الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني ارتباط أركان المنهج النقدي بمعيار نقد الأخبار
سَلَفَ القولُ بأن معيار القبول والرد يتحرك في فضاء واسع، وأنه مع ذلك له محددات تضبط حركته وتوجه سيره؛ وهذه المحددات هي ذاتها أركان الخبر، وسنبين تلك المحددات فيما يأتي:
*
المحدد الأول: مضمون الخبر وقدْرُه وأثرُه:
وهو أكبر أركان الخبر؛ بل هو الخبر ذاته، وهو المحدد الأكبر لمعيار القبول والرد، والركنان الآخران مرتبطان به ومترتبان عليه في كثير من تفاصيلهما.
ذلك أن الأخبار تتفاوت مضامينها وموضوعاتها، ويختلف تبعًا لذلك -في الشريعة- قدْرُها وأثرُها؛ فالخبر الذي موضوعه أسماء اللَّه وصفاته وما يختص به لا يساويه غيره، والخبر المتعلق بالغيب غير مضمون الخبر المتعلق بالشاهد، ومضمون الخبر المتعلق بالدماء غير مضمون الخبر المتعلق بالأموال، ومضمون الخبر المتعلق بالتشريع ليس كمضمون الخبر المتعلق بغير التشريع، ومضمون الخبر المتعلق بالتاريخ ليس كمضمون الخبر المتعلق بالتفسير أو الأنساب.
ولما كان مقتضى الحكمة والعقل عدم التسوية بين كل هذه المضامين، واعتبار التفاوت القائم بينها، ومراعاة اختلاف الآثار والغايات المرتبطة بكل منها جاء منهج نقد الأخبار لدى المحدثين مؤسسًا على مقتضى تلك الحكمة وذلك العقل، ولذا كان من أولويات هذا المنهج التي استند إليها في قبول الأخبار وردها مراعاة مضامين الأخبار وموضوعاتها، وعدم إجرائها على نسق واحد، ولا معاملتها بمقياس واحد؛ بل لكل مضمون من درجات التشدد أو التساهل في القبول أو الرد ما يناسبه، ويلائم قدره، ويوائم غايته وأثره. وهذا الاختلاف في شروط القبول والرد بحسب المضامين يؤول في النهاية إلى تحقيق المعيار الذي عليه المدار في كل تلك الأخبار؛ وهو الوصول إلى غَلَبَةِ الظن المقتضية لقبولها أو ردها، والتي تتفاوت هي ذاتها في عسر
حصولها لدى الناقد أو يسره بحسب اختلاف مضامينها، في ضوء إجراءات وآليات التعامل معها، فالاختلاف في الإجراءات والآليات والوسائل في كل تلك المضامين اختلاف وسائل لتحقيق الغاية.
وهذا النظر العقلي الدقيق هو أحد الدعائم الكبرى التي تأسس عليها منهج المحدثين في نقد الأخبار المروية عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بَلْهَ بقية الأخبار، وصوَّرَتْه بدقة عباراتهم المشهورة من نحو قول ابن مهدي في العبارة المشهورة:"إذا روينا في الثواب والعقاب وفضائل الأعمال؛ تساهلنا في الأسانيد، وتسامحنا في الرجال، وإذا روينا في الحلال والحرام والأحكام؛ تشدَّدنا في الأسانيد، وانتقدنا الرجال"
(1)
، ومن نحو ما نقله عبدة بن سليمان عن ابن المبارك لما قيل له -وقد روى عن رجل حديثًا-: هذا رجل ضعيف، فقال:"يحتمل أن يروى عنه هذا القدر، أو مثل هذه الأشياء". قال أبو حاتم الرازي: قلت لعبدة: مثل أي شيء كان؟ قال: "في أدب، في موعظة، في زهد، أو نحو هذا"
(2)
، ومن نحو قول سفيان:"لا تأخذوا هذا العلم في الحلال والحرام إلا من الرؤساء المشهورين بالعلم الذين يعرفون الزيادة والنقصان، ولا بأس بما سوى ذلك من المشايخ"
(3)
، وقوله:"بما سوى ذلك"؛ يعني: بما سوى الحلال والحرام
(4)
، وقول الخطيب البغدادي:"وينبغي للمحدِّث أن يتشدد في أحاديث الأحكام التي يفصل بها بين الحلال والحرام؛ فلا يرويها إلا عن أهل المعرفة والحفظ وذوي الإتقان والضبط، وأما الأحاديث التي تتعلق بفضائل الأعمال وما في معناها فيحتمل روايتها عن عامة الشيوخ"
(5)
.
فظاهر جدًّا من هذه النّقول أن المدار على مضمون الخبر وموضوعه (الحلال والحرام، الأحكام، فضائل الأعمال، موعظة، أدب)؛ ولذا فالتفاوت الحاصل في معاملة المرويات تشددًا وتساهلًا، وكذا التفاوت الحاصل في النظر للرواة بتمرير
(1)
رواه الحاكم في المستدرك 1/ 666.
(2)
الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2/ 30، 31.
(3)
الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي 1/ 134.
(4)
وهذا ظاهر جدًّا من عبارته، وأوضحته بجلاء روايات أخرى؛ منها ما أخرجه الرامهرمزي في المحدث الفاصل عن 406 بلفظ:"خذ الحلال والحرام من المشهورين في العلم، وما سوى ذلك فمن المشيخة".
(5)
الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/ 91.