الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الثالث الإسناد وشرط الصحة
لسنا هنا بحاجة إلى تكرير ما سبق ذكره والتأكيد عليه من كون الحكم بالصحة الحديثية لا ينحصر في الإسناد ولا ينفصل عن الإسناد، وأن نظر الناقد يتجاوز اتصال الإسناد إلى التثبت من عدم تطرق الخطأ للرواية؛ لأن المعيار الذي عليه المدار غلبة الظن بصواب الرواية أو غلبة الظن بخطئها، وإنما المقصود هنا التنبيه على ثلاثة أمور -وخاصة ثالثها- لها أهميتها البالغة في فهم منهج نقاد المحدثين في إصدار الأحكام على أسانيد المرويات.
الأمر الأول: أن مصطلح الصحة يتنازعه مع المحدثين غيرهم كالفقهاء والأصوليين، ولكن مفهوم الصحة عند الفريقين مختلف؛ فالمتنازع عليه المفهوم لا المصطلح، وسيأتي بيان ذلك قريبًا.
الثاني: الاتصال شرط الصحة: المقصود بالصحة هنا الحكم على الرواية بصحة ثبوتها عن قائلها، والمقصود بالاتصال اتصال الإسناد وخلوه من الانقطاع.
وقد اشترط النقاد شروطًا عليها مدار الحكم بالصحة منها اتصال الإسناد، ولذا لا يطلق نقاد المحدثين وصف الصحة الإسنادية على الخبر الذي لم يتصل إسناده؛ لكون قيد "اتصال السند" أحد قيود الحكم بالصحة، فإذا اجتمعت شروط الصحة في الرواية من عدالة الرواة وضبطهم واتصل سند الرواية وخلت من الشذوذ والعلة حكم عليها بصحة ثبوتها عن قائلها.
الثالث: المنقطع الذي له حكم المتصل: وهو المقصود أساسًا هنا من هذه الممهدات؛ ذلك أن من المنقطع ما له حكم المتصل، فإذا كان المعيار الذي عليه المدار غلبة الظن بصحة الرواية أو غلبة الظن بخطئها أنتج ذلك أن الخطأ المخوف من وقوعه في الرواية لا ينتفي دومًا باتصال الإسناد، ولا يثبت دومًا بانقطاعه، ولهذا فإن النقاد قد يحكمون بضعف ما اتصل سنده، ويجعلود ما انقطع سنده في حكم المتصل لاعتبارات وقرائن أوجبت عندهم ضعف المتصل وصحة المنقطع؛ لأن المدار في الحكم على تحقق صحة النقل عن قائله أو خطئه لا على اتصال سنده.
فأما ما ردَّه أهل العلم مع اتصال سنده؛ فذلك مرجعه إلى عدم اكتمال شروط الصحة فيه، وهو أظهر من أن يمثَّل عليه دفعًا للإطالة.
وأما ما جعل الأئمة له حكم المتصل مع انقطاع سنده فمرده إلى تثبت النقاد من انتفاء الخطأ عن الرواية المنقطعة الإسناد، وأنه رغم انقطاعها إلا أنها احتفت بها قرائن دفعت الخطأ المظنون من قبل انقطاع سندها كمعرفة الواسطة أو اختصاص الراوي. . . إلخ؛ فقد تخفف عن الرواية المنقطعة وصفها بالصحة لتخلف شرط الاتصال، ففارقت الصحيح من هذه الجهة واشتركت معه في انتفاء الخطأ عنها، فجعل لها حكم المتصل من تلك الجهة.
قال أبو داود في رسالته: "وإن من الأحاديث في كتابي السنن ما ليس بمتصل وهو مرسل ومدلّس، وهو إذا لم توجد الصحاح عند عامة أهل الحديث على معنى أنه متصل، وهو مثل الحسن عن جابر، والحسن عن أبي هريرة، والحكم عن مقسم"
(1)
. فقوله: "على معنى أنه متصل" صريح جدًّا في كون بعض المنقطعات تُمْنَح حكم المتصل.
يقول د. إبراهيم اللاحم: "الانقطاع ليس على درجة واحدة، بل هو متفاوت جدًّا، فإذا عرف هذا لم يكن مستغربًا أن نجد في "الصحيح" ما صورته الانقطاع واحتف به ما يجعله في حكم المتصل"
(2)
.
وعلى هذا المسلك جرى النقاد في كثير من تطبيقاتهم مع المنقطعات التي يحتف بها من القرائن ما يدفع الريبة والخطأ المخوف من قبل انقطاعها؛ فمن ذلك مثلًا: رواية أبي عبيدة بن عبد اللَّه بن مسعود عن أبيه، قال ابن تيمية:". . . ويقال: إن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه؛ لكن هو عالم بحال أبيه متلق لآثاره من أكابر أصحاب أبيه وهذه حال متكررة من عبد اللَّه رضي الله عنه فتكون مشهورة عند أصحابه فيكثر المتحدث بها، ولم يكن في أصحاب عبد اللَّه من يتهم عليه حتى يخاف أن يكون هو الواسطة، فلهذا صار الناس يحتجون برواية ابنه عنه وإن قيل: إنه لم يسمع من أبيه"
(3)
.
وقال ابن رجب: "قال يعقوب بن شيبة: إنما استجاز أصحابنا أن يدخلوا حديث
(1)
رسالة أبي داود ص 30.
(2)
الاتصال والانقطاع ص 433.
(3)
مجموع الفتاوى 6/ 404.
أبي عبيدة عن أبيه في المسند -يعني: في الحديث المتصل- لمعرفة أبي عبيدة بحديث أبيه وصحتها وأنه لم يأت فيها بحديث منكر"
(1)
.
وظاهر جدًّا من خلال كلامي ابن تيمية وابن رجب أثر القرائن المحتفّة بالخبر المنقطع في رفعه إلى أن يكون في حكم المتصل؛ من نحو اختصاص الراوي بحديث شيخ معين وإتقانه له، وشهرته بين تلاميذ الشيخ بإتقان روايته. . . إلخ، بل بلغ الأمر بقوة القرائن أن قال ابن تيمية في النقل السابق:"فلهذا صار الناس يحتجون برواية ابنه عنه وإن قيل: إنه لم يسمع من أبيه"
(2)
.
ومن ذلك أيضًا: رواية سعيد بن المسيب عن عمر
(3)
؛ فقد قال الشافعي: ". . . وإذا اتصل الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصح الإسناد به فهو سُنَّة، وليس المنقطع بشيء ما عدا منقطع سعيد بن المسيب، قال أبو محمد ابن أبي حاتم رحمه الله: يعني ما عدا منقطع سعيد بن المسيب أن يعتبر به"
(4)
وقال ابن أبي حاتم: "سمعت أبي يقول: سعيد بن المسيب عن عمر مرسل، يدخل في المسند على المجاز"
(5)
.
وقال ابن عبد البر: "ورواية سعيد بن المسيب عن عمر. . . تجري مجرى المتصل وجائز الاحتجاج بها عندهم"
(6)
، ومن ذلك أيضًا: رواية إبراهيم النخعي عن ابن مسعود
(7)
وغيرها.
* * *
(1)
شرح علل الترمذي 1/ 544.
(2)
مجموع الفتاوى 6/ 404.
(3)
ينظر مثلًا: التمهيد لابن عبد البر 1/ 30، جامع التحصيل 1/ 184.
(4)
المراسيل لابن أبي حاتم ص 6.
(5)
المراسيل لابن أبي حاتم ص 71.
(6)
التمهيد 12/ 116.
(7)
ينظر مثلًا: الكامل لابن عدي 4/ 104، التمهيد لابن عبد البر 1/ 30، شرح علل الترمذي 1/ 452.