الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول المعيار الذي عليه المدار في نقد الأخبار
الغاية التي يسعى منهج نقد المحدثين لتحقيقها مؤسَّسة على معيار واحد عليه المدار في منهج النقد الحديثي؛ وهو غلبة الظن بصواب الرواية أو غلبة الظن بخطئها، فالمقبول ما غلب على الظن صوابه، والمردود ما غلب على الظن خطؤه. والتعبير بغلبة الظن صريح في أن مسألة القبول والرد في مجملها ومعظمها اجتهادية لا يقين فيها ولا قطع؛ يقول الدارمي في ردّه على بشر المريسي مقررًا أن المدار على غلبة الظن وأنه ليس ثم قطعيات يقينية:"ويلك! إن العلماء لم يزالوا يختارون هذه الآثار ويستعملونها، وهم يعلمون أنه لا يجوز لأحد منهم أن يحلف على أصحها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله البتة، وعلى أضعفها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله البتة. ولكنهم كانوا لا يألون الجهد في اختيار الأحفظ منها، والأمثل فالأمثل من رواتها في أنفسهم"
(1)
.
وقال العراقي: "فإِنَّ باب الرِّواية مبنيٌّ على غلبة الظن"
(2)
.
وقال ابن حجر: "تعليل الأئمة للأحاديث مبني على غلية الظن؛ فإذا قالوا: أخطأ فلان في كذا. لم يتعين خطؤه في نفس الأمر؛ بل هو راجح الاحتمال فيعتمد، ولولا ذلك لما اشترطوا انتفاء الشاذ؛ وهو ما يخالف الثقة فيه من هو أرجح منه في حد الصحيح"
(3)
.
ويقول السيوطي: "إذا قيل هذا حديث صحيح؛ فالمراد بحسب الظاهر وما اقتضاه إسناده، لا أنه مقطوع به في نفس الأمر؛ لجواز الخطأ والنسيان على الثقة، وكذا إذا قيل: حديث ضعيف؛ فالمراد أنه لم يصح إسناده فحكم بضعفه، عملًا بظاهر الإسناد
(1)
نقض الدارمي على بشر المريسي 2/ 644، 645.
(2)
طرح التثريب في شرح التقريب 2/ 105.
(3)
فتح الباري، لابن حجر 1/ 585، وينظر: شرح النووي على مسلم 1/ 128.
لا أنه كذب في نفس الأمر، لجواز صدق الكاذب، وإصابة من هو كثير الخطأ"
(1)
.
وهذا تقرير لحقيقة غابت عن كثير من التطبيقات المعاصرة؛ وهي أن أبواب الإعلال ونقد الروايات -وإن كان لها أصول تجري عليها وأطر تضبطها- إلا أنها لا تجري على سَنَنٍ واحد؛ بل تتفاوت درجات إعمالها وآليات توظيفها تفاوتًا بَيِّنًا بحسب كل رواية، لكون منهج نقد الأخبار متشعب المسالك مترامي الأطراف معقد التفاصيل بعيد الغور دقيق المسلك، إذ يبلغ من قمة الظهور أحيانًا ما يحسب معه الناظر أن ليس هناك خفاء، ويبلغ من قمة الوعورة والدقة والخفاء أحيانًا ما يظن معه أن ليس معه ظهور، وإنما مرد ذلك إلى كون النقاد يتعاملون مع كل رواية بحسبها وحسب قدرها وأثرها ومضمونها وما احتف بها، وقد عبَّر عن هذا المعنى عدد من العلماء؛ فقد نقل الزركشي عن ابن دقيق العيد قوله:". . . وأما أهل الحديث؛ فإنهم قد يروون الحديث من رواية الثقات العدول ثم تقوم لهم علل فيه تمنعهم من الحكم بصحته كمخالفة جمع كثير له أو من هو أحفظ منه، أو قيام قرينة تؤثر في أنفسهم غلبة الظن بغلطِهِ، ولم يجر ذلك على قانون واحد يستعمل في جميع الأحاديث"
(2)
، وقال ابن تيمية:"ولكل حديث ذوو، ويختص بنظر ليس للآخر"
(3)
، وقال ابن رجب:"ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه"
(4)
.
ومقصود هذه العبارات: أن المعيار الذي عليه مدار قبول الرواية أو ردِّها لا يجري على نسق واحد، ولا ينحصر في قالب بعينه، ولا يتشكل على هيئة واحدة؛ ذلك أن هذا المعيار يتفاوت صعودًا ونزولًا تشددًا وتساهلًا قبولًا وردًّا بحسب كل حالة ورواية، وتكمن مهارة الناقد وحذقه ونفوذ بصره في قدرته على استخدام هذا المعيار مع كل رواية بحسبها، فهو كالطبيب الحاذق يقلب جسد الرواية، ويستكشف أعراضها وينظر في مساراتها وارتباطاتها، وعلاقاتها ومسبباتها حتى يحسن تشخيص حال الرواية؛ بل حال كل أجزائها ومكوناتها، فيميز صحيحها من سقيمها، ويعرف مقدار تفاوتها في الصحة أو السقم، ويحدد حجم السقم ونوعه وأثره وسببه؛ فيعطي
(1)
البحر الذي زخر شرح ألفية الأثر 1/ 297.
(2)
النكت على مقدمة ابن الصلاح للزركشي 1/ 105.
(3)
مجموع الفتاوى 18/ 47.
(4)
شرح علل الترمذي 2/ 582.
كل رواية ما تستحق، ويحكم على الراوي الواحد ساعة بقبول روايته، وساعة أخرى بردِّها؛ لا عن هوى بل عن بصرٍ وعلم، فليس ثَمَّ -في الغالب- أمور قاطعة، أو قواعد صارمة، أو أحكام عامة شاملة يصلح إجراؤها على كافة الرواة والمرويات والفنون والمضامين، بحيث تصير أشبه بالمعادلات الرياضية التي لا بد أن تُنْتِجَ مقدماتُها نتائجَها، وهذا سر جلالة هذا المنهج ورقيّه، وسر عمقه وتشعبه.
ولا يعني ما سبق أن هذا المعيار متروك في بحر الرواية يسبح به كل ناقد كيف شاء في أي اتجاه وفي أي طريق بلا ضابط ولا رابط، كلا؛ بل ذلك المعيار له محددات كبرى تضبط اتجاهه، وأطر كلية تؤطر حركته، ومعالم عامة توجه مساره، ومن رحم تلك المحددات تتولد غلبة الظن، وهذه المحددات هي أركان الخبر الثلاثة السابق ذكرها، وهذا يؤكد ما سلف من إمساك المحدثين بمعاقد أركان الخبر وتأسيسهم منهجهم النقدي عليها، وذلك يستدعي منا إلماحًا إلى أركان الخبر، وبيان الارتباط الوثيق بينها وبين معيار القبول والرد، وما يتعلق به من إجراءات وآليات.