الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، وإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الناس إذا رأوا ظالمًا، فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم اللَّه بعقابٍ منه"
(1)
.
والخلاصة: أن قلة التفسير المروي في عهد أبي بكر رضي الله عنه يرجع لأمور، من أبرزها:
- قِصَر مدة خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وانشغاله مع سائر الصحابة بالجهاد وتوطيد دعائم الدولة، وبدء الفتوحات.
- قرب العهد بعصر النبوة وكون الناس لم يزالوا على طبيعتهم وسليقتهم اللغوية، فلم تظهر الأسباب الداعية إلى التوسع في التفسير، كما حصل لاحقًا.
2 - عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه (13 - 23 هـ):
تولى عمر رضي الله عنه الخلافة بعد أن أظل الإسلام ربوع الجزيرة العربية من جديد، وانطلق الصحابة فاتحين البلاد خارج الجزيرة، وما هي إلا سنوات قلائل حتى قضوا على مملكتي فارس، والروم، أعظم دول العالم آنذاك، فاتسعت الدولة الإسلامية، وفتحت الدنيا أمام المسلمين، فواجه عمر عهدًا جديدًا، وحضارات مختلفة، قابلها رضي الله عنه بحكمة وحسن قيادة، وذلك في شتى مناحي الحياة، في الحكم والإدارة والاقتصاد والحرب والبناء، وكذلك التعليم بمختلف علومه وفنونه، بل يمكننا القول: إن عهد عمر بن الخطاب يمثل المرحلة التأسيسية للتعليم المنظم، خصوصًا في التفسير، الذي عني به رضي الله عنه عناية فائقة مع انشغاله الكبير بأمور الدولة، مما أدى إلى تطور التفسير وتعليمه، وتأصيل أصوله وآدابه، يتمثل ذلك في معالم عديدة، لعل من أبرزها ما يلي:
1 -
ضبط الكلام في الشريعة عمومًا، ومن ذلك ضبط باب الاجتهاد في التفسير، وقصره على المؤهلين لذلك، فقد كان عمر رضي الله عنه "يسأل ويُسأل عن معاني الآيات الدقيقة"
(2)
، ويطلب المعنى الصحيح والتفسير الراجح، مع الشواهد من لغة العرب، ويشجع على ذلك، وستأتي أمثلة عديدة في المعالم التالية.
(1)
أخرجه أحمد (1)، 1/ 177، ورواه أبو داود (4338)، والترمذي (3075).
(2)
مجموع الفتاوى 16/ 417.
2 -
تشجيع الفتية النابهين لتعلم القرآن وتفسيره، يبرز ذلك في رعاية عمر لعبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهم تعليمًا وأدبًا وسلوكًا، وتشجيعه على خوض غمار التفسير؛ لِما رأى فيه من النجابة والفطنة ورجاحة العقل وحب العلم وتطلبه، فكان يوجهه ويطلب رأيه في دقائق التفسير، ويستشيره في الأمر إذا أهمَّه ويقول له:"غص غواص"
(1)
، بل كان يدخله مجلسه مع أشياخ بدر حتى اعترض بعضهم، فأوقفهم عمر على سبب ذلك
(2)
، وحتى أن أباه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال له:"أيّ بني، إن أمير المؤمنين يدعوك ويقربك ويستشيرك مع أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فاحفظ عني ثلاث خصال: اتق لا يجربن عليك كذبة، ولا تفشين له سرًّا، ولا تغتابن عنده أحدًا"
(3)
.
فكان من آثار هذه الرعاية الكريمة نبوغ ترجمان القرآن، وحبر الأمة عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما وتصدره في علم القرآن فيما بعد، حتى كان أبرز الصحابة وأكثرهم رواية فيه.
3 -
من معالم القيادة الحكيمة والإدارة الفذة لعمر رضي الله عنه توجيه كل صحابي للمكان المناسب له، فبعث القادة والمعلمين والمربين إلى الأمصار المفتوحة، فكان من نتائج ذلك بروز علماء الصحابة في مجالسهم ومدارسهم العلمية وتخرج نابغي التابعين على أيديهم
(4)
، فهذا ابن مسعود رضي الله عنه أرسله إلى أهل الكوفة فلبث بين ظهرانيهم حتى تخرج على يديه من كبار فقهاء التابعين ومفسريهم أمثال علقمة النخعي (ت: 63 هـ) ومسروق (ت: 63 هـ)، وأبقى معه في المدينة نفرًا من كبار الصحابة للفتيا والقضاء والمشورة والإقراء والتفسير، وتعليم من يفد إليها، خصوصًا علي بن أبي
(1)
سير أعلام النبلاء 3/ 346.
(2)
فعن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فقال بعضهم: لم تدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: "إنه ممن قد علمتم" قال: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم قال: وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني، فقال: ما تقولون في {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} حتى ختم السورة، فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد اللَّه ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري، أو لم يقل بعضهم شيئًا، فقال لي: يا ابن عباس، أكذاك تقول؟ قلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أعلمه اللَّه له: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فتح مكة، فذاك علامة أجلك:{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} . قال عمر: "ما أعلم منها إلا ما تعلم". أخرجه البخاري 5/ 149.
(3)
المعجم الكبير للطبراني 10/ 265.
(4)
وسيأتي تفصيله في مبحث أبرز العوامل والأحداث التاريخية المؤثرة في تفسير السلف.
طالب
(1)
، وأُبي بن كعب، الذي تخرج على يديه في القراءة والتفسير أمثال أبي العالية (ت: 90 هـ)، كما تخرج عليه في القراءة حبر الأمة ابن عباس.
4 -
النص على أهمية التفسير اللغوي كمصدر للتفسير، وذلك من خلال الإفادة من لغة العرب وشعرها في تفسير القرآن -وهو المنهج الذي أعمله ابن عباس رضي الله عنهما بعد ذلك وتوسع فيه وأشاعه وربى تلاميذه عليه- حيث ورد عن عمر ما يدل على عنايته بهذا الاتجاه، من ذلك ما رواه أبو الصَّلْتِ الثقفي أن عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية:{وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} بنصب الراء، وقرَأها بعضُ مَن عنده من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:(حَرِجًا) بالخفض، فقال عمر: ابْغُوني رجلًا من كِنانة، واجعَلوه راعيًا، وليكنْ مُدْلِجيًّا. فأتَوه به، فقال له عمر: يا فتى، ما الحرِجَةُ فيكم؟ قال: الحَرِجَةُ فينا: الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصلُ إليها راعيةٌ ولا وحْشِيَّةٌ ولا شيء. فقال عمر: كذلك قلبُ المنافق لا يصلُ إليه شيءٌ من الخير
(2)
.
بل روي ذلك صريحًا من قوله فيما ذكره سعيد بن المسيب، حيث قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال: يا أيها الناس، ما تقولون في قول اللَّه عز وجل:{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47] فسكت الناس، فقال شيخ من بني هذيل: هي لغتنا يا أمير المؤمنين، التخوف التنقص. فخرج رجل فقال: يا فلان، ما فعل دَيْنك؟ قال: تخوفته؛ أي: تنقصته، فرجع فأخبر عمر فقال عمر: أتعرف العرب ذلك في أشعارهم؟ قال: نعم، قال شاعرنا أبو كبير الهذلي يصف ناقة تنقص السير سنامها بعد تَمَكِهِ
(3)
واكتنازه:
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدًا
…
كما تخوف عود النبعة السفن
(1)
اشتهر علي رضي الله عنه في المدينة في خلافة عمر وعثمان بالفتيا والقضاء ومشورة الخلفاء وربما الإقراء، ولم أقف -حسب علمي- على روايات تفيد تصدره للتفسير أثناء ذلك، مع طول ذلك العهد وكونه أكثر تفرغًا من عهد خلافته، ومن ثم وجود تلاميذ لازموه حينئذ، إلا أن يكون ابن عباس فقد روي عنه قوله:"ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب"، وما اشتهر من تصديه للتفسير فقد كان أيام خلافته بالكوفة، كما سيأتي في مبحث أبرز العوامل والأحداث التاريخية المؤثرة في تفسير السلف، والمسألة تحتاج إلى بحث وتتبع، واللَّه أعلم.
(2)
أخرجه ابن جرير 9/ 544، 545.
(3)
تمك السنام: طال وارتفع. كما في الصحاح للجوهري (تمك).
فقال عمر: يا أيها الناس، عليكم بديوانكم شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم
(1)
.
5 -
وقوف عمر رضي الله عنه صخرةً شامخةً وسدًّا منيعًا أمام المتنطعين، ممن يخوض في متشابه القرآن، ويسأل عما فيه تعنتًا، فيَضل ويُضل، فعن نافع مولى عبد اللَّه، أن صبيغًا العراقي جعل يسأل عن أشياء من القرآن في أجناد المسلمين حتى قدم مصر، فبعث به عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فلما أتاه الرسول بالكتاب فقرأه فقال: أين الرجل؟ فقال: في الرحل، قال عمر: أبصر أن يكون ذهب فتصيبك مني به العقوبة الموجعة، فأتاه به، فقال عمر: تسأل مُحْدَثَةً! فأرسل عمر إلى رطائب من جريد، فضربه بها حتى ترك ظهره دبرة، ثم تركه حتى برأ، ثم عاد له، ثم تركه حتى برأ، فدعا به ليعود له، قال: فقال صبيغ: إن كنت تريد قتلي، فاقتلني قتلًا جميلًا، وإن كنت تريد أن تداويني، فقد واللَّه برأت، فأذن له إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن لا يجالسه أحد من المسلمين، فاشتد ذلك على الرجل، فكتب أبو موسى إلى عمر: أن قد حسنت توبته، فكتب عمر: أن ائذن للناس بمجالسته
(2)
.
مما سبق يمكن القول: إن عمر رضي الله عنه يمثل مرحلة مهمة في تاريخ التفسير، تركه كثير ممن كتب فيه، فقد أوتي رضي الله عنه من العلم والفهم والاستنباط، حتى نزلت آيات عديدة موافقة له
(3)
، وقد أكد أصلًا عظيمًا من أصول التفسير، وهو الرجوع إلى لسان العرب وشعرهم، وشجع المؤهلين على الاجتهاد في التفسير، وعلى رأسهم ابن عباس رضي الله عنهما، وفي المقابل وقف سدًّا منيعًا أمام المتنطعين وأهل الأهواء، كل ذلك يبوئ عمر رضي الله عنه مكانة عظيمة في التفسير وأصوله.
ويكفي دلالة على ذلك ما روي أن كبار مفسري الصحابة كابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم كانوا يقفون عند قوله، وما جاء أن عامة علم ابن عباس من ثلاثة:
(1)
الكشف والبيان "تفسير الثعلبي" 6/ 19، تفسير القرطبي 10/ 110.
(2)
أخرجه الدارمي 1/ 254. وأخرج نحوه ابن عساكر 23/ 412 من طريق السَّائِب بن يزيد أنَّ رجلًا قال لعمر: إنِّي مررتُ برجلٍ يسألُ عن تفسير مُشْكِل القرآن. . . الأثر. كما أخرجه الدارمي 1/ 54 من طريق سليمان بن يسار: وفيه بلفظ: فجعل يسأل عن مُتَشابِهِ القُرْآن.
(3)
تنظر موافقات عمر في: الإتقان 1/ 127، في النوع العاشر: فيما أنزل من القرآن على لسان بعض الصحابة.