الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ليس من الجاهلية في شيء، ولو شئنا أن نرجع إلى هذه الكتب القديمة التي تعنى بشؤون الأدب، لوجدنا فيها آثاراً تقول: إن زعيم أولئك المجاهدين عمر بن الخطاب كان أعلم الناس بالشعر، ولا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيت شعر. وتخبر هذه الآثار بأنه أنشد بين يديه قصيدة عبدة بن الطيب الطويلة التي على اللام، وقصيدة أبي قيس بن الأسلت التي على العين، وشعر لزهير، وكان يتلقى بعض أبيات هذا الشعر الجاهلي بالتعجب أو الإعجاب، وجاءت الرواية بأن هذا المجاهد العظيم قال وهو على المنبر:"أيها الناس! تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم؛ فإن فيه تفسير كتابكم"(1). وهذا سبيل واسع، ولسنا في حاجة إلى أن نذهب فيه إلى أبعد من هذه الغاية التي انتهينا إليها.
*
إننا أمة بحث ونظر:
قال المؤلف في (ص 183): "أما نحن، فمطمئنون إلى مذهبنا، مقتنعون بأن الشعر الجاهلي أو كثرة هذا الشعر الجاهلي لا تمثل شيئاً، ولا تدل على شيء إلا ما قدمنا من العبث والكذب والانتحال، وأن الوجه -إذا لم يكن بد من الاستدلال بنص على نص- إنما هو الاستدلال بنصوص القرآن على عربية هذا الشعر، لا بهذا الشعر على عربية القرآن".
قطع المؤلف عنا حديثه بهذه الكلمة التي تنكر الشعر الجاهلي، وليست هذه الكلمة إلا سلالة تلك الشبه الكثيرة الصخب والتلاطم، وهي على ما ينعتها به الناس من صفاقة وتخاذل لم تنشط قريحة المؤلف لأن تستنبط
(1)"الموافقات" لأبي إسحاق الشاطبي (ج 2 ص 5) طبع تونس.
مثلها، وإنما كان يتتبعها من هاهنا وهاهنا كما يصنع بعض ذوي الأفكار العقيمة من أنصار القديم، وأقوى هذه الشبه دلالة -كما يقول المؤلف- ذلك الذي يسميه: الدليل الفني اللغوي، وهو إنما دبّ إليه على حين غفلة من الناس، وسلَّه من مقال نشرته "مجلة الجمعية الآسيوية" للمستشرق (مرغليوث).
لا يعنينا أن يكون المؤلف أغار على ذلك المقال، أو أن خاطره وقع على ما وقع عليه خاطرُ هذا المستشرق كما يقع الحافر على الحافر؛ فإن النظرية في نفسها ساقطة، وشُبهها كما رأيتم خاسئة، والبحث الفني اللغوي الذي يبتدئ باختلاف اللغة العدنانية واللغة القحطانية، وينتهي باختلاف لغات القبائل العدنانية في نفسها، يكفي في سقوطه فرضُ أن تنشأ بين هذه اللغات المختلفة لغة يأخذ بها الشعراء والخطباء ألسنتهم، وقيام هذه اللغة الأدبية بين ذوي لغات تتفرع عن أصل واحد، ويرتبط أقوامها بصلة الجوار، وتبادل المرافق، والتقارب في العادات والآداب، يكاد يكون فرضه ضربة لازب، ولا سيما حيث انهالت الروايات الموثوق بها من كل جانب، وفتحت أفواها شاهدة بأنه كان أمراً واقعاً، ومن آثار شهادتها: هذه القصائد التي تروى لشعراء كندة وربيعة، وقيس وتميم. وقد بسطنا مناقشة هذا الدليل الفني في الفصول الماضية، على أن المؤلف قد نقض شطره، بل نقض أساسه من قبل أن نناقشه، فتقبّل قصيدتين لعلقمة، وعلقمة من تميم، وقال: إن أكثر هذا الشعر الذي يضاف لامرئ القيس محمول عليه، ومعناه: أن الأقل من هذا الشعر الذي يضاف إلى امرئ القيس اليمني من نسج قريحته، وليس فيما يضاف إلى علقمة أو امرئ القيس إلا ما هو مصوغ في هذه اللغة الأدبية.
وأما ما تحدث به المؤلف بعد هذا الدليل الذي هو في ظنه "أنهض حجة"، فمنه ما لا يدل على شيء، ولا يثبت شيئاً، ومنه ما لا يدل على أكثر من أن في هذا الشعر الجاهلي ما هو مختلق اختلاقاً، ولن تجد له على انتحال هذا الشعر كله أو كثرته المطلقة من دليل، أو ما فيه رائحة دليل.
يريد المؤلف أن يلقي في نفوس تلك الطائفة القليلة: أنه الداهية الذي ينال من الإسلام حتى يرضى، وما عليه إلا أن يقول كما قال في هذه الصحيفة: إنه يؤمن بعربية القرآن، ويجعل نصوصه مقبولة الشهادة على هذا الشعر الجاهلي. يقول هذا، وقد خادعته نفسه إذ خيلت له أن هذه الأمم الإسلامية تبلغ من السذاجة، ومن رؤيتها له بالمكان الأرفع، أن تطير فرحاً لرضاه عن القرآن، وتواضعه إلى أن يعتد بنصوصه، ويقبل شهادتها على أشعار الجاهلية الأولى.
إننا أمة بحث ونظر: نذهب مع العلم كل مذهب، ولا نقف لحرية الفكر في طريق، وإنما نحن بشر، والبشر تأبى قلوبهم إلا أن تزدري أقلاماً تثب في غير علم، وتحاصر في غير صدق، وإنما نحن بشر، والبشر تأبى لهم أقلامهم إلا أن تطمس على أعين الكلمات الغامزة في شريعة محكمة أو عقيدة قيمة.
{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم: 44 - 45].
(انتهى الكتاب والحمد لله رب العالمين)