الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الأمة العربية ليست كلها شاعرة:
قال المؤلف في (ص 96): "وكثرة هذا الشعر الذي صدر عن المصانع الشعرية في الأمصار المختلفة أيام بني أمية وبني العباس كانت سبباً في نشأة رأي يظهر أن القدماء كانوا مقتنعين به، وأن الكثرة المطلقة من المحدثين ليست أقل به اقتناعاً، وهو أن الأمة العربية كلها شاعرة، وأن كل عربي شاعر بطبعه وسليقته، يكفي أن يصرف همه إلى القول، فإذا هو ينساق إليه انسياقاً".
لا أرى أحداً يعتقد أن كل عربي شاعر بطبعه وسليقته، وإنما هي أسباب نظم الشعر تهيأت لهم، وسيّرته بألسنتهم، حتى صاغوه في كثير من المعاني المبذولة، والمخاطبات المعتادة.
ومن هذه الأسباب ما يرجع إلى سعة اللغة؛ من كثرة المترادفات، وأضراب المجاز والكنايات، ومنها ما يرجع إلى سعة الخيال، وحرية الفكر المكتسبتين من حياتهم في أوطان لا تعلوها سلطة قاهرة، أو قوانين مرهقة.
ويضاف إلى هذا: ما ثبت بطرق لا تحوم عليها ريبة، من أن العرب يكبرون الشعر، ويرفعون الشاعر إلى أسمى منزلة، وإحراز الشعر لهذه الحظوة مما يدفع الأذكياء منهم إلى التنافس في إجادة صنعه، ويدعو العامة إلى الاقتداء بهؤلاء، ولو على وجه التشبه بهم في إلقاء الكلام مقيداً بالوزن والقافية.
فليس كل العرب، ولا أكثرهم يقول الشعر الذي يغوص على حكمة، أو يأخذ في الخيال مذهباً، وليس ببعيد أن يكون كثرهم على استعداد لإيراد الكلام في صور النظم المنتهي بقافية، ولا سيما حيث تكون معرفة الطبقات بمفردات اللغة وأصول تأليفها متقاربة.
وكيف يقتنع القدماء وأكثر المحدثين بن الأمة العربية كلها شاعرة، وهذا ابن سلام يقول عن إسحاق:"فكتب في السير من أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعراً قط"؟.
وما كانوا يرون أن كل عربي يصرف همه إلى القول، فإذا هو ينساق إليه انسياقاً، فهذا ابن جني يقول في كتاب "الخصائص":(1)"وليس جميع الشعر في القديم مرتجلاً، بل قد يعرض لهم فيه الصبر عليه، والملاطفة له، والتلوم على رياضته وإحكام صنعته نحو ما يعرض لكثير من المولدين".
وروى الأصمعي في شرح ديوانه: أن ذا الرمة يقول: "من شعري ما ساعدني فيه القول، ومنه ما أجهدت فيه نفسي (2) ". وروى أن زهيرًا كان ينظم القصيدة في شهر، وينقحها في سنة، وكانت تسمى قصائده: حوليات زهير (3). ويروون عن العجاج أنه قال: لقد قلت أرجوزتي التي أولها:
"بكيت والمحتزن البكي"
وأنا بالرمل، فانثالت عليَّ قوافيها انثيالاً، وإني لأريد اليوم دونها في الأيام الكثيرة، فما أقدر عليه. وقال الفرزدق: أنا عند الناس أشعر الناس، وربما مرت علي ساعة ونزعُ ضرسي أهون علي من أن أقول شعراً.
إذا كان القدماء هم الذين رووا لنا هذه الآثار الدالة على أن من العرب من لم يقل الشعر قط، وأن منهم من ينظم القصيدة في شهر، أفيسوغ اتهامهم
(1)(ج 1 ص 330).
(2)
"خزانة الأدب"(ج 1 ص 379).
(3)
"خزانة الأدب"(ج 1 ص 376).
بأنهم يعتقدون أن الأمة العربية كلها شاعرة؟!.
ولعل المؤلف استند فيما اتهم به القدماء إلى مقال أنشاه الجاحظ في بيان مزايا العرب، داليك بعض هذا المقال (1):"وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكرة، ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف همه إلى الكلام، وإلى رجز يوم الخصام، أو حين يمتح على رأس بئر، أو يحدو لبعير، أو عند المقارعة والمناقلة، أو عند صراع، أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف همه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتاتيه المعاني إرسالاً، وتنثال عليه الألفاظ انثيالاً".
ونحن ندفع هذا بأنه كلام الجاحظ، وليس الجاحظ إلا واحداً من القدماء، وإن سلمنا أن الجاحظ هو كل القدماء، فهو إنما يرد على الشعوبية، فكان مقاله بمنزلة خطبة، أو قصيدة أنشئت للمديح والفخر، وهم يجيزون في فن المديح من المبالغة ما لا يجيزون مثله للكاتب الذي يبحث في التاريخ.
ثم إن الجاحظ لم يقل: كل عربي شاعر، وإنما قال: كل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، ويكفي لصدق هذا أن يكون شاعرهم ينظم ارتجالاً، ومن يخطب ولا يشعر يلقي الخطبة ارتجالاً، ويشهد بما نصف قوله في كتاب "البيان والتبيين" (2): "وفي الشعراء من يخطب، وفيهم من لا يستطيع
(1) البيان والتبيين.
(2)
(ج ص 117).