الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالهجاء، ويتخذونه سلاحاً لمحاربة دين الحق، كان من الحكمة البينة أن يكافَح أولئك الهجاؤون بسلاحهم، فأذن الرسول - صلوات الله عليه - لحسّان بن ثابت وغيره أن يجازي تلك السيئة بمثلها، وأخبر أن جبريل يؤيد حسانًا، وكذلك كانت العاقبة للذين انتصروا من بعد ما ظُلموا.
فليس من الصواب أن يخلى السبيل لتلك الأشعار الطاعنة، فتطرق كل أذن، وتحوم على كل قلب، دون أن تقف أمامها قوة تعمل على مثالها، فتكف بأسها، وتنفض عن الصدور وساوسها.
وما مثل تلك الأشعار الغاوية إلا كمثل ما يكتبه دعاة الإباحية اليوم من الطعن في الدين وتقويض بناء الفضيلة، أفيحق لحملة الأقلام الناصحة أن ينزووا في بيوتهم، ويدعوا هذه الطائفة تنفث من سموم غوايتها ما يفتك بالآداب والأعراض؟!.
أما تأييد جبريل لحسّان، فقد أخبر به من قامت الآيات البينات على صدقه، والمؤلف لا ينازع في أن عدم رؤية الشيء ليس دليلاً على عدم وجوده.
*
إسلام أبي سفيان:
ذكر المؤلف أن قريشاً جاهدت بالسنان واللسان، والأنفس والأموال، ولكنها لم توفق.
ثم قال في (ص 51): "وأمست ذات يوم وإذا خيلُ النبي قد أظلت مكة، فنظر زعيمها وحازمها أبو سفيان، فإذا هو بين اثنتين: إما أن يمضي في المقاومة، فتفنى مكة، وإما أن يصانع ويصالح، ويدخل فيما دخل فيه الناس، وينتظر لعل هذا السلطان السياسي الذي انتقل من مكة إلى المدينة،
ومن قريش إلى الأنصار أن يعود إلى قريش، وإلى مكة مرة أخرى".
سار النبي عليه الصلاة والسلام إلى فتح مكة في عشرة آلاف مجاهد بعد أن نبذ إليهم العهد على سواء، نزل بمرّ الظهران، فخرج أبو سفيان يلتمس الخبر، فاخذه حرس عليهم عمر بن الخطاب، وأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت العاقبة أن أصبح مسلمًا، وتألفه عليه السلام بقوله:"من دخل دار أبي سفيان، فهو آمن"، وكان يتألفه بالمال، ويذهب كثير من الرواة إلى حسن إسلامه، ومما يستدلون به على هذا: أنه شهد فتح الطائف، وهنالك فقئت إحدى عينيه بسهم أصابها من يد الأعداء، وشهد بعدها وقعة حنين، ثم وقعة اليرموك لعهد عمر بن الخطاب، ولو كان منافقاً، لقعد مع الخالفين، ولم يضق به الحال أن يلتمس عذراً، لا سيما إذ كانت السلطة العسكرية لذلك العهد لا تأخذ الناس إلى الجندية قهرًا، ولا تعاقب البُلُط (1) أو المتأخرين عن صفوف الحرب بالفصل بين الرؤوس والأعناق.
ويضاف إلى هذا: أن المنافق قلما استطاع أن يتصل بقوم ليسوا بأغبياء، ويعاشرهم حينًا من الدهر دون أن تظهر سريرته في لحظاته وبين شفتيه، وهذا شأن كل من يحمل سريرة سوداء؛ فإنه لا يملك مردّها، ويقوى على شد وكائها زمناً طويلاً.
فلو كان أبو سفيان منافقاً، لم يخفَ حاله على النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة المستنيرين المخلصين، ولو وُسم أبو سفيان بين هؤلاء بميسم النفاق، لكان أثره في التاريخ أوضح، وروايته أقوى. وقد تمرد على النفاق نفوس نشأت
(1) الفارّون من المعسكر.
في خمول، ولا يسهل على الذي يكبر في زعامة كأبي سفيان أن يقضي سنين في كفر يحوطه الكتمان من كل ناحية.
لندع المؤلف يتحدث عن أبي سفيان بما يشاء، فإنه يجد في بعض الكتب أثراً يساعده على أن يمس عقيدته وإخلاصه، وقد اعتاد التمسك بالروايات التي يكثر بها سواد المنافقين والمتهتكين، وإن كانت هباء، وإنما نريد مناقشته في شيء آخر وراء إخلاص أبي سفيان.
يقول المؤلف عن أبي سفيان: "وإما أن يصانع ويصالح، ويدخل فيما دخل فيه الناس، لعل هذا السلطان السياسي الذي انتقل من قريش إلى الأنصار أن يعود إلى قريش مرة أخرى".
نحن على يقين من أن المؤلف لم يتلق بطريق الرواية الصحيحة أو المصنوعة أن أبا سفيان احتمل هذه المصانعة رجاء أن ينتقل هذا السلطان السياسي من الأنصار إلى قريش. وإنما يحاول التشبه بفلاسفة التاريخ المستنبطين، وما هذا الاستنباط إلا من سقط المتاع الذي يقول له المؤرخ بيده هكذا، ويبعده عن ساحة تلاميذه؛ لأنه ناشئ عن عامل غير عامل الفكر، أو عن فكر لا يتمتع باستقلاله.
ينظر المؤرخ يوم فتح مكة، فيجد القائد الأعلى للجند الفاتح من صميم قريش، ويجد كثيراً من هذا الجند لا يمت للأوس والخزرج بنسب، وآخرين لا تزال بيوتهم التي ولدتهم بها أمهاتهم قائمة في بطحاء مكة، ولا يزال آباؤهم أو إخوانهم يغدون من هذه البيوت القائمة وإليها يروحون، وما الأوس والخزرج إلا فرقة من جند تألف حول ذلك القائد القرشي، فالسلطان يوم فتح مكة في يد قريش، ومن البعيد أن يخطر على بال أبي