الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وابن عباس لم يحضر هذه الواقعة قطعًا؛ لأنه لم يولد بعد، فيكون رواها عن غيره من الصحابة الذين قد حضروها، أو سمعوها ممن حضرها، واللَّه أعلم.
تعبير الصحابة عن سبب النزول:
وغالبًا ما تكون عبارتهم الصريحة في ذلك: "فأنزل اللَّه"، أو عبارة "فأنزلت" أو عبارة "فنزلت" الدالة على التعقيب.
ومن أمثلة ذلك:
1 -
ما رواه البخاري عن ابن مسعود (ت: 32 هـ) في قوله تعالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ} [فصلت: 22]، قال: "كان رجلان من قريش وَخَتَنٌ
(1)
لهما من ثقيف، أو رجلان من ثقيف وختن لهما من قريش في بيت، فقال بعضهم لبعض: أترون أن اللَّه يسمع حديثنا؟!
قال بعضهم: يسمع بعضه. وقال بعضهم: لئن كان يسمع بعضه لقد يسمع كله، فأنزلت:{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ} [فصلت: 22] "
(2)
.
2 -
روى البخاري (ت: 256 هـ): عن خباب (ت: 37 هـ)، قال: "جئت العاص بن وائل السهمي أتقاضاه حقًّا لي عنده، فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. فقلت: لا، حتى تموت، ثم تبعث.
قال: وإني لميت ثم مبعوث؟! قلت: نعم.
قال: إن لي هناك مالًا وولدًا، فأقضيكه، فنزلت:{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 77 - 78] "
(3)
.
3 -
روى البخاري (ت: 256 هـ) عن ابن عمر (ت: 73 هـ) قال: "لما توفي عبد اللَّه [ابن أُبي بن سلول، جاء ابنه عبد اللَّه بن عبد اللَّه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليصلي،
(1)
قال في القاموس المحيط: "الخَتْنُ: القطع، وبالتحريك: الصهر، أو كل من كان من قبل المرأة كالأب والأخ".
(2)
رواه البخاري في كتاب التفسير من صحيحه، باب:{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ} من سورة فصلت، رقم الحديث (4816).
(3)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير من صحيحه، باب {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا} من سورة مريم، رقم الحديث: 4732، وينظر ما بعدها من الروايات، فهي في القصة نفسها، وقد ورد في الرواية رقم (4733) التي تليها عبارة:"فأنزل اللَّه".
فقام عمر، فأخذ بثوب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه، تصلي عليه، وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ !
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنما خيرني اللَّه، فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة: 80]، وسأزيد على السبعين".
قال: إنه منافق. قال: فصلى عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأنزل اللَّه:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] "
(1)
.
وقد يرد غير هذه العبارات مما يوحي بسبب النزول المباشر، ويؤخذ ذلك من العبارة وسياقها، ومن أمثلة ذلك:
ما أخرجه البخاري (ت: 256 هـ) عن ابن عباس (ت: 68 هـ)، عن عمر بن الخطاب (ت: 23 هـ) أنه قال: "لما مات عبد اللَّه بن أبي بن سلول دعي له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وثَبْتُ إليه، فقلت: يا رسول اللَّه، أتصلي على ابن أبي، وقد قال يوما كذا وكذا وكذا؟ ! قال: أعدد عليه قوله. فتبسم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال: أخّر عني يا عمر. فلما أكثرت عليه قال: إني خيرت، فاخترت، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها. قال: فصلى عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم انصرف. فلم يمكث إِلا يسيرًا حتى نزلت الآيتان من براءة:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} إلى قوله: {وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84].
قال: فعجبت بعد من جرأتي على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، واللَّه ورسوله أعلم"
(2)
.
والأصل في هذه الأسباب الصريحة التي يرويها الصحابة مباشرة، أو يرويها بعضهم عن بعض أنها في حكم المرفوع، إِلا إذا ظهر ما يدل على أن الصحابي قالها باجتهاد، وهو لا يقصد سبب النزول المباشر، بل يريد أن ما ذكره يدخل في حكم الآية، وهذا يعرف في محله من المثال.
ومن أمثلة ذلك:
1 -
ما روى البخاري (ت: 256 هـ) عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: "قال رجل: يا رسول اللَّه، أي الذنب أكبر عند اللَّه؟
(1)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير من صحيحه، باب:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} من سورة التوبة، رقم الحديث (4670).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير من صحيحه، باب {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} من سورة التوبة، رقم الحديث (4671).
قال: "أن تدعو لله ندًّا، وهو خلقك". قال: ثم أي؟
قال: "ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك". قال: ثم أي؟
قال: "ثم أن تزاني بحليلة جارك".
فأنزل اللَّه عز وجل تصديقها: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} الآية [الفرقان: 68] "
(1)
.
فعبارة: (فأنزل اللَّه) التي قالها ابن مسعود لا يريد بها سبب النزول المباشر، وذلك ظاهر من النص.
2 -
وما روى مسلم (ت: 261 هـ) عن شقيق بن عقبة، عن البراء بن عازب، قال: "نزلت هذه الآية: (حافظوا على الصلوات وصلاة العصر) فقرأناها ما شاء اللَّه، ثم نسخها اللَّه، فنزلت:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238].
فقال رجل -كان جالسًا عند شقيق- له: هي إذن صلاة العصر.
فقال البراء: قد أخبرتك كيف نزلت، وكيف نسخها اللَّه، واللَّه أعلم"
(2)
.
وليست عبارة (فنزلت) مما يراد به سبب النزول كما هو ظاهر من خلال النص؛ لأن المراد ذكر نزول الآية الناسخة، وليس بيان أن سبب نزول الآية الناسخة هو نزول الآية التي نسخت.
وبهذا تعلم أنه ليس هناك عبارات يمكن أن يجزم بها على الإطلاق؛ لأن الصحابة ومن جاء بعدهم من التابعين وتابعيهم يتسامحون في إطلاق مثل هذه العبارات.
وسبب النزول الصريح يبنى عليه التفسير، ولا تجوز مخالفته، بل يكون دليلًا على بطلان التفسير الذي يخالف ما دل عليه السبب، ومن أمثلة ذلك ما ورد في سبب نزول قوله تعالى:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]، فقد ورد عن البراء، قال: "كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، فأنزل اللَّه: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الديات، باب قوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93]، برقم (6861).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، برقم (630).