الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
لهجات العرب والأوزان الشعرية:
قال المؤلف في (ص 35): "وإذا لم يكن نظم القرآن، وهو ليس شعراً، ولا مقيدًا بما يتقيد به الشعر، قد استطاع أن يستقيم في الأداء لهذه القبائل، فكيف استطاع الشعر، وهو مقيد بما تعلم من القيود، أن يستقيم لها، وكيف لم تحدث هذه اللهجات المتباينة آثارها في وزن الشعر وتقطيعه الموسيقي؛ أي: كيف لم توجد صلة واضحة بين هذا الاختلاف في اللهجة، وبين الأوزان الشعرية التي كانت تصطنعها القبائل؟ ".
إن كان المؤلف يكتب لأولي الألباب، فأولو الألباب لا ينزلون إلى فهم ما يقوله، إلا أن يأتي إلى الفوارق بين لهجات العرب، ويريهم كيف يأبى بعض هذه اللهجات أن يفرغ في الأوزان التي استقرأها الخليل. والفوارق التي ذكرها في القراءات مما تحتمله هذه الأوزان جميعاً، فإن أراد فوارق غيرها، واعتذر بأنه لا يعرفها، فخير له أن يكتم هذا البحث حتى يقف عليها، وتكون ملموسة له، أو كالملموسة، ثم يتحدث بها على بينة، ويجد يومئذ من أولي الأبصار سامعًا وظهيرًا.
*
القرآن لم يفرض على العرب لغة واحدة:
أورد المؤلف سؤالاً ملخصه: أن اللهجات استمرت قائمة بعد القرآن، وفي هذا العهد كانت القبائل تتعاطى الشعر، وإذا استقامت لهم أوزانه، مع اختلاف اللهجات بعد الإسلام، فما الذي يمنع من أن تستقيم لهم في العصر الجاهلي؟.
ثم قال كالمجيب عن هذا السؤال في (ص 35): "ولست أنكر أن اختلاف اللهجات كان حقيقة واقعة بعد الإِسلام، ولست أنكر أن الشعر قد استقام
للقبائل كلها رغم هذا الاختلاف. ولكني أظن أنك تنسى شيئاً يحسن ألا تنساه، وهو أن القبائل بعد الإسلام قد اتخذت للأدب لغة غير لغتها، وتقيدت في الأدب بقيود لم تكن لتتقيد بها لو كتبت أو شعرت في لغتها الخاصة؛ أي: أن الإسلام قد فرض على العرب جميعاً لغة عامة واحدة، وهي لغة قريش، فليس غريبًا أن تتقيد هذه القبائل بهذه اللغة الجديدة في شعرها ونثرها، في أدبها بوجه عام. لم يكن التميمي أو القيسي حين يقول الشعر في الإسلام يقوله بلغة تميم أو قيس ولهجتها".
قال المؤلف فيما سلف (1): "قبل أن يفرض القرآن على العرب لغة واحدة"، وقال هنا:"إن الإسلام قد فرض على العرب جميعاً لغة واحدة هي لغة قريش"، والخبير بحقائق الإسلام يعرف أن القرآن أو الإسلام لم يفرض على العرب لغة واحدة، واختلاف القراءات القائم على اختلاف اللهجات شاهد صدق على أن الإسلام لم يكلف القبائل بترك لهجاتها، ولم يحملها على لغة "النبي وعشيرته من قريش". والواقع أن الوحدة العربية التي استحكمت حلقاتها بهداية الإسلام، وكون أكثر القائمين بالدعوة إلى هذه الهداية، والممثلين لسياستها ينطقون باللغة التي نزل بها القرآن، وكون القرآن أصبح متلواً بكل لسان، هذه الأسباب الثلاثة ذهبت بجانب عظيم من اختلاف اللهجات، وأصبحت اللغة الجارية على ألسنة العرب تقارب لهجة القرآن، فمان أراد المؤلف بفرض القرآن وفرض الإسلام هذا المعنى، وأغضينا عن هذا التعبير الذي يوهم طلاب الجامعة أن الإسلام يفرض على الناس لغة واحدة، كان معنى جوابه: أنه وجد سبب طبيعي لتوحيد تلك
(1)(ص 33).
اللهجات أو تقاربها، وهو واقعة الإسلام.
ونحن نعرف ما للإسلام من تأثير في تقارب اللهجات، وهذا لا يمنع من أن يكون سبب آخر طبيعي قد وجد قبل ظهور الإسلام، فساق ذوي العقول المنتجة من هذه القبائل إلى أن يشتركوا في لغة يصوغون فيها الأشعار والخطب مسجعة أو مرسلة، وقد ذكرناك بسبب يصح أن يكون السائق إلى هذه اللغة الأدبية، وهو فصاحة لسان قريش، وتلك المجامع التي كانت تنعقد حوالي مكة، وتؤمها القبائل للتفاخر بالأحساب، أو التنافس في حلبة البيان.
ضرب المؤلف لذلك الجواب ثلاثة مُثُل:
أولها: أن الدوريين كانت لهم لهجة وأوزان دورية، ولما ظهرت أثينا على البلاد اليونانية عامة، عدلوا عن لهجتهم وأوزانهم إلى اصطناع اللهجة والأوزان اليونانية، والنثر الأتيكي.
ثانيها: أن لكل إقليم في فرنسا لغة ذات قوام خاص، ومع ذلك، فأهل الإقليم إذا أرادوا أن يظهروا آثاراً أدبية، يعدلون عن لغتهم الإقليمية إلى اللغة الفرنسية.
ثالثها: أن في مصر لهجات وأوزاناً مختلفة، ومع هذا، فإن من ينظم الشعر الأدبي، ويكتب النثر الأدبي يعدل عن لهجته الإقليمية إلى هذه اللغة لغة قريش ولهجتها. وقد أخذت المؤلف عند ضرب هذا المثل نشوة فاتح البلاد بعد حروب عنيفة، فافتتحه بقوله في (ص 37):"وأنا أشعر بالحاجة إلى أن أضرب مثلاً آخر قد يدهش له الذين يدرسون الأدب العربي؛ لأنهم لم يتعودوا مثله من الباحثين عن تاريخ الأدب".
لندع البحث في هذه الجملة من جهة صلتها بنفس كاتبها، ودلالتها
على ازدهائه بما يسميه رأياً له، وإن كان مطروحاً في كل سبيل، ولا يحتاج الأحداث في فهمه إلى تلقين، وإنما نعرض لبحثها من حيث صلتها بالمثل الذي ألقاها في صدره؛ فإن إهمال نقدها من هذا الوجه "قد يدهش له الذين يدرسون الأدب العربي؛ لأنهم لم يتعودوا مثله من" الناقدين للحديث الذي يتغنى صاحبه بمديحه قبل أن يصل إلى آذان قرائه.
هل من أحد يقرأ أو يستمع إلى من يقرأ، لا يدري أن اللهجة التي يقال فيها الشعر، وتؤلف فيها الكتب غير اللهجة التي يتحاور بها الناس في شؤونهم الخاصة أو العامة؟! ومن ذا الذي يقرأ، أو يسمع مقالاً أو إعلانًا في هذه الصحف السيارة، أو قصيدة لأحد أدباء العصر، فلا يفرق بين لهجتها واللهجة التي يتحدث بها السوقة، أو ينظم بها بعض الأميين ما يسمونه:"زجلاً"؟.
فإن قال المؤلف: إنهم يدركون هذا الفرق، ولكنهم لا يستطيعون كما أستطيع ضربه مثلاً لحال العربية الفصحى مع بقية اللهجات بعد ظهور الإسلام، قلنا: إن ربط حال اللغة الفصحى في هذا العصر بحالها يوم ساد الإسلام، قد يحفل به الأطفال الذين لم يأخذوا في أذهانهم غير البديهيات، أما الذين يدرسون الأدب العربي، فلا أحسبهم يحفلون به، فضلاً عن أن يدهشوا له، فقد جالوا في نتائج عقول راقية، وألفوا من الآراء المستنبطة بحكمة وروية ما لا يُبقي لأمثال هذا الحديث في أعينهم قيمة ولا خطراً.
ولعل المؤلف رأى بعض طلابه في الجامعة العتيقة يقابلون ما كان من نوع هذا الحديث بالتصدية، فتخيل أنّ كل من يسمع حديثاً كهذا تقع به الدهشة على وجه الأرض أنَّى كان قائماً، ولم يستطع أن يكتم هذا الخيال،