الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
11 - الدلالات العقلية:
وهي جملة المعارف الفطرية، والعلوم الضرورية، التي تقضي بتصحيح بعض المعاني القرآنية أو إبطالها؛ ومنها دلالة الوأقع المحسوس، والعادة الجارية، والجمع بين المتماثلات، والتفريق بين المختلفات، ونحو ذلك مما تقتضيه غريزة العقل.
واعتبار هذا الوجه مستندًا في بيان المعاني القرآنية راجع إلى اعتباره كذلك في سائر العلوم والمعارف، وعند عامة العلماء والعقلاء، وذلك أن اللَّه تعالى أنزل كتابه فرقانًا بين الحق والباطل:{تبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الفُرقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1]
(1)
، وأنزله بالحق والميزان:{اللَّهُ الَّذِى أَنزَلَ الكِتَابَ بِالحَقِّ وَالمِيزَانَ} [الشورى: 17]، وبعث بهما جميع رسله:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]؛ فالكتاب هو: القرآن الكريم؛ المشتمل على الحق، والصدق، واليقين، بأحسن المسائل، وأوضح الدلائل. والميزان هو: العدل، والاعتبار، والأمثال المضروبة، والقياس الصحيح، والعقل الرجيح
(2)
، "وكل الدلائل العقلية، من الآيات الآفاقية والنفسية، والاعتبارات الشرعية، والمناسبات والعلل، والأحكام والحكم داخلة في الميزان الذي أنزله اللَّه تعالى، ووضعه بين عباده"
(3)
، قال ابن جرير (ت: 310 هـ): "كل معلوم للخلق من أمر الدين والدنيا لا يخرج من أحد معنيين: من أن يكون إما معلومًا لهم بإدراك حواسهم إياه، وإما معلومًا لهم بالاستدلال عليه بما أدركته حواسهم"
(4)
، وقال ابن تيمية (ت: 728 هـ): "العلم إما نقل مصدق، وإما استدلال محقق"
(5)
، وقال:"العلم إما نقل مصدق عن معصوم، وإما قول عليه دليل معلوم، وما سوى هذا فإما مزيف مردود، وإما موقوف لا يعلم أنه بهرج ولا منقود"
(6)
، وقال ابن العربي (ت: 543 هـ): "الأدلة على قسمين: عقلية، وسمعية"
(7)
.
(1)
ينظر: جامع البيان 17/ 394.
(2)
ينظر: جامع البيان 20/ 489، والرد على المنطقيين 1/ 333، 383، وإعلام الموقعين 2/ 250.
(3)
تيسير الكريم الرحمن 2/ 606. وينظر: مختصر الفتاوى المصرية ص 531.
(4)
التبصير في معالم الدين ص 113.
(5)
مجموع الفتاوى 13/ 344.
(6)
مجموع الفتاوى 13/ 329.
(7)
قانون التأويل ص 210. وينظر: مجموع الفتاوى 13/ 137 - 138، والموافقات 3/ 227.
وقد أشار قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] إلى أن الرسل جاءت باعتبار هذا النوع من الدلالات الموصلة إلى الحق، وأرشدت إليه، قال ابن تيمية (ت: 728 هـ): "إن الرسل دلت الناس وأرشدتهم إلى ما به يعرفون العدل، ويعرفون الأقيسة العقلية الصحيحة، التي يستدل بها على المطالب الدينية، فليست العلوم النبوية مقصورةً على مجرد الخبر، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام، ويجعلون ما يعلم بالعقل قسيمًا للعلوم النبوية، بل الرسل -صلوات اللَّه عليهم- بيَّنت العلوم العقلية التي بها يتم دين الناس علمًا وعملًا. .، والقرآن والحديث مملوء من هذا؛ يبين اللَّه الحقائق بالمقاييس العقلية، والأمثال المضروبة، ويبين طرق التسوية بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين، وينكر على من يخرج عن ذلك"
(1)
.
ومن ثم فالدليل العقلي دليل شرعي صحيح مأذون فيه، وليس بخارج عن الشرع، ولا يقابل الدليل الشرعي، وإنما الذي يقابله الدليل غير الشرعي، أو الدليل البدعي. ولذلك لا يصح شرعًا ولا عقلًا ولا واقعًا أن يشهد العقل بما يبطل الشرع أو يخالفه، قال ابن تيمية (ت: 728 هـ): "وإذا تبين أن الكتاب والميزان منزلان فلا يجوز أن يتناقض الكتاب والميزان؛ فلا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة، والأقيسة الصحيحة، ولا دلالة النص الصحيح، والقياس الصحيح، وإنما يكون التناقض بين الحق الصحيح، والباطل الذي ليس بصحيح، فأما الصحيح الذي كله حق فلا يتناقض؛ بل يصدق بعضه بعضًا"
(2)
، وقال أيضًا:"ولا يجوز قط أن الأدلة الصحيحة النقلية تخالف الأدلة الصحيحة العقلية"
(3)
.
وفي تفسير النبي صلى الله عليه وسلم ما يشير إلى الاستدلال بهذا النوع من الدلالات: فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما نزلت {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] كبر ذلك على المسلمين، فقال عمر رضي الله عنه: أنا أفرج عنكم. فانطلق، فقال: يا نبي اللَّه إنه كبر على أصحابك هذه الآية. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها أموالكم، وإنما فرض
(1)
الرد على المنطقيين 1/ 382. وينظر: مجموع الفتاوى 13/ 206.
(2)
جامع المسائل، لابن تيمية، المجموعة الثانية، تحقيق: محمد عزير شمس ص 272.
(3)
الرد على المنطقيين 1/ 373. وينظر: مجموع الفتاوى 13/ 147.
المواريث لتكون لمن بعدكم"، فكبر عمر رضي الله عنه"
(1)
، وهنا يبرز الاستدلال العقلي على المعاني؛ فإن المواريث فرضت في مال يبقى، وكذا الزكاة بعض من مال موجود، فلو كان الكنز المذموم مطلق جمع المال لما كان لتشريع الزكاة وفرائض المواريث معنًى.
ومن شواهد الاستناد إلى الدلالات العقلية عند الأئمة الخمسة، ما ورد في قوله تعالى:{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آل عمران: 106]، حيث رجح ابن جرير (ت: 310 هـ) أن المعني بهذا: عموم الكفار، وأن الإيمان المنسوب إليهم في الآية هو: العهد الذي أخذه اللَّه منهم وهم في صلب أبيهم آدم. فقال: "وذلك أن اللَّه جلَّ ثناؤه جعل جميع أهل الآخرة فريقين: أحدهما سودًا وجوهه، والآخر بيضًا وجوهه، فمعلوم إذ لم يكن هنالك إلا هذان الفريقان أن جميع الكفار داخلون في فريق من سود وجهه، وأن جميع المؤمنين داخلون في فريق من بيض وجهه، فلا وجه إذًا لقول قائل عنى بقوله: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} بعض الكفار دون بعض، وقد عمَّ اللَّه جلَّ ثناؤه الخبر عنهم جميعهم، وإذا دخل جميعهم في ذلك ثم لم يكن لجميعهم حالة آمنوا فيها، ثم ارتدوا كافرين بعد إلا حالة واحدة، كان معلومًا أنها المرادة بذلك"
(2)
، وبنحوه قال ابن كثير (ت: 774 هـ)
(3)
. وقال ابن عطية (ت: 541 هـ) منتقدًا بعض الأقوال: "وفي هذا القول نظر؛ لأن التحكم فيه باد"
(4)
. ورجح ابن عطية (ت: 541 هـ) في قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران: 41] أن الأمر بالتسبيح: "معناه: قل: سبحان اللَّه، وقال قوم: معناه: صل. والقول الأول أصوب؛ لأنه يناسب الذكر، ويستغرب مع امتناع الكلام مع الناس"
(5)
.
(1)
أخرجه أبو داود في السنن 2/ 126 (1664)، وأحمد في فضائل الصحابة 1/ 374 (560)، وأبو يعلى في المسند 4/ 378 (2499)، والبيهقي في السنن 4/ 83 (7027)، وهو حديث حسن لغيره؛ تنظر شواهده في مسند أحمد 5/ 278 (22446)، وجامع الترمذي 5/ 277 (3094)، وسنن ابن ماجه 1/ 596 (1856)، والكافي الشاف، لابن حجر 2/ 258، وتفسير ابن كثير 7/ 185.
(2)
جامع البيان 5/ 666.
(3)
تفسير القرآن العظيم 2/ 92.
(4)
المحرر الوجيز 2/ 60.
(5)
المحرر الوجيز 2/ 216.
ويمكن تصنيف هذه المستندات بحسب مصدرها إلى قسمين:
الأول: المستندات النقلية؛ وتشمل:
القرآن الكريم، والقراءات، والسُّنَّة النبوية، والإجماع، وأقوال السلف، ولغة العرب، وأحوال النزول، والإسرائيليات.
الثاني: المستندات العقلية، وتشمل:
النظائر، والسياق، والدلالات العقلية.
* * *