الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن يتصوروهم في هذا الاتصال الشديد الذي يحاول تخييله إلى قراء كتابه.
*
الشعر الإسلامي أرقى من الشعر الجاهلي:
قال المؤلف في (ص 21): "وهم يبنون على هذا قضايا ونظريات، فهم يقولون: إن الشعر الجاهلي لم يتأثر بهذه المؤثرات الخارجية التي أثرت في الشعر الإسلامي، لم يتأثر بحضارة الفرس والروم، وأنىّ له ذلك؟! لقد كان يقال في صحراء لا صلة بينها وبين الأمم المتحضرة".
كأنَّ المؤلف ينكر أن يكون الشعر في الإسلام أرقى من الشعر زمن الجاهلية، ويحاول جحود المزية التي امتاز بها شعر الإسلاميين؛ من كثرة إبداع المعاني، والذهاب في الخيال إلى ما تنجذب له الألباب سحراً، وتخفق به الأفئدة طرباً، تلك المزية التي أحرزها الشعر الإسلامي لأسباب من أشدها أثراً هذه المدنية التي انقلب إليها العرب بفضل أدب الإسلام، واختلاطهم بالأمم، وشهود الحواضر حيث يرحلون وحيث يقيمون.
وقد كتب علماء الأدب في وجوه ارتقاء الشعر وأسباب إحكامه وإبداعه، فأجادوا النظر، وأمتعوا البحث. وإليك صفوة ما كتبوا؛ حتى يستبين لك الفصل بين الشعر الجاهلي، والشعر الذي أنشئ في الإسلام.
يهيئ الناشئ إلى إجادة النظم أن يعيش في بقعة جيدة الهواء، أنيقة المناظر، وأن يشب بين قوم انتبذوا في الفصاحة مكاناً قصيًا، "فقلما برع في المعاني من لم تنشئه بقعة فاضلة، ولا في الألفاظ من لم ينشأ بين أمة فصيحة"(1).
(1)"المناهج الأدبية" لحازم.
ثم هو لا يبرع في هذه الصناعة إلا أن تكون له قوة حافظة، وقوة مائزة، وقوة صانعة.
بالحافظة القوية يجد في نفسه صوراً كثيرة منتظمة واضحة، فيتأتى له أن يتناول منها ما شاء بأقل ملاحظة؛ "فإن المنتظم الخيالات كالناظم الذي تكون عنده أنماط الجواهر مجزأة محفوظة المواضع عنده، فإذا أراد أي حجر شاء، على أي مقدار شاء، عمد إلى الموضع الذي يعلمه فيه، فأخذه منه ونظمه"(1).
وبالقوة المائزة يتخير ما يلائم الغرض من تلك الصور والخيالات، أو من الألفاظ والأساليب.
وبالقوة الصانعة يؤلّف ما تخيره من الصور المناسبة والألفاظ اللائقة، حتى تجيء المعاني آخذًا بعضها برقاب بعض، وتجيء الألفاظ والأساليب في وضاءة وأحسن تقويم.
تختلف طبقات الشعراء على قدر اختلاف حظوظهم في هذه المهيئات والأسباب، فمن رزق جميعها، كان بالمنزلة العليا، ومن قل نصيبه فيها، وجدته على قدر ما فاته منها، فإما في الوسط، وإما في الدرجة الدنيا.
وإذا كانت هذه أصول إبدل الشعر، وارتفاع شأن الشاعر، فلنعقد موازنة بين العرب في الجاهلية، والعرب بعد الإسلام.
لا نتحدث عن المناخ من حيث هواؤه ومناظره الطبيعية؛ فإن مناخ العرب في الجاهلية هو مناخهم بعد الإسلام، أو قريب منه، ولا نتحدث
(1)"المناهج الأدبية".
عن القوة الحافظة أو المائزة أو الصانعة، فتلك مزايا يتداولها الفريقان، فلا فضل فيها لجاهلي على إسلامي، ولا لإسلامي على جاهلي إلا أن يشاء الله.
وإنما نلقي النظر في هذه الموازنة على أمرين يتفاضل بهما شعر الأفراد والطبقات، وهما: غزارة مادة الفصاحة، وكثرة ما يقع عليه نظر الناشئ من الصور الغريبة.
إذا كان الشعراء يتفاضلون بما يملكون من مواد الفصاحة، فإن اللغة العربية أخذت بالإسلام هيئة غير هيئتها الأولى، واتسع نطاقها لأسباب شديدة الأثر، ومن هذه الأسباب ما تراه في القرآن من نظم رائع وأسلوب حكيم، فالقرآن نهج في إرشاده ومواعظه أساليب لا يعهدها الفصحاء من قبل، وهذه حقيقة لا تستدعي إقامة شاهد، فقد أقر بها المؤلف نفسه في قوله:"إنما كان القرآن جديداً في أسلوبه"، وممن خاض هذا البحث، ونبه على تأثير القرآن والحديث النبويّ في رقي الشعر: العلامة ابن خلدون في "مقدمته"(1)، فسدد النظر، وأصاب المرمى.
ومما يدخل في هذه الأسباب: أن اجتماع العرب على اختلاف قبائلهم في هيئة أمة واحدة، جعل اللغة الأدبية التي هي لغة قريش تقتبس من لغات القبائل الأخرى أكثر مما كانت تقتبسه قبل الإسلام، فالطفل الذي يشبّ في بيئة هذه اللغة بعد امتلائها بالألفاظ الأنيقة والأساليب الفائقة، يكون محفوفًا من موارد الفصاحة بأكثر مما يتلقنه الطفل النابت في الجاهلية حيث لم يتسع نطاق اللغة إلى هذه الغاية القصوى.
(1)(ص 8).