الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التي ينظر بها إلى الأباعد، وإيثار أولئك بالمنافع، وإن كان هؤلاء أحق بها، أو أحوج إليها، وتقليدهم الأعمال، وإن كان غيرهم أقوم عليها، وهذه السيرة تستدعي بطبيعتها تنافراً بالقلوب، واسترخاء عقدة الإخاء، وتكوّن حزباً أو أحزاباً معارضة.
وقد أدركنا الأمة العربية وهي متصلة بالخلافة العثمانية اتصال الأنامل بالراحة، حتى قام نفر في الآستانة يوقدون نار العصبية التركية، فطارت شرارة منها إلى البلاد العربية، وسرعان ما سرت في قلوب الفتيان، وظهروا في أحزاب معارضة، ولم يتوفق رجال الدولة إلى أن يسوسوهم بحكمة، وكانت العاقبة ما كنا نسمع، وما كنا نرى.
على الرغم من تلك الفتنة الساهرة أيام معاوية ويزيد، لم تكن العواطف الدينية والآداب الإسلامية ملقية السلم إلى تلك الأهواء، وتاركة جماحها يذهب إلى غير منتهى، ويكفي أن أذكرك بن تلك الأمة -على ما مسها من طائف العصبية- قد سكنت تحت راية معاوية، ثم ابنه يزيد، وكانت تجاهد تحت رايتهما، وتفتح البلاد بكل ما تملك من إقدام وإخلاص، وهذا أبو أيوب -وهو من الأنصار- قد سار لفتح قسطنطينية في جيش، وعلى رأسه راية يزيد بن معاوية.
فالعصبية نهضت لعهد معاوية ويزيد، ولكنها وجدت مقاوماً خفف من ويلاتها، ولم يتركها إلى أن يُجَنَّ جنونها، وتفقد شعورها كما كانت في الجاهلية، وهو أدب الإسلام.
*
تشبيب عبد الرحمن برملة:
قال المؤلف في (ص 55): "ولعلك قرأت تلك القصة التي تخبرنا
بأن عبد الرحمن بن حسان شبب برملة بنت معاوية؛ نكاية ببني أمية".
قصة تشبيب عبد الرحمن برملة رواها صاحب "الأغاني"، ولم يقل:"نكاية ببني أمية"، ولا أحسب هذه الكلمة إلا من طينة الاستنباطات التي يصعد إليها المؤلف على سلم العاطفة، وتشبيب الرجل بالمرأة يكون من داعية صبابة، ويكون لرفع قيمة الشعر، أو التطلع إلى فخر، ويكون نكاية بأبيها أو أخيها وحده، والظاهر، أن تشبيب عبد الرحمن برملة -إن صحّ- لا يُحمل إلا على مثل هذين الباعثين؛ وقد ذكر صاحب "الأغاني" نفسُه أن معاوية قال لعبد الرحمن: ألم يبلغني أنك تشبب برملة؟ قال له: بلى، ولو علمت أن أحداً أشرف لشعري منها، لذكرته.
فإن لم يرض المؤلف عن هذا الوجه، ورآه من الاعتذار الذي يراد به التخلص، فليكن ذلك التشبيب للنكاية بيزيد، فقد حكى الجمحي في "طبقاته": أن يزيد وعبد الرحمن كانا يتقاولان الشعر حتى استعلاه عبد الرحمن. ومما يجعل أصل القصة في وهن: أن صاحب "الأغاني" حدثنا تارة أخرى بأن تشبيب عبد الرحمن كان بأخت معاوية، لا بابنته، وأن يزيد قال لمعاوية: إنه شبّب بعمتي.
يتواضع المؤلف إلى الروايات التي توافق هواه، ولا يكفيه أن تكون واهية محفوفة بالريبة من كل جانب، حتى يعمد إلى أن يستنبط منها ما لا يخطر على خيال الباحث الرصين.
كل أنصاري يشبب بأموية، أو يهجو أموياً، فللنكاية ببني أمية، وكل قرشي يشبب بأنصارية، أو يهجو أنصارياً، فللنكاية بالأنصار. فالعصبية ثائرة، والفتنة غاشمة. إذاً، هذا الشعر الجاهلي منتحل، وليس من الجاهلية في شيء!.