الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني جهة المعنى
دائرة قبول الخبر أوسع من دائرة الصحة الثبوتية بمفهوم المحدِّثين؛ فقد يقبل المفسرون والفقهاء والأصوليون وغيرهم ما لم يقبله المحدثون، ويحكمون بصحة ما ضعفه المحدثون، لكن مفهوم الصحة عندهم يباين مفهوم الصحة عند المحدثين؛ فصحة الخبر أو عدم صحته عند المحدثين دائرة على ثبوت الخبر عن قائله أو عدم ثبوته، وأما صحته عند غيرهم فلا تنحصر في دائرة الثبوت بل ترتبط به وبغيره من المعايير الأخرى بعد التثبت من صحة معنى الخبر وسلامة مضمونه. وبيان ذلك أن زاوية النظر في المنهج الحديثي على ثبوت الخبر عن قائله بغض النظر عن صواب قوله أو خطئه، فغاية ما يشتغل به الناقد بيان الثبوت أو عدم الثبوت، أما زاوية النظر عند الفقهاء والمفسرين وغيرهم فلا تحصر القبول في الثبوت؛ بل تقبل الثابت وغيره مما صح معناه وتحكم بصحته، بل وتحتج به بعد تحقق معايير القبول والاحتجاج فيه.
واختلاط زاويتي الاشتغال عند الناظر يوقع في الإشكال واللبس فتختلط عليه الأمور، وقد كان الأئمة على وعي بذلك ولم يجدوا غضاضة في قبول ما صح معناه وإن كان في ثبوته نظر؛ لتباين الجهتين عندهم، جهة الثبوت، وجهة القبول والاحتجاج.
فهذا الإمام الشافعي يقول: ". . . فاستدللنا بما وصفت مِنْ نقل عامة أهل المغازي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن: "لا وصية لوارث" على أن المواريث ناسخة للوصية للوالدين والزوجة، مع الخبر المنقطع عن النبي، وإجماع العامة على القول به"
(1)
.
وسئل الإمام أحمد بن حنبل عن دية المُعَاهَد؟ فقال: على النصف من دية
(1)
الرسالة ص 137.
المسلم، أذهبُ إلى حديث عمرو بن شعيب. قيل له: تحتج بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده؟ قال: ليس كلها. روى هذا فقهاء أهل المدينة قديمًا، ويُروى عن عثمان رحمه الله"
(1)
.
وذكر ابن رجب كلام العلماء في الاحتجاج بالمرسل، ثم قال: "واعلم أنه لا تنافي بين كلام الحفاظ وكلام الفقهاء في هذا الباب؛ فإن الحفاظ إنما يريدون صحة الحديث المعيّن إذا كان مرسلًا، وهو ليس بصحيح على طريقتهم؛ لانقطاعه وعدم اتصال إسناده. وأما الفقهاء فمرادهم صحة ذلك المعنى الذي دلَّ عليه الحديث فإذا عضد ذلك المرسل قرائن تدل على أنه له أصلًا قوي الظن بصحة ما دل عليه فاحتج به مع ما احتف به من القرائن.
وهذا هو التحقيق في الاحتجاج بالمرسل عند الأئمة، كالشافعي وأحمد وغيرهما مع أن في كلام الشافعي ما يقتضي صحة المرسل حينئذ"
(2)
.
ونقل ابن حجر عن ابن عبد البر حكمه على حديث بالصحة مع ظهور ضعف إسناده ثم علق بقوله: "حَكَمَ ابن عبد البر -مع ذلك- بصحته لتلقي العلماء له بالقبول، فردَّه من حيث الإسناد وقبله من حيث المعنى"
(3)
.
وقد ذكر السيوطي عن طائفة من العلماء أنه "يحكم للحديث بالصحة إذا تلقاه العلماء بالقبول وإن لم يكن له سند صحيح"
(4)
.
يقول الشريف حاتم العوني: "كان المحدِّثون يفرقون بين شروط قبول الحديث النبوي وبين تحقق القبول سواء في الحديث النبوي أو في غيره من العلوم الشرعية. ومن أمثلة ذلك:
أن الإمام الأوزاعي سئل عن المناولة -أن يناول الشيخ الطالب الكتاب- فقال: أتدين بها ولا أحدث بها.
فانظر كيف فرَّق بين شروط القبول المطلوبة في الحديث وبين القبول. فقوله: "أتدين بها"؛ يعني: أنه يقبلها ويحتج بها وإن كان لا يستجيز أن يروي بما أخذه مناولة.
(1)
أهل الملل والردة والزنادقة وتارك الصلاة والفرائض من كتاب الجامع للخلال 2/ 387 برقم (867).
(2)
شرح علل الترمذي لابن رجب 1/ 543.
(3)
التلخيص الحبير 1/ 8.
(4)
البحر الذي زخر شرح ألفية الأثر 3/ 1280.
وقريب من هذا ما ذكره ابن رجب في مسألة المرسل، ومحاولة الجمع بين مذهب الفقهاء والمحدِّثين في هذه المسألة. . . ولذا لأن من شروط الصحة الاتصال، ولا يعني ذلك أن المحدِّثين لا يحتجون بالحديث المرسل المعتضد لكنهم لا يصفونه بأنه صحيح بإطلاق اللفظ الاصطلاحي.
إذن، هناك فرق عند المحدثين بين الحجة والصحيح، فدلالة لفظ الحجة أوسع من دلالة لفظ صحيح؛ فدلالة لفظ صحيح لها شروط معينة غير دلالة حجة، ولذا فقد يحتجون بأحاديث مراسيل ولا يطلقون عليها لفظ الصحة"
(1)
.
فيتحرر من هذا أن لا تلازم في المروي عن غير رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين مقام ثبوت الرواية عن قائلها ومقام صحة المعنى التفسيري وصوابه، فقد تكون الرواية في أعلى درجات الثبوت والصحة إِلا أن معناها خطأ لا يصح تفسير الآية به، وقد تكون الرواية ضعيفة إِلا أن معناها يصح تفسير الآية به، وهذا المبحث وما بعده يفيد في تقييم ظاهرة جديدة طفت على الساحة العلمية في الحياة المعاصرة وهي تجريد الكتب من الآثار الضعيفة وإخراج ما يسمى بـ "صحيح التفسير"، "صحيح الفقه"، "صحيح السيرة" وسيأتي الحديث عن ذلك ضمن تتمات هذا الفصل.
* * *
(1)
محاضرة أسانيد التفسير للشريف حاتم.