الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأصحابه القصّاصون، نذكر منهم: ابن هشام الذي يروي لنا في "السيرة" ما كان يرويه ابن إسحاق، حتى إذا فرغ من رواية القصيدة، قال: وأكثر أهل العلم بالشعراء، وبعض أهل العلم بالشعر ينكر هذه القصيدة، أو ينكرها لمن تضاف إليه".
هذا الشعر الذي رواه ابن إسحاق قد أفرغ العلماء فيه أنظارهم، فنقدوا ابن إسحاق نفسه، وقد سقنا إليكم آنفاً شيئاً من أقوال علماء الأدب في شأنه، وتناوله النقاد من علماء الحديث، فمنهم من وثقه، ومنهم من ضعفه، ومنهم من طعن في صدقه وأمانته، وكادوا يتفقدن على عدم الثقة بما يرويه من الشعر. قال ابن معين:"ما له عندي ذنب إلا ما قد حشا في السيرة من الأشياء المنكرة المنقطعة، والأشعار المكذوبة"(1).
إذاً، ما يرويه ابن إسحاق من الشعر مرتاب في صحته، وقد نفى ابن هشام وغيره قسماً عظيماً منه، ودخل في حساب المنتحل المصنوع، والباقي لا يبرح مكان الريبة إلى أن ينقده المؤلف أو غيره بنظر هادئ، ويرينا كيف اهتدى إلى أنه مصنوع انتحل انتحالاً. ومن الشعر الذي رواه ابن إسحاق، ولم يتعرض لنقده ابن هشام قصيدة:"يا راكباً إن الأثيل مظنة" المنسوبة لقتيلة ابنة النضر، فقد قال الزبير بن بكّار في "النسب":"إن بعض أهل العلم ذكر أنها مصنوعة"(2).
*
مقدرة القدماء على النقد:
قال المؤلف في (ص 99): "ولكن هؤلاء العلماء الذين فطنوا لأثر
(1)"ميزان الاعتدال" للحافظ الذهبي.
(2)
"الطبقات الكبرى" لابن السبكي (ج 1 ص 133).
القصص في انتحال الشعر خدعوا أيضاً؛ فلم يكن صناع الشعر جميعاً ضعافاً، ولا محمقين، بل كان منهم ذو البصيرة النافذة، والفؤاد الذكي، والطبع اللطيف، فكان يجيد الشعر، ويحسن انتحاله وتكلفه، وكان فطناً يجتهد في إخفاء صنعته، ويوفّق من ذلك إلى الشيء الكثير".
يعرف الناس أن في العلوم قطعيات، وفيها ظنيات تتفاوت. ومن الظن ما يقوى حتى يقرب من اليقين، ومنه ما يضعف، فيكاد يتصل بالشك. ويعلمون أن من أصول العلم ما لا يعتد به إلا إذا قام على يقين، ومنها ما يكفي فيه الظن القريب من العلم، ومنها ما يكفي فيه احتمال الثبوت، ولو لم يرجح على الشك إلا بمثقال ذرة، والعلوم الأدبية لا تأبى أن يكون في مسائلها شيء من هذا القبيل.
فإذا قبل بعض أهل العلم شعراً يضاف إلى العرب، فليس معنى هذا القبول أنهم تيقنوا أو ظنوا ظناً قريباً من العلم أن هذه الإضافة صحيحة، بل لأنهم نقدوه، فلم يتراء لهم دليل على وضعه، وأصبح احتمال الوضع إزاء احتمال الصحة أخف وزناً. وإذا خطر على بالهم أن يكون الراوي ماهراً في التظاهر بالاستقامة، وبارعاً في تقليد الشعر العربي إلى حيث يخفى على الناقد النحرير، أعرضوا عن هذا الخاطر؛ لأنه يفضي إلى رفض كل أثر أدبي لم يجيء من طرق متعددة.
يعلم كثير الملاحظة لما يؤثر عنهم في نقد الشعر: أنهم كانوا يرددون أنظارهم في الأشعار القديمة والحديثة، حتى يتربى لطائفة منهم أذواق تفرق بين شعر هذا العصر وذاك العصر، وتميز بين نسج النابغة -مثلاً-، ونسج حسّان بن ثابت، وتدرك أن هذا أرسلته القريحة بفطرتها، وهذا عمدت إلى
أن تحاكي به طريقة شاعر بعينه.
وهذا الطريق من النقد لا يسهل على كل من حفظ الأشعار، أو بحث في غريبها وإعرابها، وإنما يستطيعه في كل عصر طائفة درست منشآت البلغاء، وتقلبت في فنون البيان أطواراً، وألقت على منظوم كل شاعر نظرات خاصة، حتى تعرف نزعته، وتدري كيف يأخذ في تأليف الألفاظ، وفي أيّ صورة يركبها، فيستطيع المضي في هذا الطريق من النقد أمثال: الأصمعي، والجاحظ، وأبي الفرج الأصبهاني، وإذا قالوا في وصف أحد أهل العلم كما قالوا في أبي الخطاب الأخفش:"وكان أعلم الناس بالشعر، وأنقدهم له"(1)، فإنما يقصدون -فيما أحسب- هذا الفن من النقد بوجه خاص.
وإذا كان القدماء في هذه المقدرة على صناعة النقد، وأضفنا إليها عنايتهم بالنظر في حال الراوي، ذهبنا في ظننا أن هذا الشعر الذي يعزوه الرواة الثقات إلى الجاهلية، ولم ينقدوه بنظر خاص أو بوجه عام، هو من الجاهلية في شيء، وأريد من الوجوه العامة للنقد أمثال طعنهم في أمانة بعض الرواة، وتنبيههم على عدم الثقة بنسبة شعر إلى من قدم عهده في الجاهلية، فكل ما ينسب لقديم العهد في الجاهلية يعد في نظرهم مرتاباً فيه، بل قد يسميه بعضهم: منحولاً، وشاهد هذا: أنهم قالوا: إن سيبويه قد يمتنع من تسمية الشاعر؛ لأن بعض الشعر يروى لشاعرين، وبعضه منحول لا يعرف قائله؛ لقدَم العهد به (2)، وقد عرفتم أن سيبويه وغيره يستشهدون بهذا النوع من
(1)"الموشح"(للمرزباني).
(2)
"الخزانة"(ج 1 ص 178).