الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وضعه- لم يكن له أثر في الدلالة على أن الشعر الجاهلي مزوّر مصنوع.
*
شواهد ابن عباس رضي الله عنه
-:
خرج المؤلف بعد هذا إلى الحديث عن ابن عباس رضي الله عنه، وأتى على قصة نافع بن الأزرق، ووسمها بميسم الوضع، ولم يستند في هذا الحكم إلا إلى أن تصديقها من السذاجة، وأن أهل الفقه لا يشكون في وضعها. ومرمى كلامه إلى إنكار أن يبلغ ابن عباس في حفظ الشعر منزلة تخوّله أن يجيب عن نحو مئتي مسألة في التفسير، ويسوق على كل مسألة بيتاً من الشعر، ثم ردد الغرض الداعي إلى وضعها على وجوه، وهي: إثبات أن ألفاظ القرآن كلها مطابقة للفصيح من لغة العرب، أو إثبات أن عبد الله بن عباس كان من أقدر الناس على تأويل القرآن، ومن أحفظهم لكلام العرب الجاهليين، أو إفادة معاني طائفة من ألفاظ القرآن في صورة قصة.
ثم خفف من غلوائه شيئاً، وقال في (ص 40):"ولعل لهذه القصة أصلاً يسيراً جداً، لعل نافعاً سأل ابن عباس عن مسائل قليلة، فزاد فيها هذا العالم، ومدّها حتى أصبحت رسالة مستقلة يتداولها الناس".
ليس بالبعيد عن ابن عباس أو غيره ممن يصرف ذهنه إلى رواية الشعر، أن يحفظ منه ما يحتوي نحو مئتي بيت تصلح للاستشهاد على تفسير طائفة من ألفاظ القرآن، وليس بالغريب أن يكون ابن عباس، أو ذو ألمعية كابن عباس، قد بلغ في سرعة الخاطر، وجودة الذاكرة أن يحضره البيت الصالح للاستشهاد عندما تطرح إليه المسألة، فقد رأينا من بعض أساتيذنا ما يجعل هذه القصة حادثاً غير خارق لسنّة الله في الخليقة، كنا نرى أستاذنا أبا حاجب يحفظ من الشعر الفصيح ما يجعله قادراً على أن يضرب منه المثل للمعاني
والوقائع التي تخطر في الحال، وتكاد لا تسأله عن معنى لفظ غريب، أو وجه من الإعراب، إلا أتاك بالشاهد على البداهة، أو بعد تأمل قريب، وقد يقول قائل: إن هذا الشأن أيسر من شأن ابن عباس؛ لأن ذلك الأستاذ قد حفظ تلك الشواهد من مثل "التسهيل"، و"المغني"، و"تاج العروس"، وغيرها من الكتب التي تربط الشواهد بمسائلها. أما قصة ابن عباس فيظهر منها أنه يتناول الشاهد من بين ذلك الشعر الكثير، ويضعه على المسألة مثلما يصنع المجتهدون في علم اللغة، وذلك يحتاج إلى بحث وأناة، فالجواب عن نحو مئتي مسألة بمثل تلك السرعة فيه غرابة تلفت النظر إلى القصة، أو تقدح الريبة في صحتها.
هذا البحث مقبول، ولكني أريد أن أقول: إن هذه الغرابة وحدها لا تكفي في الحكم على القصة بالوضع، فمن المحتمل أن يكون ابن عباس ممن يقضي جانباً من وقته في التماس الشواهد على تفسير الغريب من القرآن، حيث رأى الناس مقبلة، أو محتاجة إلى هذا النوع من العلم، فيكون جوابه عن مسائل ابن الأزرق نتيجة بحث سابق، وتأمل غير قليل، فلا غرابة أن يلقم ابن الأزرق الجواب عقب كل مسألة يطرحها عليه.
وإذا كانت الغرابة لا تكفي للقطع باصطناع هذه القصة، فلنذهب في البحث عنها من جهة الرواية، لعلنا نجد في البحث من هذه الجهة هدى.
روى ابن الأنباري في كتاب "الوقف والابتداء" نبذة منها بسند يتصل بمحمد بن زياد اليشكري عن ميمون بن مهران. وميمون بن مهران ثقة، ولو اطردت القصة مارة على رجال من مثله إلى ابن الأنباري، لم نجد مانعاً من دخولها في تاريخ الأدب الصحيح، ولكن محمد بن زياد اليشكري مطعون