الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث تطبيقات المنهج عند المفسرين المحررين
كان المفسرون من أهل التحرير والنظر على استحضار كامل لكل ما سبقت الإشارة إليه ولما هو أكثر منه، وجمعت نظرتهم بين تكاملية المنهج الحديثي وبين موضوع التفسير وغرضه وغايته؛ بل حكموا معاييره في بعض النطاقات الخاصة بعلم التفسير.
وإن المطالع لكتب هؤلاء المفسرين الجامعين بين المعرفة بالتفسير والحديث، سيجد أنهم لم يخرجوا عن الإطار العام والأسس الكلية الكبرى لمنهج المحدثين في نقد الأخبار والآثار المروية، وما سنذكره هنا إنما هو الظاهر من منهجهم؛ وأما ما خفي ودق فيبصره أهل الصبر على تلك المصنفات الراغبين في استكشاف مناهج أئمتها، وقد سبقت الإشارة إلى بعض معالمه الكلية في هذا البحث، وقد تتبعت صنيع الطبري وابن عطية وابن كثير خاصة؛ فظهر لي أن منهجهم في نقد مرويات التفسير يدور حول ما يلي:
1 -
اشتراط ثبوت التفسير المروي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عند إرادة الاحتجاج بكونه تفسيرًا نبويًّا؛ إِذْ التفسير النبوي حجة على ما عداه، فإن لم يثبت وكان تفسير الآية بمقتضاه صحيحًا لم يكن ذلك مانعًا من تفسير الآية به، لكن لا على كونه تفسيرًا نبويًّا؛ بل على كونه معنى صحيحًا في الآية، فقد يكون الحديث ضعيفًا لكن معناه مفسر للآية وصادق عليها ومناسب لها، وقد نصَّ الزركشي على ضرورة التثبت من صحة المروي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في التفسير فقال:"واعلم أن القرآن قسمان: أحدهما ورد تفسيره بالنقل عمن يعتبر تفسيره، وقسم لم يرد، والأول ثلاثة أنواع: إما أن يرد التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة، أو عن رؤوس التابعين؛ فالأول يبحث فيه عن صحة السند. . . "
(1)
.
(1)
البرهان 2/ 172.
وقد كان المحررون من المفسرين ساعة اختلاف الأقوال واستناد أحدها إلى تفسير نبوي؛ يحكمون بصواب القولط المستند للتفسير النبوي إذا ثبتت صحته ويجعلون ما عارضه خطأ، أو يجعلون القطع بالمعنى الذي تضمنه التفسير النبوي متوقفًا على ثبوت صحته.
ومن أمثلة ذلك: ما ورد عن السلف في معنى الكلمات التي ابتلى اللَّه بها إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124]؛ فقد حكى المفسرون فيها عن السلف أقوالًا، حكاها الطبري وغيره، وقال الطبري بعد حكايته لها:"والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن اللَّه عز وجل أخبر عباده أنه اختبر إبراهيم خليله بكلمات أوحاهن إليه، وأمره أن يعمل بهن فأتمهن. . . وجائز أن تكون تلك الكلمات جميع ما ذكره من ذكرنا قوله في تأويل الكلمات، وجائز أن تكون بعضه. . . وغير جائز لأحد أن يقول: عنى اللَّه بالكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم شيئًا من ذلك بعينه دون شيء، ولا عنى به كل ذلك، إلا بحجة يجب التسليم لها: من خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إجماع من الحجة. ولم يصح في شيء من ذلك خبر عن الرسول بنقل الواحد، ولا بنقل الجماعة التي يجب التسليم لما نقلته. غير أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نظير معنى ذلك خبران، لو ثبتا، أو أحدهما؛ كان القول به في تأويل ذلك هو الصواب. ثم ذكر الخبرين أحدهما عن سهل بن معاذ عن أبيه والآخر عن أبي أمامة ثم قال: فلو كان خبر سهل بن معاذ عن أبيه صحيحًا سنده كان بيّنًا أن الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم فقام بهن، وهو قوله كلما أصبح وأمسى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17 - 18] أو كان خبر أبي أمامة عدولًا نقلته؛ كان معلومًا أن الكلمات التي أوحين إلى إبراهيم فابتلي بالعمل بهن أن يصلي كل يوم أربع ركعات، غير أنهما خبران في أسانيدهما نظر"
(1)
.
وقد زاد ابن كثير إيضاحًا؛ فقال بعد ذكر الحديثين: ". . . ثم شرع ابن جرير يضعف هذين الحديثين، وهو كما قال؛ فإنه لا تجوز روايتهما إلا ببيان ضعفهما، وضعفهما من وجوه عديدة، فإن كلًّا من السندين مشتمل على غير واحد من الضعفاء، مع ما في متن الحديث مما يدل على ضعفه"
(2)
.
(1)
تفسير الطبري 1/ 527، 528.
(2)
تفسير ابن كثير 1/ 167.
ومن أمثلته أيضًا: ما ورد في معنى العتيق في قوله تعالى: {وَليَطَّوَّفُوا بِالبيتِ العَتِيقِ} [الحج: 29]؛ فقد ورد عن السلف في معنى العتيق عدة أقوال:
القول الأول: أن اللَّه أعتقه من الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه وهدمه؛ فلذلك سمي عتيقًا. ورد ذلك عن ابن الزبير وقتادة.
القول الثاني: أن البيت أعتق من أن يملكه أحد فليس فيه لأحد شيء. عن مجاهد.
القول الثالث: أنه سمي عتيقًا لِقِدَمِه؛ فهو أول بيت وضع للناس. عن ابن زيد
(1)
.
قال الطبري بعد ذكره لهذه الأقوال: "ولكل هذه الأقوال التي ذكرناها عمّن ذكرناها عنه في قوله: {بِالبَيْتِ العِتِيقِ} وجه صحيح، غير أن الذي قاله ابن زيد أغلب معانيه عليه في الظاهر، غير أن الذي روي عن ابن الزبير أولى بالصحة، إن كان ما حدثني به محمد بن سهل البخاري قال: ثنا عبد اللَّه بن صالح قال: أخبرني الليث عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن الزهري عن محمد بن عروة عن عبد اللَّه بن الزبير قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنما سمي البيت العتيق؛ لأن اللَّه أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه قط" = صحيحًا"
(2)
.
فها هو يترك المعنى الغالب على الكلمة لمعنى آخر تحتمله لدلالة الحديث على هذا المعنى الآخر، لكنه جعل رجحان هذا المعنى مشروطًا بصحة الحديث، فإن ثبتت عدم صحته فقول ابن زيد أرجح.
ومن أمثلته أيضًا: ما ورد عن السلف في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]؛ حيث اختلفوا: هل الإفطار في السفر رخصة أو عزيمة؛ وقد حكى الطبري الخلاف عنهم في ذلك، ثم رجح القول بأنه رخصة، ثم رد على من استدل بحديث:"الصائم في السفر كالمفطر في الحضر"
(3)
(1)
تنظر الأقوال الثلاثة في: تفسير الطبري 17/ 151.
(2)
تفسير الطبري 17/ 151، 152.
(3)
أخرجه النسائي في سننه، كتاب الصيام، باب ذكر قوله: الصائم في السفر كالمفطر في الحضر، ح (2287)، ص 338، موقوفًا على عبد الرحمن بن عوف، وابن ماجه في سننه بنحوه مرفوعًا، كتاب الصيام، باب ما جاء في الإفطار في السفر، ح (1666) 1/ 532، والبيهقي في سننه، كتاب الصيام، باب الرخصة في الصوم في السفر، ح (7955) 4/ 244، وهو حديث ضعيف، ذكر الاختلاف في روايته أبو حاتم في علل الحديث 2/ 28، برقم (694)، والدارقطني في العلل 4/ 281، برقم (564)، ورجحا أن الصحيح كونه من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه موقوفًا، وأبو سلمة لم يسمع من أبيه، ينظر: المراسيل ص 255، برقم (475)، تهذيب التهذيب 6/ 370.
على أن الصوم في السفر عزيمة فقال: "وغير جائز أن يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قيل ذلك؛ لأن الأخبار التي جاءت بذلك عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم واهية الأسانيد، لا يجوز الاحتجاج بها في الدين"
(1)
.
ومن أمثلته أيضًا: ما وقع من اختلاف في قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 4]؛ حيث اختلفوا: هل إِمساك الصائد عن الأكل شرط في صحة التعليم أم لا؟ وقد عرض الطبري الخلاف ثم قال: "فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما حدثنا به عمران بن بكار الكلاعي، قال: حدثنا عبد العزيز بن موسى، قال: حدثنا محمد بن دينار عن أبي إياس عن سعيد بن المسيب عن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه؛ فليأكل ما بقي"؟
(2)
قيل: هذا خبر في إسناده نظر؛ فإن سعيدًا غير معلوم له سماع من سلمان، والثقات من أهل الآثار يقفون هذا الكلام على سلمان، ويروونه عنه من قبله غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والحفاظ الثقات إذا تتابعوا على نقل شيء بصفة، فخالفهم واحد منفرد ليس له حفظهم؛ كانت الجماعة الأثبات أحق بصحة ما نقلوا من الفرد الذي ليس له حفظهم"
(3)
.
2 -
رواية الكذاب لا يسوغ الاعتماد عليها في التفسير أو في غيره؛ فالكذاب لا يصلح أن تتلقى رواياته وتوضع موضع القبول، وقد نصَّ العلماء على كون رواية الكذاب متروكة مطرحة، فقد قال ابن أبي حاتم في كلامه على طبقات الرواة ومنازلهم:"ومنهم من قد ألصق نفسه بهم -يقصد بالرواة المقبولة روايتهم- ودلسها بينهم، ممن قد ظهر للنقاد العلماء بالرجال منهم الكذب، فهذا يترك حديثه، ويطرح روايته، ويسقط ولا يشتغل به"
(4)
، وقال ابن المبارك:"من عقوبة الكذاب أن يرد عليه صدقه"
(5)
.
(1)
تفسير الطبري 2/ 155.
(2)
لم أقف عليه بهذا اللفظ، لكن ذكر ابن أبي شيبة في مصنفه 7/ 75، 76، برقم (19823) بسنده عن قتادة عن سعيد بن المسيب؛ قال: سألته عن الكلب يرسل على الصيد؛ فقال: كُل، وإن أكل ثلثيه، فقلت: عَنْ مَنْ؟ قال: عن سلمان، وذكر البيهقي نحوه في السنن الكبرى موقوفًا على سلمان 9/ 238.
(3)
تفسير الطبري 6/ 97. وينظر أمثلة أخرى في: تفسير الطبري 1/ 516، 2/ 140، تفسير ابن كثير 2/ 245، 246، 3/ 53، 529.
(4)
الجرح والتعديل 1/ 7.
(5)
ذكره الخطيب بسنده عن ابن المبارك، ينظر: الكفاية 1/ 358.
وقال البيهقي: ". . . وأما النوع الثاني من الأخبار، فهي أحاديث اتفق أهل العلم بالحديث على ضعف مخرجها، وهذا النوع على ضربين:
ضرب رواه من كان معروفًا بوضع الحديث والكذب فيه، فهذا الضرب لا يكون مستعملًا في شيء من أمور الدين إلا على وجه التليين. . . "
(1)
.
ومن أبرز المفسرين المتهمين بالكذبِ الكَلْبِيُّ، وقد صرح هو نفسه بذلك فقال:"ما حدثتُ عن أبي صالح عن ابن عباس فهو كذب فلا ترووه"
(2)
، ولهذا سئل أحمد عن تفسير الكلبي؛ فقال:"كذب. قيل: يحل النظر فيه؟ قال: لا"
(3)
.
وقد نصَّ الطبري على أن رواية الكلبي لا يجوز الاحتجاج بها، فقال في حديثه عن الأحرف السبعة: "فإن قال لنا قائل: فهل لك من علم بالألسن السبعة التي نزل بها القرآن؟ وأي الألسن هي من ألسن العرب؟
قلنا: أما الألسن السبعة
(4)
التي قد نزلت القراءة بها فلا حاجة بنا إلى معرفتها، لأنا لو عرفناها لم نقرأ اليوم بها، مع الأسباب التي قدمنا ذكرها.
وقد قيل: إن خمسة منها لعجز هوازن، واثنين منها لقريش وخزاعة.
روي جميع ذلك عن ابن عباس؛ وليست الرواية عنه من رواية من يجوز الاحتجاج بنقله، وذلك أن الذي روى عنه: أن خمسة منها من لسان العجز من هوازن الكلبي عن أبي صالح، وأن الذي روى عنه: أن اللسانين الآخرين لسان قريش وخزاعة قتادة، وقتادة لم يلقه، ولم يسمع منه"
(5)
.
فقد نصَّ الطبري على كون الكلبي غير محتج بروايته، ورغم كون تفسير الكلبي أطول التفاسير
(6)
، وتعرض الكلبي بالتفسير والرواية لمعظم آيات القرآن، إلا أن الطبري لم يورد له إلا مواضع قليلة جدًّا في تفسيره، وكان أغلبها من رأي الكلبي لا
(1)
دلائل النبوة ومعرفة صاحب أحوال الشريعة 1/ 33.
(2)
تهذيب التهذيب 4/ 117.
(3)
المجروحين من المحدثين لابن حبان 2/ 263، ت: حمدي السلفي.
(4)
وقع في المطبوع: "الألسن الستة"، وهو هكذا في تفسير الطبري، تحقيق: شاكر 1/ 66، ولعل الصواب:"الألسن السبعة" -كما ذكرت- فالسؤال الذي أورده الطبري وجوابه عنه صريح في أنها سبعة. واللَّه أعلم.
(5)
تفسير الطبري 1/ 29.
(6)
قال ابن عدي: "وهو رجل معروف بالتفسير، وليس لأحد تفسير أطول ولا أشبع منه". الكامل 7/ 282.
من روايته
(1)
، وإذا ذكر شيئًا مما رواه فإما أن يبين ضعفه
(2)
، وإما أن يذكر روايته تابعة لرواية غيره أو مقرونة بها
(3)
.
والمعصود: أنه لم يعتمد على تفسيره، ولم يذكر آراءه إلا إذا وافقت رأي غيره من الثقات: وأما روايته فإما أن ينص على ضعفها، وإما أن يسوقها مقرونة برواية غيره فتزول الريبة من روايته.
ويلحق بالكذب ما ثبت لدى الناقد خطؤه، فما ثبت خطؤه لا يمكن اعتباره إذ هو ساقط ملغى، فلا يمكن الجزم بنسبة التفسير لقائله طالما ثبت خطأ الرواة في حكاية إسناد الرواية، وقد سبق بيان ذلك والتمثيل عليه من علل ابن أبي حاتم.
3 -
اشتراط ثبوت ما لا يقال مثله بالرأي؛ لأنه إذا ثبت يكون له حكم الرفع، ومما يدخل فيه الإخبار عن الأمور الغيبية، أو المقطوع بكونه من أسباب النزول، أو نحو ذلك.
وقد نصَّ الطبري على هذا؛ فقال عند قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30]: "وإنما تركنا القول بالذي رواه الضحاك عن ابن عباس، ووافقه عليه الربيع بن أنس
(4)
، وبالذي قاله ابن زيد
(5)
في تأويل ذلك؛ لأنه لا خبر عندنا بالذي قالوه من وجه يقطع مجيئه العذر، ويلزم سامعه به الحجة؛ والخبر عما مضى وما قد سلف، لا يدرك علم صحته إلا بمجيئه مجيئًا يمتنع معه التشاعر والتواطؤ، ويستحيل معه الكذب والخطأ والسهو، وليس ذلك بموجود كذلك فيما حكاه الضحاك عن ابن عباس، ووافقه عليه الربيع، ولا فيما قاله ابن زيد"
(6)
.
وعند قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة: 127] ذكر الطبري الخلاف في قواعد البيت: هل كان آدم عليه السلام رفعها ثم انهدمت فأظهرها إبراهيم عليه السلام، أم أنها قواعد بيت أهبطه اللَّه لآدم من السماء؟ إلى غير ذلك، ثم قال: "ولا علم عندنا بأي ذلك كان؛ لأن حقيقة ذلك لا تدرك إلا بخبر عن اللَّه وعن رسوله صلى الله عليه وسلم
(1)
ينظر على سبيل المثال: تفسير الطبري 1/ 100، 7/ 217، 232، 9/ 97، 10/ 62، 12/ 70.
(2)
ينظر: تفسير الطبري 1/ 34، 88، 93.
(3)
ينظر: تفسير الطبري 9/ 227، 10/ 49، 16/ 41، 42، 44.
(4)
وهو القول بأن الجن كانوا يسكنون الأرض قبل آدم.
(5)
وهو القول بأن الملائكة قالت ذلك تعجبًا من أن يخلق اللَّه من يعصيه.
(6)
تفسير الطبري 1/ 209.
بالنقل المستفيض، ولا خبر بذلك تقوم به الحجة فيجب التسليم له، ولا هو مما يستدل عليه بالاستدلال والمقاييس فيمثل بغيره، ويستنبط علمه من جهة الاجتهاد"
(1)
.
ومن أمثلته: ما أورده الطبري في قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] حيث قال: "واختلف أهل التأويل في المَعني بقوله: {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}؛ فقال بعضهم: كان قائل ذلك رجلًا من اليهود. . . وقال آخرون: هذا خبر عن مشركي قريش أنهم قالوا: ما أنزل اللَّه على بشر من شيء"
(2)
.
ثم قال: ". . . وإذا لم يكن بما روي من الخبر بأن قائل ذلك كان رجلًا من اليهود خبر صحيح متصل السند، ولا كان على ذلك من أهل التأويل إجماع، وكان الخبر من أول السورة ومبتدئها إلى هذا الموضع خبرًا عن المشركين من عبدة الأوثان وكان قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} موصولًا بذلك غير مفصول منه لم يجز لنا أن ندعي أن ذلك مصروف عما هو به موصول؛ إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل"
(3)
.
ومن أمثلته أيضًا: قول ابن عطية: "وروي في أمر {يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} [الكهف: 94] أن أرزاقهم هي من التنين يمطرونها، ونحو هذا مما لم يصح، وروي أيضًا أن الذَّكر منهم لا يموت حتى يولد له ألف، والأنثى لا تموت حتى تخرج من بطنها ألف؛ فهم لذلك إذا بلغوا العدد ماتوا، ويروى أنهم يتناكحون في الطرق كالبهائم، وأخبارهم تضيق بها الصحف، فاختصرتها لضعف صحتها"
(4)
.
ومن أمثلة ذلك أيضًا: ما ذكره ابن كثير عند قوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]؛ قال: "وقد روى الحافظ ابن مردويه من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي عن قتادة عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا: "أنها نزلت في الصلاة في النعال". ولكن في صحته نظر"
(5)
.
ومن أمثلته أيضًا: ما ذكره ابن عطية عند قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا
(1)
تفسير الطبري 1/ 549.
(2)
تفسير الطبري 7/ 268، بتصرف يسير.
(3)
تفسير الطبري 7/ 268، 269.
(4)
المحرر الوجيز 3/ 542.
(5)
تفسير ابن كثير 2/ 211.
سَعَى} [النجم: 39] قال: "وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} منسوخ بقوله: {وَالَّذِينَءَامَنُوا وَاتَبَعَتْهُمْ ذُرِّيَتَهُمْ بِإِيمَانٍ أَلحَقَنَا بِهِمْ ذُرِّيهُمْ} [الطور: 21]، وهذا لا يصح عندي على ابن عباس؛ لأنه خبر لا ينسخ. . . اللَّهُمَّ إلا أن يتجوز في لفظ النسخ ليفهم سائلًا"
(1)
.
وتجدر الاشارة إلى: أن السلف كانوا يطلقون النزول على كل ما تصدق عليه الآية من الأحداث والمعاني والقصص، سواء كان هذا الحدث أو هذا المعنى سابقًا على الآية، أو مقارنًا لها أو متأخرًا عنها، وسواء كان هو سبب النزول أم لا، وبناء عليه فالذي يجب بيان صحته أو ضعفه ما كان مرادًا به أنه سبب نزول الآية لا غير.
كما تجدر الاشارة إلى: أن الأخبار الغيبية لا تعامل كلها معاملة واحدة؛ بل ينبغي التفريق بين ما كان واردًا عن بني إسرائيل وما لم يكن واردًا عنهم، فالأول لا يمكن الحكم عليه بصحة أو ضعف بخلاف الثاني؛ إذ ضابط القبول والرد لأخبار بني إسرائيل ليس هو الإسناد، إذ الإسناد خاصية من خصائص هذه الأمة، وإنما الضابط هو: موافقة الشرع أو عدم مواِفقته؛ فما كان موافقًا قُبِلَ، وما كان مُخَالِفًا رُدّ، وما لم تظهر موافقته أو مخالفته تُوقِّف فيه وجازت حكايته.
نعم؛ قد يكون الحكم على السند الموصل للصحابي أو التابعي الذي نقل هذه الإسرائيلية بالصحة أو الضعف، وأما الرواية الإسرائيلية نفسها فضابط قبولها أو ردها موافقة الشرع أو لا.
4 -
اشتراط ثبوت التفسير عن قائله إذا كان مخالفًا لما ثبت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أو مخالفته لما هو متقرر وثابت في الشرع؛ فإذا روي عن مفسر من السلف قول بخلاف المتقرر في الشرع، أو بخلاف ما دلَّ عليه الحديث النبوي؛ وجب التثبت من صحة ثبوته عنه قبل نسبته له.
ومن أمثلة ذلك: ما ذكره ابن عطية في قوله تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41] قال: "روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: كانت نكباء. وهذا عندي لا يصح عن علي رضي الله عنه؛ لأنه مردود بقوله صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالصَّبَا،
(1)
المحرر الوجيز 5/ 206. وينظر أمثلة أخرى في: تفسير الطبري 1/ 156: 157، 227، 293، 6/ 276، 7/ 164، المحرر الوجيز 1/ 127، 141، 187، 231، 343، 356، 2/ 311، 3/ 199، 482، 522، 5/ 208، 365، تفسير ابن كثير 1/ 77، 112.
وأهلكت عاد بالدَّبُور"
(1)
"
(2)
.
ومن أمثلة ذلك أيضًا: ما رواه عمرو بن عبيد عن الحسن في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} [المائدة: 27]، قال:"كان الرجلان اللذان في القرآن، اللذان قال اللَّه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} من بني إسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه؛ وإنما كان القُربان في بني إسرائيل، وكان آدم أول من مات"
(3)
، وقد رده الطبري
(4)
وابن عطية
(5)
وغيرهما.
قال الطبري عقب ذكره لقوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31]: "وهذا أيضًا أحد الأدلة على أن القول في أمر ابني آدم بخلاف ما رواه عمرو عن الحسن؛ لأن الرجلين اللذين وصف اللَّه صفتهما في هذه الآية لو كانا من بني إسرائيل، لم يجهل القاتل دفن أخيه ومواراة سوأة أخيه، ولكنهما كانا من ولد آدم لصلبه"
(6)
، ثم ساق الطبري من مراسيل الحسن ما يفيد أنه كان يقول أنهما كانا ابني آدم لصلبه
(7)
.
وقال ابن كثير: "وكلهم متفقون على أن هذين ابنا آدم لصلبه، كما هو ظاهر القرآن، وكما نطق به الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفْل من دمها، لأنه أول من سن القتل"
(8)
. وهذا ظاهر جَليّ، ولكن قال ابن جرير: "حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا سَهْل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن -هو البصري- قال: كان الرجلان اللذان في القرآن اللذان قال اللَّه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} من بني إسرائيل ولم يكونا ابني آدم لصلبه؛ وإنما كان القربان من بني
(1)
الصبا: ريح؛ ومهبها المستوي أن تهب من مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار، والدبور: ضد الصبا؛ أي: أن مهبها من جهة مغرب الشمس، والنكباء: كل ريح هبت من بين جهتين. ينظر: مختار الصحاح ص 356، فتح الباري 2/ 521.
(2)
المحرر الوجيز 5/ 180، والحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاستسقاء، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"نصرت بالصبا" ص 204، ح (1035)، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة الاستسقاء، باب: في ريح الصبا والدبور، 2/ 42: 43، ح (900).
(3)
تفسير الطبري 6/ 189.
(4)
تفسير الطبرى 6/ 194.
(5)
المحرر الوجيز 2/ 178.
(6)
تفسير الطبري 6/ 196.
(7)
تنظر هذه المراسيل في: تفسير الطبري 6/ 199، وسيأتي ذكرها في كلام ابن كثير.
(8)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب: خلق آدم وذريته، ح (3335) ص 678، ومسلم في صحيحه، كتاب القسامة، باب بيان إثم من سن القتل، ح (1677) 9/ 153.
إسرائيل، وكان آدم أول من مات" وهذا غريب جدًّا، وفي إسناده نظر"
(1)
.
ثم أيد ابن كثير هذه الغرابة والضعف بما ساقه من مراسيل الحسن التي تفيد أنه كان يرى أنهما ابني آدم لصلبه، فقال:"وقد قال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن الحسن قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن ابني آدم عليه السلام ضُربا لهذه الأمة مثلًا فخذوا بالخير منهما"
(2)
، ورواه ابن المبارك عن عاصم الأحول، عن الحسن قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه ضرب لكم ابني آدم مثلًا فخذوا من خيرهم ودعوا الشر"
(3)
.
ومن أمثلة ذلك أيضًا: ما روي عن مجاهد في المقصود بقوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف: 175]، قال ابن عطية: "وقال مجاهد: كان رشح للنبوءة وأعطيها، فرشاه قومه على أن يسكت ففعل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول مردود لا يصح عن مجاهد، ومن أعطي النبوءة فقد أعطى العصمة ولا بد، ثبت هذا بالشرع"
(4)
.
5 -
اشتراط ثبوت القول عن قائله عند كون المعنى المفسر به مخالفًا للمشهور أو الغالب من معنى الكلمة، أو مخالفًا للسياق.
ومن أمثلة ذلك: ما روي عن الضحاك في معنى قوله تعالى: {وَجاهِدُوْا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78]؛ فقد ساق الطبري المعنى المعروف للجهاد من كونه مرادًا به الجهاد في سبيل اللَّه ثم قال: "وقال آخرون: معنى ذلك: اعملوا بالحق حق عمله. وهذا قول ذكره عن الضحاك بعض من في روايته نظر"
(5)
.
ثم قال: "والصواب من القول في ذلك قول من قال: عني به الجهاد في سبيل اللَّه؛ لأن المعروف من الجهاد ذلك، وهو الأغلب على قول القائل: جاهدت في اللَّه"
(6)
.
ومن أمثلته أيضًا: ما ذكره ابن عطية عن ابن عباس في قوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] قال: "وروي عن ابن عباس في قوله: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} يريد به الشرع والدين {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ} يريد به القلوب؛ أي: أخذ النبيل بحظه، والبليد بحظه.
(1)
تفسير ابن كثير 2/ 46.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 14.
(3)
تفسير ابن كثير 2/ 46.
(4)
المحرر الوجيز 2/ 476، 477. وينظر أمثلة أخرى في: تفسير الطبري 5/ 44.
(5)
تفسير الطبري 17/ 205.
(6)
تفسير الطبري 17/ 205.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول لا يصح -واللَّه أعلم- عن ابن عباس؛ لأنه ينحو إلى قول أصحاب الرموز، ولا وجه لإخراج اللفظ عن مفهوم كلام العرب لغير علة تدعو إلى ذلك"
(1)
.
ومن ذلك أيضًا: ما ورد عن مجاهد في قوله تعالى عن بني إسرائيل: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] قال ابن كثير: "وقوله تعالى: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو حذيفة حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} قال: مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردة؛ وإنما هو مثل ضربه اللَّه؛ {كَمَثَلِ الحِمَارِ تَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]. . . وهذا سند جيّد عن مجاهد، وقول غريب خلاف الظاهر من السياق في هذا المقام وفي غيره، قال اللَّه تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} الآية [المائدة: 60] "
(2)
.
وغرض ابن كثير من التنصيص على جودة الإسناد في هذا الموضع بيان ثبوت هذا المعنى الغريب عن مجاهد.
6 -
اشتراط الثبوت عند ورود معنى تفسيري مخالف للمعنى المجمع عليه؛ فإذا أجمع السلف على معنى ما، وروي عن واحد منهم ما يخالف هذا الإجماع؛ فلا يسوغ نسبته لمخالفة الإجماع إلا بعد ثبوت هذا القول عنه.
ومما يمثل له بذلك: إجماع المفسرين في قوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [المائدة: 29] على أن المعنى: أريد أن تبوء بإثم قتلي وإثمك الذي عليك قبل ذلك، وقد نصَّ الطبري على هذا الإجماع
(3)
، ونقله عنه ابن كثير
(4)
.
وقد روي عن مجاهد أن المعنى: إني أريد أن تبوء بخطيئتي؛ فتتحمل وزرها وإثمك في قتلك إياي
(5)
، والمعنى: أن ذنوب المقتول كلها تحمل على القاتل.
ولما كان هذا القول مخالفًا للإجماع؛ قال الطبري: "هذا قول وجدته عن مجاهد،
(1)
المحرر الوجيز 3/ 308.
(2)
تفسير ابن كثير 1/ 105، بتصرف يسير. وينظر أمثلة أخرى في: تفسير الطبري 12/ 205، 1/ 673، المحرر الوجيز 1/ 306، 2/ 300، 3/ 239، 281، 4/ 323، تفسير القرطبي 2/ 286، تفسير ابن كثير 3/ 200، 4/ 233.
(3)
تفسير الطبري 6/ 193، وينظر: الإجماع ص 293.
(4)
تفسير ابن كثير 2/ 44.
(5)
تفسير الطبري 6/ 193.
وأخشى أن يكون غلطًا، لأن الصحيح من الرواية عنه ما قد ذكرنا قبل"
(1)
، ثم رجح أن الصواب هو القول الأول، ثم قال:"وإنما قلنا ذلك هو الصواب؛ لإجماع أهل التأويل عليه، لأن اللَّه -عزّ ذكره- قد أخبرنا أن كل عامل فجزاء عمله له أو عليه، وإذا كان ذلك حكمه في خلقه، فغير جائز أن يكون آثام المقتول مأخوذًا بها القاتل، وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر آثام معاصيه التي ارتكبها بنفسه دون ما ركبه قتيله"
(2)
.
ومن أمثلته أيضًا: قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]؛ فقد أجمعت الأمة على أن الأخوين يحجبان الأم من الثلث إلى السدس، ونصّ على هذا الإجماع: الطبري
(3)
، والواحدي
(4)
، وابن عطية
(5)
، وغيرهم.
وقد روي عن ابن عباس ما يخالف هذا الإجماع ولكنه لم يثبت عنه، ولذا قال ابن كثير: ". . . وحكم الأخوين فيما ذكرناه كحكم الإخوة عند الجمهور، وقد روى البيهقي من طريق شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس أنه دخل على عثمان فقال: إن الأخوين لا يَرُذَان الأم عن الثلث، قال اللَّه تعالى:{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} فالأخوان ليسا بلسان قومك إخوة، فقال عثمان: لا أستطيع تغيير ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس.
وفي صحة هذا الأثر نظر؛ فإن شعبة هذا تكلم فيه مالك بن أنس، ولو كان هذا صحيحًا عن ابن عباس لذهب إليه أصحابه الأخِصَّاء به، والمنقول عنهم خلافه"
(6)
.
7 -
اشتراط الثبوت عند ورود قولين متعارضين عن مفسر واحد، وإرادة الجزم بنسبتهما أو أحدهما إليه:
ومن أمثلة ذلك: ما ورد عن عمر في قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، فقد ورد عنه قولان:
أحدهما: أنه جعل المرأة الكتابية كالمشركة في حرمة نكاحها، وأنه أمر طلحة وحذيفة بفراق امرأتين من أهل الكتاب كان كل منهما قد تزوج بواحدة منهما.
ثانيهما: أنه يرى جواز نكاح المسلم للكتابية
(7)
.
وقد ذكر الطبري القول الأول ثم قال: ". . . وأما القول الذي روي عن عمر رضي الله عنه
(1)
تفسير الطبري 6/ 193.
(2)
تفسير الطبري 6/ 193.
(3)
تفسير الطبري 4/ 278.
(4)
الوسيط للإمام أبي الحسن الواحدي 2/ 20.
(5)
المحرر الوجيز 2/ 17، وينظر: الإجماع في التفسير ص 259.
(6)
تفسير ابن كثير 1/ 459. وينظر أمثلة أخرى في: المحرر الوجيز 2/ 346، 4/ 176.
(7)
ينظر: تفسير الطبري 2/ 377: 378.
من تفريقه بين طلحة وحذيفة وامرأتيهما اللتين كانتا كتابيتين فقول لا معنى له؛ لخلافه ما الأمة مجتمعة على تحليله بكتاب اللَّه -تعالى ذكره- من القول وخبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من القول خلاف ذلك بإسناد هو أصح منه، وهو ما حدثني به موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا سفيان بن سعيد عن يزيد بن أبي زياد عن زيد بن وهب قال: قال عمر: المسلم يتزوج النصرانية، ولا يتزوج النصراني المسلمة"
(1)
.
وقال ابن كثير بعد إيراده الأثر عن عمر بتفريقه بين طلحة وحذيفة وزوجتيهما: "وهذا الأثر غريب عن عمر"
(2)
.
ومن أمثلة ذلك أيضًا: ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَيَتْلُوُه شَاهِدٌ مِّنْهُ} [هود: 17]؛ فقد ورد عنه قولان متعارضان في المراد بالشاهد:
الأول: أن الشاهد هو علي نفسه.
الثاني: أنه ليس هو الشاهد، ولكن الشاهد لسان محمد
(3)
.
وقد ساق ابن تيمية القول الأول ثم قال: "وهذا كذب عَلَى عَلِيّ قطعًا، وقد رووا عن علي ما يعارض ذلك"
(4)
ثم ذكر أن ابن أبي حاتم أسند عن محمد بن علي، المعروف بابن الحنفية، قال:"قلت لأبي: يا أبة؛ {وَيَتْلُوُه شَاهِدٌ مِّنْهُ} إن الناس يقولون: أنك أنت هو، قال: وددت لو أني أنا هو؛ ولكنه لسانه"
(5)
. وقال ابن كثير: "وقيل: هو عليّ. وهو ضعيف لا يثبت له قائل"
(6)
.
8 -
اشتراط الثبوت عند إرادة إثبات قراءة ما عن واحد من الصحابة، ويتأكد ذلك إذا كانت القراءة المروية مخالفة للقراءة المشهورة المعروفة.
ومن أمثلة ذلك: ما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: {يأيُّهَا الَّذِيِنَءَامَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104]؛ قال الطبري: "وقد ذُكِرَ أنَّ قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: (لا تقولوا راعونا) بمعنى حكاية أمر صالحة لجماعة بمراعاتهم. . .
(1)
تفسير الطبري 2/ 378.
(2)
تفسير ابن كثير 1/ 257.
(3)
ينظر القولان في: تفسير ابن أبي حاتم 6/ 2014، 2015.
(4)
مجموع الفتاوى 15/ 85.
(5)
تفسير ابن أبي حاتم 6/ 2014، مجموع الفتاوى 15/ 85.
(6)
تفسير ابن كثير 2/ 440. وينظر أمثلة أخرى في: تفسير الطبري 6/ 193، بدائع التفسير 1/ 390، 3/ 106، تفسير ابن كثير 1/ 460، 2/ 28، 3/ 200، 558، البداية والنهاية 5/ 302.
ولا نعلم ذلك صحيحًا من الوجه الذي تصح منه الأخبار"
(1)
.
ومن أمثلته أيضًا: ما ورد عن أُبي بن كعب رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} [المائدة: 47]. قال الطبري: "وأما ما ذكر عن أبي بن كعب رضي الله عنه من قراءته ذلك: (وأن لِيَحْكُم) على وجه الأمر؛ فذلك مما لم يصح به النقل عنه"
(2)
.
9 -
اشتراط الثبوت عند كون المروي في التفسير متعلقًا به لأحكام أو بالحلال والحرام.
ومن أمثلته: قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]؛ فقد نصَّت الآية على أن الأخوين يحجبان الأم من الثلث إلى السدس، وقد روي عن ابن عباس ما يخالف هذا ولكنه لم يثبت عنه، ولذا قال ابن كثير:". . . وحكم الأخوين فيما ذكرناه كحكم الإخوة عند الجمهور، وقد روى البيهقي من طريق شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس؛ أنه دخل على عثمان رضي الله عنه فقال: إن الأخوين لا يَرُدَّان الأم عن الثلث، قال اللَّه تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} فالأخوان ليسا بلسان قومك إخوة، فقال عثمان رضي الله عنه: لا أستطيع تغيير ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس. وفي صحة هذا الأثر نظر؛ فإن شعبة هذا تكلم فيه مالك بن أنس، ولو كان هذا صحيحًا عن ابن عباس لذهب إليه أصحابه الأخِصَّاء به، والمنقول عنهم خلافه"
(3)
.
ومن أمثلته: ما ذكره ابن كثير في قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] قال: "وأما قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} ؛ فجمهور الأئمة على أن الربيبة حرام سواء كانت في حجر الرجل أو لم تكن في حجره، قالوا: وهذا الخطاب خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له كقوله تعالى:{وَلَا تُكرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البِغَاءِ إِن أَرَدنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33]. . . وقد قيل بأنه لا تحرم الربيبة إلا إذا كانت في حجر الرجل، فإذا لم يكن كذلك فلا تحرم، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعة، حدثنا إبراهيم بن موسى، أنبأنا هشام -يعني: ابن يوسف- عن ابن جريج، حدثني إبراهيم بن عبيد بن رفاعة، أخبرني ما لك بن أوس بن الحدثان، قال: كانت عندي امرأة فتوفيت، وقد ولَدَتْ لي، فوجِدْت عليها، فلقيني علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: مالك؟ فقلت: توفيت المرأة. فقال علي: لها ابنة؟ قلت: نعم، وهي بالطائف. قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا، هي بالطائف،
(1)
تفسير الطبري 1/ 473.
(2)
تفسير الطبري 8/ 484، تحقيق: التركي، وينظر أيضًا: تفسير الطبري 1/ 569، المحرر الوجيز 4/ 176.
(3)
تفسير ابن كثير 1/ 459. وينظر أمثلة أخرى في: المحرر الوجيز 2/ 346، 4/ 176.
قال: فانكحها. قلتُ: فأين قول اللَّه عز وجل: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} ؟ ! قال: إنها لم تكن في حجْرك؛ إنما ذلك إذا كانت في حجرك. هذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه على شرط مسلم، وهو قول غريب جدًّا"
(1)
.
فها هو ابن كثير نص على قوة إسناد هذا القول؛ لكونه دالًّا على حكم من الأحكام، وغرضه من ذلك بيان ثبوت مثل هذا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقد يقال: إن كل ما تقدم من مخالفة الحديث أو الإجماع أو المعنى المشهور مما يرد لمجرده القول، فنحن نرد القول لمجرد مخالفته واحدًا مما تقدم، فما الفائدة في صنيعهم ذلك؟
والجواب: أن الفائدة أننا لا نستطيع نسبة واحد من السلف إلى مخالفة الحديث أو الإجماع أو غير ذلك إلا بعد ثبوت ذلك عنه، وكذا لا نستطيع نسبة حكم شرعي إليه أو أخذه عنه إلا بعد ثبوته عنه، أما لو كان بيان معنى غير متعلق بشيء مما سبق، أو تحقيق مفردة لغوية، أو ذكر لبعض ما يدخل في الآية أو نحو ذلك مما لا يؤثر في قبوله جرح الناقل فلا بأس من التسامح في ذلك ونسبته إلى قائله، وغالب التفسير يعود إلى ذلك.
فمما سبق يتضح أن منهج المحررين من المفسرين اشتراط الثبوت في كل ما سلف ذكره، وأن ذلك كان تطبيقًا منهم لمنهج المحدثين حيال تلك المرويات، وأما ما عدا ما تقدم ذكره فلم يخرجوا فيه أيضًا عن منهج المحدثين، لكون ما عدا ذلك من المرويات له خصائصه وطبيعته التي لا يمكن تغييرها ولا إهمالها، وهذه المرويات رغم علمهم بعدم ثبوتها إلا أنهم اجتهدوا في توقي الخطأ المظنون من قبل عدم ثبوتها فجانبوا روايات الكذّابين، وراعو اتحاد المعنى وتعدد القائل، وراعو كذلك كثيرًا مما سبق ذكره من اختصاص بعض الرواة الضعفاء بالتفسير أو بمفسر معين، كما أنهم راعو كون كثير من مرويات التفسير من نسخ مشتهرة ومعتبرة عند أهل العلم، وأيضًا كون بعض المنقطع من تلك المرويات في حكم المتصل، إلى غير ذلك من القرائن التي سلف الحديث عنها، ثم ما كان خارجًا عما سلف ذكره من ناحية الثبوت وعدمه من تلك المرويات، وتيقن الناظر له من خروجه عن نطاق منهج المحدثين؛ فلا ينبغي التعجل بوصم الأئمة فيه بالخطأ قبل معرفة كيفيات إيرادهم له وعلل هذا الإيراد وأغراضهم منه.
(1)
تفسير ابن كثير 1/ 471 باختصار.