الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفلسفي الذي استحدثه (ديكارت) للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث".
من المتحزبين لمنهج ديكارت "من استخرج منه نتائج على هوى ذوقه، وبنى عليه مذاهب بعيدة عنه مثل: (مالبرنش) و (سبينوزا)، و (فردلا)، ومنهم من اقتصر على التمسك بأفكار (ديكرت)، والاعتماد على نظامه؛ ليحاموا عن الحقيقة الدينية والأدبية؛ مثل: (أرنود)، و (بوصويه)، و (فنلون)، وبعضهم اتخذه عثرة في سبيل العقائد مثل: (بايل) "(1).
وإذا سبق لأناس أن أشربوا حب منهج (ديكارت)، واستخرجوا منه نتائج على هوى أذواقهم، أو اتخذوه عثرة في سبيل العقائد، وجب علينا ألا ننخدع لما وعد به المؤلف من أنه سيصطنع هذا المنهج الفلسفي، وحق علينا أن نحترس من أن يتبع خطوات (سبينوزا)، فيفرغ لنا نتائج في قالب شهواته، أو يقتدي على آثار (بايل)، فيمد في طريق العقائد الصحيحة أسلاكاً شائكة.
*
تجرد الباحث من كل علم سابق:
قال المؤلف في (ص 11): "والناس جميعاً يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي: أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلواً تاماً".
إذا كان منهج (ديكارت) يرجع إلى أن الشك أساس الفلسفة وتعرّف الحقائق، وألّا يسلم بشيء إلا بعد أن يفحصه العقل، فإن هذا المنهج ليس
(1)"دائرة المعارف" للبستاني (8: 728).
بالغريب عند علماء الشرق، فالذين يدخلون في المباحث النظرية لا يستعملون إلا عقولهم غير قليل، وممن صرح بهذا المسلك: أبو حامد الغزالي حيث قال في "المنقذ من الضلال": "إن اختلاف الخلق في الأديان والملل، ثم اختلاف الأمة في المذاهب وكثرة الفرق، بحر عميق، غرق فيه الأكثرون
…
ولم أزل في عنفوان شبابي - منذ راهقت البلوغ إلى الآن، وقد أناف السن على الخمسين - أقتحم لجة هذا البحر
…
وأتفحص عقيدة كل فرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة؛ لأميز بين محق ومبطل، ومستن ومبتدع .. وقد كان العطش إلى درك الحقائق دأبي وديدني
…
وحتى انحلت رابطة التقليد وانكسرت عني العقائد الموروثة". وقد أفصح عن مثله الفيلسوف ابن خلدون، وحث على العمل عليه في التاريخ بوجه خاص حين قال في "مقدمته": "فهو (التاريخ) محتاج إلى مآخذ متعددة، ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق، وينكبان به عن المزلات والمغالط؛ لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم، والحيد عن جادة الصدق، وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في الحكايات والوقائع؛ لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً، لم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلّوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط".
وقال فيها أيضاً (1): "فإذاً يحتاج صاحب هذا الفن إلى العلم بقواعد السياسة، وطبائع الموجودات، واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق والعوائد، والنحل والمذاهب، وسائر الأحوال، والإحاطة بالحاضر من ذلك، ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق، أو بون ما بينهما من الخلاف، وتعليل المتفق منها والمختلف، والقيام على أصول الدول والملل، ومبادئ ظهورها، وأسباب حدوثها، ودواعي كونها، وأحوال القائمين بها وأخبارهم، حتى يكون مستوعباً لأسباب كل حادث، واقفاً على أصول كل خبر. حينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول، فإن وافقها، وجرى على مقتضاها، كان صحيحاً، وإلا، زيفه، واستغنى عنه".
ولا بدع أن ينبت الشرق رجالاً لا يستقبلون المطالب العلمية إلا بعقولهم، فإن من يتلو القرآن - ولو بغير تدبر - يعرف أن من مقاصد الإسلام: بعث العقول من مراقد الخمول، وتحريرها من أسر التقليد، فتراه يدعو بالبرهان وبيان الحكمة، غير مقتصر على الموعظة والمعجزات المشهودة، ويطالب ذوي الآراء المبتدعة بالحجة، ويذم كل من قلد في عقيدة ما له بها من سلطان.
والآيات المتضافرة في هذا المعنى قد نفخت في العقول روح التفكير، وانطلقت بها تخوض في كل علم، وتبحث في كل واقعة. فالمذهب الذي يرى للباحث أن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه، لا يسخط
(1)(ص 23).