الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما يروى عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ بل اختلف تعاملهم حتى مع نفس المروي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بحسب مضمونه كما سلف.
ولا شك أن منطق الفطرة والعقل يقتضي أن يكون احتياطهم وتشددهم في المروي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وما يجري مجراه مما له حكم الرفع أكثر وأشد مما سوى ذلك من الأخبار، إذ الثابت عنه تشريع معصوم، والمروي عن غيره رأي غير معصوم، وإذا كانت درجات التشدد والتساهل تختلف صعودًا ونزولًا حتى في المروي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فبالأحرى ستختلف درجاتها عمن سواه، ولهذا كان تحصيل غلبة الظن بقبول الخبر عن غير رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أيسر من تحصيلها فيما يروى عنه صلى الله عليه وسلم.
ولذا؛ نقل عن سعد بن إبراهيم قوله: "ليس يحدث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا الثقات"
(1)
، ونقل عن أحمد قوله في جويبر بن سعيد:"ما كَانَ عن الضحاك فهو على ذاك أيسر، وما كَانَ بسند عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو منكر"
(2)
.
وكذا تختلف قيمة الأخبار الثابتة عن الصحابة وترتفع درجتها عن أخبار من بعدهم في بعض الأبواب والأحوال، وتختلف تبعًا لذلك درجات التشدد والتساهل المؤثرة في القبول والرد. . . إلخ.
*
المحدد الثالث: إصابة ناقل الخبر أو خطؤه:
الحكم الذي يصدره الناقد بقبول الرواية أو ردِّها عبر هذا المحدد مداره على إصابة الراوي أو خطئه؛ فالعلة التي يؤسس الناقد عليها حكمه بقبول الرواية أو ردّها هي وقوع الخطأ في الرواية أو عدم وقوعه، فالخطأ خطأ ولو رواه الثقة، والصواب صواب ولو رواه الضعيف، ولا ينقلب الخطأ صوابًا برواية الثقة له، ولا ينقلب الصواب خطأ برواية الضعيف له
(3)
، لأنه ليس ثمَّ توثيق مطلق أو تضعيف مطلق للرواة بحيث يكون القبول ملازمًا لكل مرويات مَنْ وُصِف بالثقة، أو الرد ملازمًا لكل مرويات من وصف بالضعف؛ ولذا فليس من الصواب اعتماد مجرد الأوصاف
(1)
الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2/ 31.
(2)
تهذيب الكمال في أسماء الرجال 5/ 168.
(3)
وليس معنى ذلك قبول كل ما أصاب فيه الضعيف مطلقًا؛ لكون إصابته في بعض الروايات مفتقرة إلى قرائن أخرى تؤهلها لاعتماد الناقد لها وقبولها.
النقدية للأئمة في كل رواية دون تحقيق مناطات تلك الأوصاف وتنقحيها والخبرة بكيفيات تطبيقها!
قال الخليلي: "وإذا أُسنِدَ لك الحديث عن الزهري وعن غيره من الأئمة فلا تحكم بصحته بمجرد الإسناد، فقد يخطئ الثقة"
(1)
.
وقال أبو الوليد الباجي: "وقد يكون الحديث يرويه الثقة عن الثقة ولا يكون صحيحًا؛ لعلة دخلته من جهة غلط الثقة فيه، وهذه الوجوه كلها لا يعرفها إلا من كان من أهل العلم بهذا الشأن وتتبع طرق الحديث واختلاف الرواة فيه، وعرف الأسماء والكنى
(2)
.
فكلامهم ظاهر جدًّا في أن نظر الناقد متجه للخطأ من حيث تسربه للخبر أو انتفائه عنه لا لذات الثقة ولا لذات الضعيف؛ لكون الحكم النقدي لا بد أن يكون مؤسسًا على شيء ثابت؛ وهو الجزم بانتفاء الخطأ أو الجزم بوقوعه، وهذا لا يكفي فيه مجرد كون الراوي من حيث الأصل ثقة أو ضعيفًا لما يلي:
أ- أن التوثيق لا يعني العصمة من الخطأ، والتضعيف لا يمنع من إصابة الصواب.
ب- أن الرواة بَشَرٌ تعتريهم مجموعة من العوامل والعوارض الزمانية والمكانية والعلمية وغيرها، التي تجعل رواياتهم تتفاوت صعودًا ونزولًا، قوة وضعفًا، ضبطًا ووهمًا، فمنهم من يعتريه الخطأ لكِبَر سنِّه أو لمرضٍ لحقه أو لاختلاطِ عقله أو لضياعِ كتبه أو لتميزه في حديث بلدٍ دون بلدٍ أو شيخٍ دون شيخ أو لروايته عن شيخٍ في وقتٍ أو حالٍ لم يقبل أهل العلم فيه رواية شيخه، أو لغير ذلك من العوامل والعوارض.
ولما كان الحكم على الرواة يكتنفه جَانِبَا العدالة والضبط؛ نظر النقاد إلى جانب العدالة فردوا أحاديث كل من سقطت عدالته؛ وكان على رأس هؤلاء:
• من عُرِفَ بالكذب في روايته؛ فردوا روايته ولم يعتبروها في شيء من أمور الدين، قال البيهقي في معرض تصنيفه للرواة مقررًا ذلك: ". . . وَضَرْبٌ رواه من كان معروفًا بوضع الحديث والكذب فيه؛ فهذا الضّرب لا يكون مستعملًا في شيء
(1)
الإرشاد للخليلي 1/ 201.
(2)
التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الجامع الصحيح 1/ 297.
من أمور الدين إلا على وجه التّليين"
(1)
.
• المتمادي في غلطه الذي نَبَّهَهُ النُّقَّاد على خطئه فلم يرجع؛ فقد "قِيلَ لشُعبة: من الذي يترك الرواية عنه؟ قال: إذا أكثر عن المعروفين ما لم يعرف من المعروفين من الرواية، أو أكثر الغلط، أو تمادى في غلط مجتمع عليه؛ فلم يتهم نفسه عند اجتماعهم على خلافه، أو يتهم بكذب. أما سوى من وصفت فأروي عنهم"
(2)
، وقال حمزة بن يوسف السهمي في سؤالاته للدارقطني:"وسألته عمّن يكون كثير الخطأ؟ قال: إن نبّهوه عليه ورجع عنه فلا يسقط، وإن لم يرجع سقط"
(3)
.
ولما نظر النُّقّاد إلى جانب الضبط قسّموا الرواة إلى أصناف بحسب تفاوتهم في الضبط؛ قال عبد الرحمن بن مهدي: "المحدثون ثلاثة: رجل حافظ متقن؛ فهذا لا يختلف فيه، وآخر يوهم والغالب على حديثه الصحة؛ فهذا لا يترك حديثه، والآخر يوهم والغالب على حديثه الوهم؛ فهذا متروك الحديث"
(4)
، والنقاد وإن اعتمدوا ذلك التصنيف في جملته إلا أنهم لم يجعلوه تصنيفًا مطردًا للرواة في كل رواية وفي كل حال؛ بل عرفوا أن هذا الإجمال يكتنز بداخله كثيرًا من التفاصيل الدقيقة والأحوال الجزئية والقرائن الخفية التي تفتقر إليها عملية قبول الحديث أو رده، وذلك ما عبَّر عنه ابن رجب بعبارته الرائقة التي أصابت المحز:"ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه"
(5)
؛ ولذا ردَّ أهل العلم ونقاد الحديث بعض أحاديث الثقات وحكموا ببطلانها، لأنهم تيقنوا من وقوع الخطأ فيها من قبل الثقات: فمن ذلك ما رواه الخطيب بسنده عن محمد بن علي بن حمزة المروزي؛ أنه سأل ابن معين عن حديث رواه نعيم بن حماد، فقال ابن معين:"ليس له أصل. قلتُ: فنعيم بن حماد؟ قال: نعيم ثقة! قلتُ: كيف يحذث ثقةٌ بباطل؟ ! قال: شُبّه له"
(6)
؛ فتوثيق ابن معين لنعيم بن حماد لم يمنعه من تضعيف الخبر، وهو كاف وصريح فيما نحن بصدده والأمثلة على ذلك كثيرة
(7)
.
(1)
دلائل النبوة للبيهقي 1/ 34.
(2)
الضعفاء للعقيلي 1/ 13.
(3)
سؤالات حمزة للدارقطني ص 72.
(4)
المحدث الفاصل بين الراوي والواعي للرامهرمزي ص 406.
(5)
شرح علل الترمدي 2/ 582.
(6)
تاريخ بغداد (13/ 309).
(7)
ينظر: الإرشادات في تقوية الأحاديث بالشواهد والمتابعات ص 82 - 102، فقد حشد كثيرًا من الأمثلة على ذلك.
وكما ردَّ النقاد بعض أحاديث الثقات قبلوا بعض أحاديث الضعفاء لاعتبارات وقرائن قامت عندهم على صحتها؛ ولذا كان من أجوبة ابن حجر على من انتقدوا على البخاري روايته لبعض الضعفاء قوله: وقد تقرر أن البخاري حيث يخرج لبعض مَنْ فيه مقال لا يخرج شيئًا مما أنكر عليه"
(1)
.
وقال ابن رشيد السَّبتي مخاطبًا الإمام مسلمًا: ". . . وكذلك أيضًا حَكَمَ أهل الصناعة فيما أخرجتما من أحاديث الثقات الذين قد اختلطوا؛ فحملوا ذلك على أنه مما رُوي عنهم قبل الاختلاط، أو مما سَلِموا فيه عند التحديث"
(2)
.
ونقل ابن القيم اعتراضا على مسلم كذلك في إخراجه لبعض الضعفاء في صحيحه، ثم أجاب بقوله:"ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه؛ لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه، كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلط فيه"
(3)
؛ وإذًا "فليس الخوف الذي يعتري الناقد من ذات الراوي، بل هو فيما يمكن أن يكون الراوي فعله في الرواية فأفسدها، فإن غاية ما يمكن أن يصنعه الراوي المتروك أو الضعيف جدًّا، بل والكذاب في الرواية، هو أن يقلب إسنادًا أو يركب متنًا، وهذا قد يقع فيه هين الضعف، بل والثقة أحيانًا إذا ما أخطأ، فقد يدخل عليه حديث في حديث، وقد يقلب فيبدل كذابًا كان في الإسناد، فيضع مكانه ثقة، خطأ لا عمدًا، وقد يأتي إلى حديث معروف بإسناد ضعيف، فيبدل إسناده بإسناد آخر صحيح، وقد يُسقط من الإسناد كذابًا أو متروكًا كان فيه، ويُسوِّي الحديث ثقة عن ثقة، وَهْمًا لا عمدًا؛ غاية ما هنالك، أن الثقة قلّما يقع منه ذلك، بخلاف الضعيف والمتروك؛ فإنه كثيرًا ما يقع منه ذلك، ولهذا ضعفوا الضعيف، ولها يضعفوا الثقة، وإن كانوا لم يترددوا في الحكم على هذا القليل الذي أخطأ فيه الثقة بالنكارة والبطلان"
(4)
.
(1)
مقدمة الفتح 1/ 189.
(2)
السنن الأبين ص 158.
(3)
زاد المعاد في هدي خير العباد 1/ 353.
(4)
الإرشادات في تقوية الأحاديث بالشواهد والمتابعات ص 102، 103، بتصرف.