الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وظاهر من هذا الأثر أن هذين الصحابيين الجليلين لم يكن عندهما بيان نبوي مباشر بالمراد بالعاديات، إذ لو كان عند أحدهما لنصَّ عليه، كما هو المعروف من أحوالهم في الاختلاف، ولما كان الأمر راجعًا إلى الاجتهاد؛ وقع الاختلاف بينهما في المراد بالعاديات، ثم رجع ابن عباس (ت: 68 هـ) إلى قول شيخه علي بن أبي طالب (ت: 40 هـ).
والثاني: التفسير بالسُّنَّة غير المباشر، وهو: أن يعمد المفسر باجتهاده إلى كلام للنبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه ذكر آية، فيجعله تفسيرًا لها.
ومن ذلك ما روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول اللَّه يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللَّهُمَّ ربنا وبحمدك، اللَّهُمَّ اغفر لي، يتأول القرآن"
(1)
.
3 - اللغة:
كان التفسير باللغة أغلب تفسير السلف، وكان ذلك قبل بروز علماء العربية، واعتنائهم بتدوين اللغة؛ لذا فالحاجة للرجوع إلى تفسيراتهم اللغوية أصلٌ مقدَّم على الرجوع إلى أقوال أهل اللغة.
والصحابة -على وجه الخصوص- من أهل اللسان الذي نزل به القرآن، وتفسيرهم بلسانهم معتبر غير معترض عليه من جهة اللغة.
وأما التابعون، فكان فيهم من هو عربي محض، وهو في اللسان كالصحابة، وكان فيهم من هو من الموالي، وهؤلاء ممن تعلم العربية من مخاطبات الصحابة الذين علموهم؛ كعكرمة (ت: 105 هـ) مولى ابن عباس (ت: 68 هـ)، فقد كان من البربر، لكن لم يؤثر في تفسيره، ولا تفسير غيره، ما هو مخالف للعربية، ومن زعم ذلك في بعض الأمثلة، فإنه يرد عليه بأن إدراك هذا المباشر للغة العرب أعلى من إدراك من أخذها من الكتب، وكذا كان الحال في تفسير أتباع التابعين، فإنهم ما يزالون يعيشون في عصر الاحتجاج باللغة إِلا صغارهم، وأقل أحوالهم أن يكونوا نقلةً للغة، وبالجملة، فإن ما ينقل عنهم من التفسير المعتمد على اللغة حجة من جهة اللغة.
وترجيح أحد المحتملات التفسيرية المنقولة عن السلف حال الاختلاف لا يعني رد
(1)
صحيح البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب التسبيح والدعاء في السجود، برقم (4968).
المعنى المفسر به من جهة اللغة، لأن النظر في هذا إلى ترجيح أحد المحتملات من جهة التفسير
(1)
؛ فإذا قام مفسر بالترجيح بين أقوال السلف المعتمدة على اللغة، ورجح أحد المعاني على غيره، فإن ترجيحه لا يعني رد المعنى الأول من جهة اللغة، وإنما يعني رده من جهة التفسير فقط، فلو رجح مفسر أن النجم ما نجم من نبات الأرض، فلا يعني هذا أن يرد معنى أن النجم نجم السماء عند العرب، وكذا العكس.
وإنما يحكم برده للمعنى اللغوي إذا نص على ذلك، ومثال ذلك ما وقع من الطبري (ت: 310 هـ) في تفسير قوله تعالى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين: 26]، فقد أورد ثلاثة أقوال عن السلف:
الأول: ممزوج مخلوط، خِلْطُهُ مِسْكٌ.
الثاني: آخر شربهم مسك.
الثالث: طينته مسك؛ أي: غطاؤه الذي يغطى به.
ثم قال: "وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال: معنى ذلك: آخره وعاقبته مسك؛ أي: هي طيبة الريح، إن ريحها في آخر شربهم يختم لها بريح المسك.
وإنما قلنا: ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصحة؛ لأنه لا وجه للختم في كلام العرب إِلا الطبع والفراغ، كقولهم: ختم فلان القرآن: إذا أتى على آخره، فإذا كان لا وجه للطبع على شراب أهل الجنة، يفهم إذا كان شرابهم جاريًا، جري الماء في الأنهار، ولم يكن مُعَتَّقًا في الدِّنَانِ، فيطين عليها وتختم، تعين أن الصحيح من ذلك الوجه الآخر، وهو العاقبة والمشروب آخرًا، وهو الذي ختم به الشراب. وأما الختم بمعنى: الْمَزْجِ، فلا نعلمه مسموعًا من كلام العرب"
(2)
.
فالطبري -في هذا المثال- رد معنى لغويًّا واردًا عن ابن مسعود (ت: 32 هـ)، ورده هذا -مع إمامته- غير مقبول، لأن قول ابن مسعود حجة لغوية.
وقد يكون تفسير السلف غير مطابق للمعنى اللغوي، فيحتاج الناظر في كلامهم إلى أن يضم إليه ما تقتضيه لغة العرب وأسرارها؛ وذلك بالنظر في أمور:
(1)
ينظر: التفسير اللغوي للقرآن الكريم، للدكتور مساعد الطيار ص 611.
(2)
تفسير الطبري 24/ 219.
الأول: تحرير معنى اللفظة في اللغة، ويكون ذلك بالاستعانة بكتب اللغة، ككتاب "العين" للخليل بن أحمد (ت: 173 هـ)، وكتاب "جمهرة اللغة" لابن دريد (ت: 321 هـ)، وكتاب "تهذيب اللغة" للأزهري (ت: 370 هـ)، وكتاب"مقاييس اللغة" لابن فارس (ت: 395 هـ)، وغيرها.
كما يحسن أن يستعين بكتب غريب القرآن؛ كـ "مجاز القرآن" لأبي عبيدة (ت: 210 هـ)، و"غريب القرآن" لابن قتيبة (ت: 276 هـ)، و"مفردات ألفاظ القرآن" للراغب الأصفهاني (ت: 502 هـ)، و"عمدة الحفاظ" للسمين الحلبي (ت: 756 هـ)، وغيرها.
ويستعين كذلك بأقوال المفسرين المحققين في اللغة؛ كالطبري (ت: 310 هـ)، وابن عطية (ت: 546 هـ)، وأبي حيان (ت: 745 هـ)، والطاهر بن عاشْور (ت: 1394 هـ)، وغيرهم.
الثاني: البحث في العلاقة بين تفسير اللفظة عند السلف ومعناها المطابق في اللغة؛ ليتبين له مراد السلف من تفسيرهم.
وسيظهر له بالبحث علاقة تفسير السلف بأصل معنى اللفظة في اللغة، وقد نبَّه على هذه الفكرة مجموعة من العلماء، منهم الشوكاني (ت: 1250 هـ) حيث قال: ". . . واشدد يدك في تفسير كتاب اللَّه على ما تقتضيه اللغة العربية، فهو قرآن عربي كما وصفه اللَّه، فإن جاءك التفسير عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلا تلتفت إلى غيره، وإذا جاء نهر اللَّه بطل نهر معقل
(1)
.
وكذا ما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم فإنهم من جملة العرب ومن أهل اللغة، وممن جمع إلى اللغة العلم بالاصطلاحات الشرعية، ولكن إذا كان معنى اللفظ أوسع مما فسروه به في لغة العرب، فعليك أن تضم إلى ما ذكره الصحابي ما تقتضيه لغة العرب وأسرارها"
(2)
.
(1)
نهر معقل: نهر منسوب إلى الصحابي معقل بن يسار. ينظر: معجم البلدان، لياقوت الحموي، ط. دار صادر 5/ 323، والروض المعطار في خبر الأقطار، للحميري، تحقيق: إحسان عباس ص 538. وقال الثعالبي في معنى هذا المثل: "نهر اللَّه: من أمثال العامة والخاصة: إذا جاء نهر اللَّه بطل نهر معقل، وإذا جاء نهر اللَّه بطل نهر عيسى. ونهر معقل بالبصرة، ونهر عيسى ببغداد، وعليهما أكثر الضياع الفاخرة، والبساتين النزهة ببغداد. وإنما يريدون بنهر اللَّه: البحر والمطر والسيل، فإنها تغلب سائر المياه والأنهار، وتطم عليها، ولا أعرف نهرًا مخصوصًا بهذه الإضافة سواهما". ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، للثعالبي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم ص 30 - 31.
(2)
فتح القدير، للشوكاني 4/ 309.
فالشوكاني (ت: 1250 هـ) يشير إلى وقوع تفسيرات لا تطابق المعنى اللغوي، فقد يكون معنى اللفظ في لغة العرب أوسع كما ذكر.
وِمن أمثلة ذلك ما ورد في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100]: قال القرطبي: "اختلف في تأويل الْمُرَاغَم، فقال مجاهد: الْمُرَاغَمُ: المُتَزَحْزَح.
وقال ابن عباس والضحاك والربيع وغيرهم: الْمُرَاغَمُ: المُتَحَوَّل والمَذْهَب.
وقال ابن زيد: والْمُرَاغَمُ: الْمُهَاجَرُ، وقاله أبو عبيدة.
قال النحاس: فهذه الأقوال متفقة المعاني. فالمراغم المذهب والمتحول في حال هجرة، وهو اسم الموضع الذي يراغم فيه، وهو مشتق من الرَّغَام. ورَغِمَ أنف فلان، أي: لصق بالتراب. وراغمت فلانًا هجرته وعاديته، ولم أبال إن رَغِم أنفه. وقيل: إنما سمي مُهَاجَرًا ومُرَاغَمًا، لأن الرجل كان إذا أسلم عادى قومه وهجرهم، فسمى خروجه مُرَاغَمًا، وسمى مصيره إلى النبي صلى الله عليه وسلم هجرة. وقال السدي: الْمُرَاغَمُ: المُبْتَغى للمعيشة. وقال ابن القاسم: سمعت مالكًا يقول: الْمُرَاغَمُ: الذهاب في الأرض.
وهذا كله تفسير بالمعنى، وكله قريب بعضه من بعض، فأما الخاص باللفظة، فإن المراغم موضع المراغمة كما ذكرنا، وهو أن يرغم كل واحد من المتنازعين أنف صاحبه بأن يغلبه على مراده، فكأن كفار قريش أرغموا أنوف المحبوسين بمكة، فلو هاجر منهم مهاجر لأرغم أنوف قريش لحصوله في منعة منهم، فتلك المنعة هي موضع المراغمة. ومنه قول النابغة:
كطود يلاذ بأركانه
…
عزيز المراغم والمهرب"
(1)
الثالث: قد يرد التفسير لبيان المراد باللفظة في السياق، ولا يكون فيه تحرير معنى اللفظ في اللغة، ويكثر هذا الصنيع عند من كتب في الوجوه والنظائر؛ لأنهم يحرصون على المراد باللفظة في السياق دون بيان معناها من جهة اللغة، والتعرف على معناها من جهة اللغة يفيد في الربط بين المعنى السياقي والمعنى اللغوي للفظة.
ومن أمثلة ما ورد في هذا الموضوع ما ذكره مقاتل من وجوه لفظة (الطغيان) ونظائرها، قال: "تفسير الطغيان على أربعة وجوه: فوجه منها: الطغيان، يعني:
(1)
الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي 5/ 346 - 347، وأصله عند ابن عطية في المحرر الوجيز 4/ 228.