الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث جهة أغراض المصنفين
من أهم ما ينبغي على الناظر في مرويات التفسير وغيرها وبخاصة المتصدي لنقدها معرفة الغرض الذي من أجله ساق المصنف الخبر، وكيفية إيراده له، ومدى تحقيق إيراده لغرضه، وهذا مقام يفارق تمامًا ما سبق الكلام فيه من صحة المرويات أو ضعفها؛ فليس ضعف الرواية مانعًا للمصنف من إيرادها واستعمالها لغرض يريد بيانه، وليس ضعف الراوي مانعًا من ذكر المصنف لبعض رواياته لغرض يرمي إليه، وليس هذا خاصًّا بكتب التفسير بل هو عام في كل تصنيف، فها هو مسلم بن الحجاج لمّا بلغه إنكار أبي زرعة عليه إخراجه حديث أسباط بن نصر وقَطَن بن نُسير وأحمد بن عيسى في صحيحه كان جوابه:"إنما قلت صحيح، وإنما أدخلت من حديث أسباط وقَطَن وأحمد ما قد رواه الثقات عَنْ شيوخهم، إِلا أنه ربما وقع إليَّ عنهم بارتفاع ويكون عندي من رواية من هو أوثق منهم بنزول؛ فاقتصر على أولئك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات"
(1)
.
وعودًا على مرويات التفسير نجد ابن أبي حاتم يسأل أباه عن حديث فيجيبه بأنه باطل، ورغم هذا يورده بنفس السند في تفسيره؛ فقد قال:"وسألت أبي عن حديث رواه معاوية بن حفص عن أبي زياد الخلفاني، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد اللَّه؛ قال: سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن قول اللَّه عز وجل: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]؛ قال: هؤلاء من أهل اليمن، ثم من كندة، ثم من السكون، ثم من تجيب؟ فسمعت أبي يقول: هذا حديث باطل"
(2)
. وقال في التفسير: "حدثنا أبي، ثنا محمد بن المصفى، ثنا معاوية بن حفص عن أبي زياد الخلفاني عن
(1)
تاريخ بغداد 5/ 29.
(2)
علل الحديث لابن أبي حاتم 5/ 25، برقم (1979).
محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد اللَّه؛ قال: سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . . "
(1)
وساق الحديث، ولم يبلغ ابن أبي حاتم من السهو والغفلة وهو الناقد الحاذق أن يذهل عن كونه باطلًا وهو يورده في التفسير، فقد تكرر هذا منه وإن تفاوتت صورته
(2)
مما يدل على أن له غرضًا في ذلك، لا أنه ذهل ونسي كما يحلو لبعض الباحثين الاسترواح برمي الأئمة بالغفلة بدلًا من التفكير في استكشاف صنيعهم وأغراضهم!
والطبري يورد خبرًا فيه ضعف ثم يبيِّن علة إيراده بقوله: "فهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه، فالقول به لإجماع الجميع على صحة القول به أولى من خبر عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب"
(3)
.
فللأئمة في التصنيف وفي ترتيب الأدلة والمسائل وعرض الأقوال أغراض ومقاصد؛ وهي جديرة أن تبحث وخاصة فيما ضعف من الأخبار وأغراضهم من إيرادها وكيفيات ذلك الإيراد.
يقول ابن تيمية: "والأئمة كانوا يروون ما في الباب من الأحاديث التي لم يُعْلَم أنها كذب من المرفوع والمسند والموقوف وآثار الصحابة والتابعين؛ لأن ذلك يقوي بعضه بعضًا كما تُذكر المسألة من أصول الدين ويذكر فيها مذاهب الأئمة والسلف، فثَمَّ أمور تُذكر للاعتماد، وأمور تذكر للاعتضاد، وأمور تُذكر لأنها لم يُعْلَم أنها من نوع الفساد"
(4)
.
وقد رَدَّ ابن تيمية على إيراد البكري عليه ذكره لحديث من رواية ابن لهيعة وهو حديث: "إنه لا يستغاث بي؛ إنما يستغاث باللَّه"، فقال: "هذا الخبر لم يذكر للاعتماد عليه، بل ذكر في ضمن غيره ليتبين أن معناه موافق للمعاني المعلومة بالكتاب والسُّنَّة، كما أنه إذا ذكر حكم بدليل معلوم ذكر ما يوافقه من الآثار والمراسيل وأقوال العلماء وغير ذلك لما في ذلك من الاعتضاد والمعاونة، لا لأن الواحد من ذلك يعتمد عليه في حكم شرعي، ولهذا كان العلماء متفقين على جواز
(1)
تفسير ابن أبي حاتم 4/ 1160.
(2)
ففي العلل أن أباه أخبره عن حديث سأله عنه بأنه منكر، ورغم هذا أورده بنفس السند في تفسيره وسمى فيه الراوي المبهم. ينظر: علل الحديث لابن أبي حاتم 4/ 655، برقم (1710)، تفسير ابن أبي حاتم 3/ 906، برقم (5053)، وينظر مثال آخر في: العلل 4/ 714، برقم (1760) مع تفسير ابن أبي حاتم (6/ 1956) برقم (10459)، وان كان قد ساقه بإسناد آخر بعد إيراد السند المعلل ولكن المقصود بيان الفكرة ونفي الذهول المزعوم.
(3)
تفسير الطبري 3/ 716.
(4)
الصفدية 1/ 287.
الاعتضاد والترجيح بما لا يصلح أن يكون هو العمدة من الأخبار التي تكلم في بعض رواتها لسوء حفظ أو نحو ذلك وبآثار الصحابة والتابعين؛ بل بأقوال المشايخ والإسرائيليات والمنامات مما يصلح للاعتضاد، فما يصلح للاعتضاد نوع وما يصلح للاعتماد نوع. . . ولو كان عبد اللَّه بن لهيعة ذاكرًا لا آثِرًا ولم ينكره المسلمون عليه لكان في ذلك مستند لهذا الإطلاق؛ فإن الرجل قاضي مصر في ذلك الزمان وهو من أكبر العلماء المفتين ونظير لليث بن سعد، والغلط الذي وقع في حديثه لا يمنعه أن يكون من أهل الاجتهاد والفتيا مثل محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قاضي الكوفة وكان زمانهما متقاربًا؛ فإنه من أعيان الفقهاء المفتين وإن كان في حديثه ضعف، وكذلك شريك بن عبد اللَّه وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن وغيرهم من المشهورين بالفتيا؛ إذا تكلم في حديثهم لم يمنع هذا أن يكونوا من المجتهدين المفتين. إذا كان النزاع في إطلاق لفظ وقد أطلقه أحد هؤلاء العلماء إما آثرًا وإما ذاكرًا وسمعه الناس منه ونقلوه عنه ولم يعرف أن أحدًا أنكره علم أن علماء المسلمين كانوا يتكلمون بمثل هذا اللفظ، وأن المتكلم به ليس خارقًا للإجماع ولا مبتدعا لفظًا لم يسبق إليه"
(1)
.
وهو كلام في غاية النفاسة لبيان أهمية فهم غرض العالم من إيراد الخبر الضعيف، وأن للعلماء في ذلك مقاصد ينبغي أن تُفقه وتُفهم؛ وقد بيّن العلامة محمود محمد شاكر جانبًا من ذلك أثناء تعليقه على تفسير الطبري؛ فقال عند قوله:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]: "تبين لي مما راجعته في كتاب الطبري؛ أن استدلال الطبري بهذه الآثار التي يرويها بأسانيدها، لا يراد به إِلا تحقيق معنى لفظ، أو بيان سياق عبارة؛ فهو قد ساق هنا الآثار التي رواها بإسناده ليدل على معنى الخليفة والخلافة، وكيف اختلف المفسرون من الأولين في معنى الخليفة، وجعل استدلاله بهذه الآثار كاستدلال المستدل بالشعر على معنى لفظ في كتاب اللَّه، وهذا بيِّن في الفقرة التالية للأثر رقم (605)؛ إذ ذكر ما روى عن ابن مسعود وابن عباس، وما روى عن الحسن في بيان معنى الخليفة، واستظهر ما يدل عليه كلام كل منهم، ومن أجل هذا الاستدلال لم يبال بما في الإسناد من وهن لا يرتضيه، ودليل ذلك أن الطبري نفسه قال في إسناد الأثر (465) عن ابن مسعود وابن عباس، فيما مضى ص 353: "فإن كان ذلك صحيحًا، ولست أعلمه صحيحًا؛ إذ كنت بإسناده مرتابًا. . . "، فهو مع ارتيابه في هذا الإسناد قد ساق الأثر للدلالة على معنى اللفظ
(1)
تلخيص كتاب الاستغاثة 1/ 308.