الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التي تليهم، فدلَّ تتابعهم على نقل أقوالهم، على اعتبار المنقول عنهم واعتماده في فهم القرآن، بل قد نجد عند بعضهم -كالطبري- الترجيح لبعض أقوالهم، وتصحيحها على غيرها من أقوال اللغويين وغيرهم.
وإذا استحضرنا العلَّة التي ذكرها محمد حسين الذهبي (ت: 1397 هـ) في قوله: "وإنما أدرجنا في التفسير المأثور ما رُوِىَ عن التابعين -وإن كان فيه خلاف: هل هو من قبيل المأثور أو من قبيل الرأي- لأننا وجدنا كتب التفسير المأثور، كتفسير ابن جرير وغيره، لم تقتصر على ما ذِكْر ما رُوِىَ عن النبي صلى الله عليه وسلم وما رُوِىَ عن أصحابه، بل ضمت إلى ذلك ما نُقِل عن التابعين في التفسير" فإننا يمكن أن ندخل تفسير أتباع التابعين لأجل العلة التي اعتمدها.
والنتيجة عندي أن دخول أتباع التابعين في المأثور لا غبار عليه للعلتين اللتين ذكرتهما سابقًا، وهما حديث:"خير القرون قرني. . . "، ثم تتابع عمل العلماء على اعتماد تفسيرهم في كتبهم في التفسير وفي غيره من الكتب.
ثانيًا: ما يتعلق بالنتيجة المترتبة عليه:
ويندرج تحت هذه الملحوظة أمران:
الأمر الأول: ما يتعلق بالحكم، فإن بعض من درج على هذا المصطلح نصّ على وجوب اتباعه والأخذ به، كقول مناع القطان: "حكم التفسير بالمأثور:
التفسير بالمأثور هو الذي يجب اتباعه والأخذ به؛ لأنه طريق المعرفة الصحيحة. وهو آمن سبيل للحفظ من الزلل والزيغ في كتاب اللَّه"
(1)
، وهذا ما توحي به عبارة آخرين
(2)
.
وهذا الحكم إذا أردنا أن نطبقه على التقسيم الرباعي فإننا سنواجه عددًا من المشكلات العلمية، منها:
1 -
أن كثيرًا من تفسير القرآن بالقرآن من باب الاجتهاد، فما لم يكن تفسيرًا صريحًا مباشرًا، أو كان من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يعود إلى اجتهاد المجتهد من الصحابة فمن بعدهم إلى يومنا هذا، وهو اجتهاد قابل للخطأ والصواب، وقيمته تعلو بكونه مجمعًا عليه أو قول الأكثر أو غير ذلك من علامات القبول، وليس قبوله؛ لأنه تفسير قرآن بقرآن.
(1)
انظر: مباحث في علوم القرآن للقطان ص 350.
(2)
كالزرقاني، والذهبي، والصباغ (لمحات في علوم القرآن، ص 177 وما بعدها).
2 -
أن بعضهم يحكون الخلاف في تفسير التابعي من حيث الاحتجاج به، ثم يحكمون بوجوب اتباعه والأخذ به، دون أن يكون هناك نقاش علمي أو مستند يستندون إليه في تحرير ذلك الخلاف الذي حكوه.
ثم إن كان ما ورد عن الصحابة
(1)
، والتابعين مأثورًا يجب الأخذ به على اصطلاحهم فما العمل فيما ورد عنهم من خلاف محقق في التفسير؟ وكيف يقال: يجب الأخذ بما وقع التضاد فيه من أقاويلهم؟ !
ذلك مما لم يمرَّ عليه هؤلاء بالبحث والتحرير والتفريق فيما يجب قبوله من أقوالهم مما يجوز فيه الترجيح بين أقاويلهم.
الأمر الثاني: أنهم جعلوا التفسير المأثور بأنواعه الأربعة مقابلًا للرأي، فلحق بمصطلح التفسير بالرأي خلط آخر بسبب هذه المقابلة، وبُنِيتْ على هذا التقسيم معلومات غير صحيحة، ومنها:
1 -
أن بعضهم يُقَرِّرون وقوع الاجتهاد في تفسير الصحابة والتابعين، ثم يجعلون ما قالوه بهذا الرأي من قبيل المأثور الذي يجب الأخذ به؛ غافلين عما قرروه من قولهم بأنهم اعتمدوا الرأي، وقالوا فيه بالاجتهاد، فجعلوا رأيهم مأثورًا، ورأي المتأخرين رأيًا.
وإذا كان الصحابة والتابعون قالوا في التفسير برأيهم فليس للقول بأن الرأي مقابل للمأثور عنهم وجه، بل إن هذا الخلط يدل على الحاجة إلى إعادة ترتيب مسألة المأثور والرأي لتناسب واقع التفسير ومنهجه وأصوله، وذلك كالآتي:
أ- يوجد قسم من التفسير هو من قبيل المنقول الذي لا تصرف فيه لأي مفسر من الصحابة ومن بعدهم.
ب- وقع الاجتهاد في التفسير عند الصحابة والتابعين وأتباعهم.
ج- استمر القول بالرأي في التفسير بعدهم، وصار على ثلاثة أنحاء:
أولها: التَّخيُّر من أقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم عند اختلاف أقوالهم في التفسير.
ثانيها: إضافة قول معتبر غير مناقض لأقوالهم.
(1)
حكى الصباغ الخلاف في الأخذ بقول الصحابي، فوقع فيما وقع فيه من حكم بوجوب الأخذ بالمأثور، ينظر: لمحات في علوم القرآن، ص 180.
ثالثها: إضافة قول غير معتبر؛ إما لفساده في ذاته، وإما لمناقضته لتفسيراتهم، وهذا هو الرأي المذموم.
2 -
لقد تكلف من ذهب إلى هذا المصطلح حينما أراد أن يقسم كتب التفسير على التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي، فوقع في عدد من الأغلاط، منها: الغفلة عن بداية الرأي المحمود ونشأته، وأنواعه، فالرأي بدأ منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ودليل ذلك بعض ما فهمه الصحابة على وجه، ثم سألوا عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ففهمهم كان رأيًا لهم، ثم لما توفي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اجتهدوا في بيان القرآن للتابعين، ثم استمر الرأي فيمن بعدهم، وكان منه -كما سبق- من يتخير من أقوالهم، ويرجح بينها، وهذا لا يكون إلا برأي مستقل، ومع ذلك تجد أن أعظم المفسرين بالرأي المحمود -وهو ابن جرير الطبري- يعدون تفسيره من كتب التفسير المأثور، ويغفلون عن رأيه الذي لا يكاد يخلو منه مقطع من مقاطع الآيات.
وأعجب من ذلك أن الشيخ محمد حسين الذهبي يعدُّ تفسير الثعلبي ضمن كتب التفسير المأثور
(1)
، ويعدُّ تفسير الخازن الذي اعتمد تفسير البغوي وزاد عليه ضمن التفسير بالرأي
(2)
.
فإذا كان تفسير الخازن مختصرًا لتفسير البغوي، فما المعيار الذي جعل هذا في كتب المأثور، وذاك في كتب الرأي، ولم لم يعامله كما عامل تفسير ابن عطية، ومختصره الذي عمله الثعالبي، حيث وضعهما في التفسير المأثور.
3 -
وذهب من اعتمد هذا التقسيم إلى جَعْلِ تفسير ابن جرير من قبيل التفسير بالمأثور، وفي هذا غفلة عن كون تفسير الطبري من أكبر أمثلة التفسير بالرأي المحمود، وأن رأيه يظهر في مواطن، منها:
أ- تفسيره الإجمالي الذي يبتدئ به الآية أو يجعله في خاتمة ذكره للأقوال.
ب- تقسيمه للأقوال، وترجمته لكل قول منها بما يبرز المعنى الذي ذهب إليه أهل ذلك القول.
ج- الاختيار والترجيح المبني على القرائن والقواعد العلمية. ورأيه في معنى الآية واختياره لا تكاد تخلو منه آية.
ولعل من ذهب إلى تصنيفه في المأثور نَظَرَ إلى كثرة إيراده للمأثور عن السلف،
(1)
التفسير والمفسرون، للذهبي 1/ 169.
(2)
التفسير والمفسرون، للذهبي 1/ 221.
وهناك فرق بين أن يكون معتمدًا على المأثور من تفسيرهم، وبين أن يكون صاحب رأي مستقلٍّ يرجِّح ويختار، والترجيح والاختيار رأي.
وسأقف مع أنموذج من هذا النوع، ورد عن عَلَمٍ من أعلام المفسرين المتأخرين: قال الشيخ الطاهر بن عاشور (ت: 1393 هـ): "أما الذين جمدوا على القول بأن تفسير القرآن يجب أن لا يعدوا ما هو مأثور، فهم رموا هذه الكلمة على عواهنها، ولم يوضحوا مرادهم من المأثور عمن يؤثر. . . ". ثم قال: "وقد التزم الطبري في تفسيره أن يقتصر على ما هو مروي عن الصحابة والتابعين، ولكنه لا يلبث في كل آية أن يتخطى ذلك إلى اختياره منها، وترجيح بعضها على بعض بشواهد من كلام العرب، وحسبه بذلك تجاوزًا لما حدده من الاقتصار على التفسير بالمأثور، وذلك طريق ليس بنهج، وقد سبقه إليه بقي بن مخلد، ولم نقف على تفسيره، وشاكل الطبري فيه معاصروه، مثل ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم، فللَّه درّ الذين لم يحبسوا أنفسهم في تفسير القرآن على ما هو مأثور، مثل الفراء وأبي عبيدة من الأولين، والزجاج والرماني ممن بعدهم، ثم من سلكوا طريقهم، مثل الزمخشري وابن عطية"
(1)
.
وها هنا وقفات ناقدة لهذا الكلام:
الأولى: لم يصرح الطاهر بن عاشور بأولئك الذين "جمدوا على القول بأن تفسير القرآن يجب أن لا يعدوا ما هو مأثور"، وفي ظني أن هذا لم يُقل به، ولكنه تأولٌ لكلام من يرى وجوب الأخذ بما أثر عن السلف.
الثانية: لم يورد الشيخ لنفسه دليلًا من كلام الطبري يدلّ على التزامه بما روى عن الصحابة والتابعين فقط، ولم يرد عن الطبري أنه يقتصر عليهم، ولا يتعدى ذلك إلى الترجيح، بل قد نصَّ على منهجه في التعامل مع أقوال المفسرين، والتعليل لها والترجيح بينها، قال:". . . ومخبرون في كل ذلك بما انتهى إلينا من اتفاق الحجة فيما اتفقت عليه منه واختلافها فيما اختلفت فيه منه. ومبينو علل كل مذهب من مذاهبهم، وموضحو الصحيح لدينا من ذلك، بأوجز ما أمكن من الإيجاز في ذلك، وأخصر ما أمكن من الاختصار فيه"
(2)
.
فهذا نصُّه رحمه الله واضح في نوعية الرأي الذي سيسلكه، وهو التعليل والترجيح
(1)
التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور 1/ 32، 33.
(2)
تفسير ابن جرير الطبري 1/ 7.
والاختيار من أقوال المختلفين من الصحابة والتابعين وأتباعهم، ولم يجمد على نقل الأقوال.
الثالثة: أنه جعل منهج الطبري كمنهج ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم، وشتان بين منهج الطبري الناقد المعتمد على روايات السلف، ومنهج هؤلاء الذين اعتمدوا النقل فقط دون التعقيب والتعليق، وهذا المنهج الذي سلكوه لا يُعاب عليهم؛ لأنهم لم يشترطوا التعليق على الآيات والتعقيب على المرويات، بل كانوا يوردون ما وصلهم من تفاسير السلف، وهم بهذا لا يُعدون مفسرين، بل هم ناقلو تفسير.
ومن هنا ترى أن الشيخ ابن عاشور يرى أن من التزم بالمأثور فإنه لا يكون له رأي كالطبري، وأن من لم يلتزم بالمأثور فللَّه درّه! كما قال.
وقد سبق أن ذكرت لك أن الصحابة والتابعين ومن بعدهم اعتمدوا التفسير بالرأي وقالوا به
(1)
، وأن من الأخطاء التي وقعت مقابلة أقوالهم التي هي من قبيل الرأي بأقوال أبي عبيدة والفراء وغيرهم، بل الأعجب من ذلك أن تفاسيرهم اللغوية تجعل من المأثور وتُقابل بتفاسير أبي عبيدة والفراء والزجاج اللغوية، وتجعل هذه لغوية
(2)
.
4 -
افتراض وقوع الاختلاف بين المأثور والرأي، وكيفية معالجته:
بنى الشيخ عبد العظيم الزرقاني (ت: 1367 هـ) افتراضًا جدليًّا في وقوع التعارض بين
(1)
إن قيل: ذكرتم في الموسوعة تفاسير السلف التي هي من قبيل الرأي، مع أن الموسوعة للتفسير المأثور؟ !
أجيب بأن وصف التفسير بالمأثور لا يلزم منه أن لا يكون تفسيرًا بالرأي أو بالنظر والاجتهاد؛ فقد يكون مأثورًا؛ لأنه منقول عن الغير، وهو بالنسبة إلى قائله مقول برأيه أو نظره واجتهاده؛ وبهذا يتبين أن التفسير المأثور نوعان: مطلق ونسبي، فالمطلق ما أُثر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وما ورد من أسباب النزول الصريحة، وما أجمع عليه، وما يكون له وجه واحد في المعنى لا غير، لأنه لا مجال في هذا للرأي.
والتفسير المأثور النسبي هو ما عدا ما سبق مما يرويه الخلف عن السلف إلى الصحابة رضي الله عنهم.
فليس كل ما يسمى تفسيرًا مأثورًا يكون قسيمًا للتفسير بالرأي؛ فالتفسير المأثور الذي يعتبر قسيمًا للتفسير بالرأي هو التفسير المأثور المطلق، أما التفسير المأثور النسبي فهو في أصله تفسير بالرأي.
فتفاسير السلف التي هي من قبيل الرأي من التفسير المأثور النسبي؛ أي: بالنسبة لمن ينقل عنهم؛ ومن ذلك نقلنا عنهم في الموسوعة.
(2)
ولم تُعتمد أقوال اللغويين في الموسوعة وإن كانوا من طبقة السلف كأبي عبيدة والفراء؛ بناء على كون الذين جمعوا التفسير المأثور لم يذكروهم؛ لأنهم ليسوا من أهل الأثر والرواية والرأي المعتمد على ذلك. . .
التفسير المأثور عنده (بالقرآن، وبالسُّنَّة، وبأقوال الصحابة) وبين التفسير بالرأي، تحت عنوان عقده لذلك (التعارض بين التفسير بالرأي والتفسير بالمأثور والترجيح بينهما)، وليست المشكلة في وقوع التعارض، إذ هذا ممكن، لكن طريقة الشيخ في تصوير المسألة لا تناسب العمل التفسيري، ولا تجد من عمل بها أو يعمل بها على طريقته، قال: "ينبغي أن يعلم أن التفسير بالرأي المذموم ليس مرادًا هنا؛ لأنه ساقط من أول الأمر فلا يقوى على معارضة المأثور.
ثم ينبغي أن يعلم أن التعارض بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي المحمود معناه: التنافي بينهما، بأن يدل أحدهما على إثبات والآخر على نفي؛ كأن كلًّا من المتنافيين وقف في عرض الطريق فمنع الآخر من السير فيه.
وأما إذا لم يكن هناك تنافٍ، فلا تعارض، وإن تغايرا؛ كتفسيرهم الصراط المستقيم بالقرآن أو بالسُّنَّة أو بطريق العبودية أو طاعة اللَّه ورسوله، فهذه المعاني غير متنافية، وإن تغايرت. . .
إذا تقرر هذا، فإن التفسير بالمأثور الثابت بالنص القطعي لا يمكن أن يعارض بالتفسير بالرأي؛ لأن الرأي: إما ظني، وإما قطعي؛ أي: مستند إلى دليل قطعي: من عقل أو نقل، فإن كان قطعيًّا، فلا تعارض بين قطعيين، بل يؤول المأثور؛ ليرجع إلى الرأي المستند إلى القطعي إن أمكن تأويله، جمعًا بين الدليلين.
وإن لم يمكن تأويله، حُمل اللفظ الكريم على ما يقتضيه الرأي والاجتهاد، تقديمًا للأرجح على المرجوح.
أما إذا كان الرأي ظنيًّا، بأن خلا من الدليل القاطع، واستند إلى الأمارات والقرائن الظاهرة فقط، فإن المأثور القطعي يقدَّم على الرأي الظني ضرورة أن اليقين أقوى من الظن. هذا كله فيما إذا كان المأثور قطعيًّا، أما إذا كان المأثور غير قطعي في دلالته؛ لكونه ليس نصًّا، أو في متنه؛ لكنه خبر آحاد، ثم عارضه التفسير بالرأي فلا يخلو الحال: إما أن يكون ما حصل فيه التعارض مما لا مجال للرأي فيه، وحينئذٍ فالمعوَّل عليه المأثور فقط، ولا يقبل الرأي.
وإن كان للرأي فيه مجال، فان أمكن الجمع فبها ونعمت، وإن لم يمكن قُدِّم المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة؛ لأنهم شاهدوا الوحي، وبعيد عليهم أن يتكلموا في القرآن بمجرد الهوى والشهوة.
أما المأثور عن التابعين، فإذا كان منقولًا عن أهل الكتاب، قدم التفسير بالرأي عليه، وأما إذا لم ينقل عنهم، رجعنا به إلى السمع، فما أيده السمع، حُمِل النظم الكريم عليه، فإن لم يترجح أحدهما بسمع ولا بغيره من المرجحات، فإننا لا نقطع بأن أحدهما هو المراد، بل نُنزل اللفظ الكريم منزلة المجمل قبل تفصيله والمشتبه أو المبهم قبل بيانه"
(1)
.
هذا الذي ذكره الشيخ عبد العظيم افتراض ذهني لا علاقة له بواقع التفسير، ولا يمكن تطبيقه بهذه الطريقة التي ذكرها، وليس المراد هنا نفي وقوع التعارض جملة، لكن هذه الترتيبات التي ذكرها، وهذه المصطلحات التي حشدها لا تكاد توجد في العمل التفسيري.
وتفصيل الرد عليه يطول، ويخرج عن المقصود هنا.
5 -
من لوازم هذا التقسيم للتفسير المأثور أن ما عداه فهو من التفسير بالرأي، وهذا مُشْكِل من جهة تاريخ الرأي في التفسير، فالرأي -سواءً كان محمودًا أو مذمومًا- يعني اعتماد المفسر على اجتهاده في تفسير النص، وهذا الاجتهاد سواء أكان خطأ أم صوابًا هو رأي لصاحبه، وبواكير الرأي -على وجه العموم- كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في ما وقع من فهم بعض الصحابة لبعض الآيات على وجه غير الوجه المراد، فلما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن لهم المعنى المراد، كفهمهم للظلم في قوله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، ففهمهم راجع إلى اجتهادهم، واجتهادهم رأي لهم.
ثم لمّا مات النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يفسرون بآرائهم، وكذا تابعهم في ذلك التابعون وأتباعهم، فالتفسير بالرأي بدأ معهم، وليس قسيمًا لأقوالهم، كما يفهم من هذه المقابلة الثنائية بين التفسير بالمأثور (القرآن، والسُّنَّة، وأقوال الصحابة، وأقوال التابعين) والتفسير بالرأي (ما عدا هذه الأربعة)، فإن هذه المقابلة ليست بصحيحة، وهذا الذي ذكرته أحد أدلة خطأ هذا التقابل.
(1)
مناهل العرفان 2/ 63 - 65. ووازن هذا المنهج التفكيري بما طرحه الرازي في أساس التقديس ص 210، وقد ردَّ شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا المنهج الذي يزعم تعارض العقل مع النقل في مؤلفه العظيم "درء تعارض العقل والنقل".