الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما تصدى للإقراء
(1)
، ومن هنا يمكننا القول: إن الإقراء في عهده كان أشهر من التفسير، وربما كان لنسخ المصاحف وإرسالها إلى الأمصار وأمر الناس بالقراءة وفْقها وترك ما سواها وتوحيدهم على مصدر واحد أثر كبير في الانشغال بالإقراء.
وقد توفي في عهده عدد من كبار علماء الصحابة، منهم: عبد اللَّه بن مسعود (ت: 32 هـ)، وأبو الدرداء (ت: 32 هـ)، وسلمان الفارسي (ت: 34 هـ)، وحذيفة بن اليمان (ت: 35 هـ)، ومن كبار التابعين كعب الأحبار (ت: 32 هـ). ولا شك أن لذلك أثرًا كبيرًا في الحياة العلمية عمومًا، والتفسير خصوصًا.
وقد خُتم عهد عثمان بحدث كان له الأثر الكبير في حياة الأمة بعد ذلك، وهو ما حصل من تأليبٍ عليه من قِبَل أهل الفتنة حتى أفضوا إلى قتله واستشهاده، ومن ثَمَّ افتراق الأمة، واقتتال المسلمين فيما بينهم، وما ترتب على ذلك من أحداث دامية ومستديمة، وللَّه الأمر من قبل ومن بعد.
4 - عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه (35 - 40 هـ):
بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه تولى الخلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لكن سرعان ما نوزع في ذلك، فوقع الاختلاف والفرقة بين المسلمين، وتطورت الأحداث حتى اضطر رضي الله عنه إلى الانتقال إلى الكوفة، واقتتل المسلمون فيما بينهم، فكان أعظم البلايا على الأمة، ومن ثم نبتت نابتة الفرق الضالة بخروج الخوارج عليه، وظهور الشيعة واستمر الغلو بهم إلى أن وصلوا إلى ما وصلوا إليه، ثم استشهد علي رضي الله عنه عام 40 هـ، واستخلف ابنه الحسن بن علي رضي الله عنهما، الذي تنازل بالخلافة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، فانتهت الخلافة الراشدة وقامت الدولة الأموية في فرعها السفياني، واجتمع المسلمون مرة أخرى بعد اختلاف، وتوحد صفهم بعد فرقة.
أما التفسير في عهد عليٍّ رضي الله عنه فإنه حين نزل الكوفة -وكان حبرها ابن مسعود قد
= فأكثر من روي عنه منهم علي بن أبي طالب والرواية عن الثلاثة نزرة جدًّا، وكان السبب في ذلك تقدم وفاتهم". الإتقان 6/ 2325. وستأتي محاولة تعليل ذلك في خاتمة مبحث "مفسرو السلف ومراتبهم في التفسير".
(1)
كان عثمان رضي الله عنه من كبار علماء الصحابة؛ خصوصًا في الإقراء والفقه والفتيا، أما الإقراء فأثره ظاهر، إذ تعود إليه كثير من أسانيد القراء، وأما في الفقه والفتيا فقد قلَّت المرويات عنه، قال ابن جرير معللًا ذلك:"لم يكن له أصحاب يُعرفون، والمبلغون عن عمر فتياه ومذاهبه وأحكامه في الدين بعده كانوا أكثر من المبلغين عن عثمان والمؤدين عنه". نقله ابن القيم في إعلام الموقعين، ت: طه عبد الرؤوف 1/ 20.
توفي قبل ذلك ببضع سنين- وجد بيئة مختلفة عن بيئة المدينة النبوية، ومجتمعًا جديدًا له خصائصه المختلفة، مما دعاه إلى أن يبث علمه بينهم، ويتصدى لتفسير القرآن بين ظهرانيهم بصورة أوضح مما كان عليه في المدينة، وربما أدى ذلك إلى التأكيد على بعض من أصول التفسير وآداب المفسر والتنبيه عليها، لعلنا نستشفها من خلال المواقف التالية عنه رضي الله عنه
(1)
:
- عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: انتهى علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه إلى رجلٍ يقص فقال: "أعلمت الناسخ من المنسوخ؟ " قال: لا، قال:"هلكت وأهلكت"
(2)
.
فهذا تنبيه منه رضي الله عنه على أن من شروط المفسِّر أن يلم بالناسخ والنسوخ من القرآن؟ لأن عدم معرفته يؤثر في فهم المعنى
(3)
.
- عن أبي الصهباء البكري أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال وهو على المنبر: "لا يسألني أحد عن آية من كتاب اللَّه إلا أخبرته"، فقام ابن الكواء، وأراد أن يسأله عما سأل عنه صبيغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: ما الذاريات ذروًا؟ قال علي: "الرياح"
(4)
.
نجد هنا أنه ربما كان لاختلاف الأحوال والبيئة دور في كون عليٍّ رضي الله عنه يجيب هنا عمن يسأله في القرآن تعنتًا
(5)
، بخلاف ما كان عليه الأمر في عهد عمر رضي الله عنه.
- عن سعيد بن المسيب قال: قال علي رضي الله عنه لرجلٍ من اليهود: "أين جهنم؟ " فقال: البحر، فقال: "ما أراه إلا صادقًا، {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6]، {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} مُخَفَّفَةً
(6)
.
(1)
ينظر: دروس د. مساعد الطيار على الشبكة العالمية عن تاريخ التفسير http: //vb.tafsir.net 30300/#.viupxfkr 12 w
(2)
أخرجه النحاس، في الناسخ والمنسوخ: 1/ 48، والبيهقي في سننه الكرى 10/ 200 (20360).
(3)
والنسخ هنا حسب مفهوم المتقدمين، وهو يعم: الكلي (الاصطلاحي لدى المتأخرين)، والجزئي نحو تخصيص العام، وتقييد المطلق، وبيان المجمل، ورفع الحكم الشرعي. . . إلخ. ينظر: الموافقات 3/ 344 - 345.
(4)
تفسير ابن جرير الطبري 21/ 481.
(5)
جاء في رواية عبد الرزاق الطويلة في تفسيره 3/ 234: أن عليًّا رضي الله عنه أجابه ابتداء: "ويلك سل تفقهًا، ولا تسأل تعنتًا".
(6)
تفسير ابن جرير الطبري 21/ 567.
وفي هذا الأثر تنبيه على ضابط قبول أخبار أهل الكتب السابقة عن أمور الغيب، فقد قبِل ما قاله اليهودي لما وجد له من شاهد من كتاب اللَّه تعالى.
- عن ابن عباسٍ، قال:"بينما أنا في الحجر جالسٌ، أتاني رجلٌ يسأل عن {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات: 1] فقلت له: الخيل حين تغير في سبجل اللَّه، ثم تأوي إلى الليل، فيصنعون طعامهم، ويورون نارهم. فانفتل عني، فذهب إلى علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه وهو تحت سقاية زمزم، فسأله عن {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات: 1] فقال: سألت عنها أحدًا قبلي؟ قال: نعم، سألت عنها ابن عباسٍ، فقال: الخيل حين تغير في سبيل اللَّه، قال: اذهب فادعه لي؛ فلما وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به، واللَّه لكانت أول غزوةٍ في الإسلام لبدرٌ، وما كان معنا إلا فرسان: فرسٌ للزبير، وفرسٌ للمقداد فكيف تكون العاديات ضبحًا. إنما العاديات ضبحًا من عرفة إلى مزدلفة إلى منًى؛ قال ابن عباسٍ: فنزعت عن قولي، ورجعت إلى الذي قال علي رضي الله عنه"
(1)
.
ففي هذا الأثر دلالة على بروز ضوابط الترجيح وقواعده، كما يدل على بروز احتمال تعدد دلالة النص القرآني.
ولقد كان علي رضي الله عنه عالمًا بالقرآن إقراءًا وتفسيرًا، روي عنه أنه قال:"ألا أحد يسألني عن القرآن؟ فواللَّه لو أعلم اليوم أحدًا أعلم به مني، وإن كان من وراء البحور لأتيته"
(2)
. وهو أكثر الخلفاء آثارًا في التفسير، ولعل السبب في ذلك تأخر وفاته إلى عهد نشأت فيه حاجة أكبر لبيان القرآن، خصوصًا بعد انتقاله إلى مجتمع جديد يختلف عن مجتمع المدينة، إضافة إلى ما برز في خلافته من فتن وقلاقل تطلبت النظر في القرآن واستخراج أحكامه، كمسألة الخلاف بين الصحابة
(3)
، وخروج الخوارج وغلو الشيعة فيه، وستأتي أمثلة لبعض ذلك عند الحديث عن العوامل التاريخية المؤثرة في التفسير.
وقيل أيضًا: إن من أسباب ذلك أن الخلافة لم تشغله مبكرًا، وكان متفرغًا أكثر من غيره ممن سبقه من الخلفاء الكرام.
(1)
تفسير ابن جرير 24/ 573.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 7/ 2246.
(3)
ينظر مثلًا إلى قول علي بن أبي طالب: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال لهم اللَّه عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} .