاع، وإذا أقلّه قد بقي".
بحث (مرغليوث) في طريق تلقي هذا الشعر الجاهلي، فقال: أول ما نسأل عنه: طريق وصول هذا الشعر إلى الرواة؛ هل هو الرواية حفظاً، أم الكتابة؟ والرأي الأول هو الذي يذهب إليه الجمهور، وينقلون عن الخليفة الثاني: أنه قال: "تشاغل العرب عن الشعر وروايته في صدر الإسلام بالجهاد، ولما جاءت الفتوح، واطمانت العرب، راجعوا رواية الشعر، فلم يؤُولوا إلى ديوان مدوّن، ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك، وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عنهم منه كثير".
ثم قال (مرغليوث) منتقداً هذا المقال الذي يعزى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "من العبث نسبة هذا القول للخليفة الثاني؛ لأن زمن السلم لم يحن إلا في عهد الأمويين؛ أي: بعد موته بثلاثين سنة". ثم قال: "وبقاء قصائد تروى حفظاً غير متيسر، إلا إذا كان هنالك أشخاص وظيفتهم حفظها، وتعليمها لغيرهم باستمرار، وليس لدينا أي دليل على أن هنالك أشخاصاً يقومون بهذه الوظيفة، كما أنه من المستحيل أن ينجوا من حروب الفتوحات الإسلامية الأولى".
وهذان النقدان من صنف آراء "كتاب في الشعر الجاهلي". والأول مدفوع بأنه يكفي في صحة المقال فتح الشام والعراق والفرس ومصر، وذلك كله مما تم في عهد الخليفة الثاني، وقد اقتصر في المقال على هذا، فقال:
"وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم"(1)، وحيث أصبحت هذه الممالك مع الجزيرة العربية في أمن وسلم، فلا شيء يمنع المقيمين بها من الرجوع إلى الشعر، وصرف الهمة في روايته، ونحن نرى أن رواية الأشعار لم تنقطع حتى في الأيام التي استعرت فيها نار الحرب بين المسلمين ومشركي الجزيرة، وغاية ما طرأ على الرواية: أن خمل سوقها، وذهل أكثر الناس عنها، وليس الشعر بعمل يدوي حتى يقال: إن العرب نكثوا أيديهم منه جملة، ووضعوها في قبضة الحسام والعنان، وإنما هو عمل اللسان، فيصح أن يكون سلوة النازح عن وطنه، وسمر من يبطئ عنه نعاسه، وليس من البعيد أن يتناشدوه قبيل الزحف، وعقب الظفر، ففي الشعر ما يحمل على الثبات، وفي الشعر ما يلقي بالنفوس في معترك المنايا، وفي الشعر ما يقلب الجبان بطلًا لا يرهب الردى.
وأما قول (مرغليوث): إن رواية الأشعار حفظاً لا تتيسر إلا إذا كانت وظيفة أشخاص يقومون عليها باستمرار، فمنشؤه الذهول عن عناية العرب بالشعر، وشغفهم بروايته، حتى أصبحت صناعة بالغة من الرواج إلى أن لا يحتكرها فريق معلوم، ودعواه أن الحروب الأولى حصدت كل من يروي شعراً عن الجاهلية، ملقاة على غير بينة، بل على غير روية، إذ من البديهي أن الحروب لم تسحق الجيوش الفاتحة على بكرة أبيها، فمن الجائز أن يبقى في هؤلاء الجنود الظافرين من يروون شعراً كثيراً، ولا سيما حيث نلحظ أن الرواية لا ينقطع معينها، ولا يسكن ريحها، ولو بين القوم الذين يصلون نار الحرب بكرة وعشيّا، قال الإمام عليّ في خطبة خطبها أهل الكوفة: "إذا
(1)"مزهر"(ج 2 ص 237).
تركتكم، عدتم إلى مجالسكم حلقاً عزين، تضربون الأمثال، وتناشدون الأشعار".
ثم قال (مرغليوث): "إن القرآن قد ذمّ الشعراء في قوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء: 224 - 225]، وهذا الذم يكون من أقوى الدواعي إلى الانصراف عن الشعر وتناسيه، وهناك سبب آخر، وهو أن أكثر الأشعار الجاهلية كانت تشتمل على مفاخر قومية، وحيث كانت غاية الإسلام توحيد الأمة العربية -وقد أفلح في ذلك-، كان بالطبع يحتم على الناس تناسي كل قول يثير الأضغان، ويهيج الأحقاد".
ذمُّ القرآن للشعراء قد فهمه أهل العلم على الشعر المشتمل على زور، أو مناهضة حق، وما عداه، فمأذون في إنشاده، قال النبي عليه الصلاة والسلام:"إن من الشعر حكمة"(1). وقال: "أصدق كلمة قالها الشاعر: كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل"(2). ومن الثابت أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتناشدون الأشعار. فقد أخرج ابن أبي شيبة بسند حسن عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منحرفين، ولا متماوتين، وكانوا ينشدون الأشعار في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيء من دينه، دارت حماليق عينيه.
وروي من طريق عبد الرحمن بن أبي بكر، قال: كنت أجالس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي في المسجد، فيتناشدون الأشعار، ويذكرون حديث الجاهلية.
(1)"الجامع الصحيح" للبخاري.
(2)
"الجامع الصحيح" للبخاري.
وأخرج أحمد، والترمذي وصححه، من حديث جابر بن سمرة، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتذاكرون الشعر، وحديث الجاهلية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينهاهم، وربما يبتسم (1).
ولا يمنع الإسلام من إنشاد أشعار تشتمل على مفاخر قومية، إلا أن تنطوي على هجاء يتأذى منه بعض السامعين؛ كالأشعار التي نهى عمر بن الخطاب عن إنشادها.
ثم تصدى (مرغليوث) للبحث في الطريق الثاني -وهو الكتابة-، فقال:"بقي لدينا أن يقال: إنها كانت تنقل على طريق الكتابة، ولو صح زعم أن هذه القصائد كانت عندما تنشد، ويعجب الناس بها، يكتبونها، ويسألون عن منشئها، لكان من البديهي أن تنقل صور هذه الصحائف، وتباع حتى يستفيد منها أربابها".
الشعر الجاهلي مرويّ بطريق الحفظ، ومن الجائز أن تصل بعض الأشعار إلى الرواة على طريق الكتابة، والقصيدة تكتب في صحيفة أو صحيفتين، ولم يكن لأمثال هذه الصحف المفرقة قيمة ورواج، حتى يذكر التاريخ أنها كانت تباع، ويستفيد منها أربابها.
ثم قال (مرغليوث): "طالما جرى ذكر الكتابة في هذه القصائد، حتى إن بعض الشعراء ذكرها في شأن أشعاره نفسها، فالحارث بن حلزة ذكر (في البيت 67) من معلقته عقد معاهدات مسطورة على مهارق"(2).
(1)"فتح الباري"(ج 10 ص 411).
(2)
يعني قوله:
حذر الجور والتعدي وهل ينـ
…
ـقض ما في المهارق الأهواء
ويقول شاعر من هذيل:
فيها كتاب ذبر (1) لمقترئ
…
يعرفه البهم ومن حشدوا
ويقول شارحوها: أراد بذلك الكتابة الحميرية على جريد النخل.
ومن المروي: أن شاعراً اسمه قبيصة كتب على سرجه شعراً. كما أن ذا رعين أحد ندماء ملك حمير كتب لهذا الملك بيتين (2)، بيد أن نوع الكتابة غير معروف. وذو جدن ملك حمير الذي كشفت جتته الضخمة في صنعاء، وجد على رأسه لوح مسطور عليه شعر بلغة عربية فصحى (3)، وغالب الظن أنه هو الذي سطر هذه الأشعار.
والشاعر لقيط نظم شعراً عنوانه:
كتاب في الصحيفة من لقيط
…
إلى من بالجزيرة من إيادِ
والشعر في تحذيرهم من حملة يدبرها ملك الفرس ضدهم (4).
(1) الذبر: الكتابة بالحميرية على العسيب.
(2)
هما:
ألا من يشتري سهراً بنوم
…
سعيد من يبيت قرير عين
فإن تك حمير غدرت وخانت
…
فمعذرة الإِله لذي رعين
(أغاني)(ج 20 ص 8).
(3)
"الأغاني"(ج 4 ص 38)، والمكتوب في اللوح سجع، وأورد له في (ص 37) بيتين:
ما بال أهلك يا رباب
…
خزراً كأنهم غضاب
إن زرت أهلك أو عدوا
…
وتهر دونهم كلاب
(4)
"الأغاني"(ج 20 ص 24).
وأنشد شاعر جاهلي قطعة من كتاب أملاه عليه آخر كما في "ديوان هذيل"(1).
ثم قال: "إذاً، من الممكن صحة نسبة هذا الشعر إلى الجاهليين؛ حيث نفرض أنها كانت تكتب، وتنشر بانتظام، ولكن وجود أدبيات مسطورة قبل الإسلام بقلم حميري، أو بخط آخر، يناقض نصوص القرآن حين يقول للعرب: {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} [القلم: 37] القلم: 37، ويقول: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} [الطور: 41]. ولو أن الشعر الجاهلي كان محفوظاً في كتاب، لثبت أن للجاهليين جملة كتب مهمة، وسؤال القرآن وإنكاره يدل على عدم وجودها".
وقد تعرض (إدور براونلش) إلى هذه الشبهة في مقاله الصادر في "مجلة الأدبيات الشرقية"، ودفعها بما هو حق واضح، فقال:"القرآن يقول لأهل مكة: {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ}، و (مرغليوث) يرى أن هذا حجة قوية على أن الشعر الجاهلي في عهد محمد - صلوات الله عليه - لم يكن موجوداً، أو على الأقل لم يكن مدونًا، وإلا، لأجابه الخصوم بقولهم: نعم، وأروه جملة دواوين. ولكن لا يريد القرآن بنفي الكتاب عن أهل مكة أيّ كتاب كان، وإنما يريد: نفي كتاب مثل القرآن في معانيه، أو على الأقل يكون قريباً منه".
(1)(ص 115)، والشعر:
وإني كما قال مملي الكتا
…
ب في الرق إذ خطبه الكاتب
يرى الشاهد الحاضر المطمئـ
…
ـن الأمر ما لا يرى الغائب
فشبهة (مرغليوث) مدفوعة بأن القرآن إنما ينفي عن المشركين أن يكون لهم كتاب حكمة وهداية، وهذا لا يناقضه أن تكون لهم أشعار مخطوطة تحتوي على غزل أو فخر، أو مديح أو هجاء، أو وقائع حروب.
وصفوة البحث: أن الشعر العربي كان يُتلقى بالرواية حفظاً، ومن المحتمل أن يصل شيء منه إلى الرواة على طريق الكتابة، فقد رأيتم المؤلف يعترف بما رواه صاحب "الأغاني" من أن الأنصار كانت تكتب أشعارها، وحكى ابن جني في "الخصائص" (1): أن النعمان بن المنذر أمر، "فنسخت له أشعار العرب في الطنوج، قال: وهي الكراريس، ثم دفنها في قصره الأبيض، فلما كان المختار بن أبي عبيد، قيل له: إنّ تحت القصر كنزاً، فاحتفره، فأخرج تلك الأشعار". ولكن (مرغليوث) رأى ابن جني يسند هذه القصة إلى حمّاد الرواية، فقال:"إذا كان مصدر هذه الرواية حمادًا الرواية، فإنه لم يقصد بها إلا أن يظهر للناس أنه يعرف من أشعار الجاهلية ما لا يعرفه غيره".
وقد أورد ابن سلام في "طبقات الشعراء" ما يوافق هذه القصة، ولم يسندها إلى راوٍ بعينه، فقال:"وقد كان عند النعمان بن المنذر منه - الشعر- ديوان فيه أشعار الفحول، وما مدح به هو وأهل بيته، فصار ذلك إلى بني مروان، أو ما صار منه".
فمن يعتدّ بهذه الآثار يرى أن من الشعر العربي ما وصل إلى الرواة على طريق الكتابة، فإن لم تكن بالغة مبلغ ما يعبأ به، فإن اعتياد العرب
(1)(ج 1 ص 393).