الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تلقي التفسير عند السلف عبر طريق المشافهة والحفظ، والمنهج التعليمي لديهم في إلقاء دروس التفسير.
*
طرق تلقي التفسير وأدائه مشافهة عند السلف:
تقدم معنا كيفية تلقى الصحابة التفسير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك إما بأن يبتدئهم بتفسير الآية، أو أن يستشكلوا شيئًا من معاني الآيات فيسألون النبي صلى الله عليه وسلم، وعند النظر إلى مرويات التفسير عن الصحابة ربما يتبادر إلى الذهن السؤال عن كيفية تلقي التفسير وإلقائه في عهد الصحابة والتابعين، وفيما يلي إلماحة إلى شيء من ذلك من خلال استقراء بعض مرويات التفسير:
1 - مجالس التفسير الخاصة:
كانت لبعض الصحابة مجالس علمية خاصة مع نجباء تلاميذهم، يتدارسون فيها القرآن ومعانيه، يقف فيها المعلم وقفات تربوية مع المتعلمين، فيبين لهم ويطلب آراءهم، ويشحذ أذهانهم بالمسائل العلمية، ويشجعهم وينمي لديهم ملكة التفسير، ويظهر هذا جليًّا من خلال المثال التالي في مجالس أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
عن ابن زيد قال: "كان عمر بن الخطاب إذا صلى السُّبْحة
(1)
وفرغ دخل مِرْبدًا
(2)
له، فأرسل إلى فِتْيانٍ قد قرؤوا القرآن، منهم ابن عباس، وابن أخي عُيَيْنة، قال: فيأتون فيقرؤون القرآن ويتدارسونه، فإذا كانت القائلة انصرف. قال: فمروا بهذه الآية: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} [البقرة: 206]، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207]، فقال ابن عباس، لبعض من كان إلى جنبه: اقتتل الرجلان. فسمع عمر ما قال، فقال: وأيُّ شيء قلتَ؟ قال: لا شيء يا أمير المؤمنين. قال: ماذا قلت؟ اقتتل الرجلان؟ قال: فلما رأى ذلك ابن عباس، قال: أرى هاهنا مَنْ إذا أُمِر بتقوى اللَّه أخذته العزة بالإثم، وأرى من يَشْري نفسه ابتغاء مرضاة اللَّه؛ يقوم هذا فيأمر هذا بتقوى اللَّه، فإذا لم يقبل وأخذته العزة بالإثم، قال هذا: وأنا أشتري نفسي فقاتله، فاقتتل الرجلان.
(1)
السُّبْحة: صلاة النافلة، النهاية (سبح).
(2)
المِرْبد: فضاء وراء البيوت يُرتفق به، والمِرْبد أيضًا كالحُجرة في الدار، لسان العرب (ربد).
فقال عمر: للَّه تلادك
(1)
يا ابن عباس"
(2)
.
ومشهور ما وقع لابن عباس رضي الله عنهما في مجلس عمر رضي الله عنه مع أشياخ بدر
(3)
.
ومثله أيضًا لدى عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه مع طلابه، فعن مسروق، قال:"كان عبد اللَّه يقرأ علينا السورة، ثم يحدثنا فيها، ويفسرها عامة النهار"
(4)
.
وأشهر من عُرف بتلك المجالس ابن عباس رضي الله عنهما، حيث اعتنى بطلابه اعتناءً بالغًا، وتفرغ لهم تفرغًا تامًّا، وميَّزهم بمنهج تعليمي فذٍّ، يبث فيهم روح الثقة، ويشجعهم للتصدي للإفتاء والتفسير، فهذا أبو الجوزاء (ت: 84 هـ) يقول: "جاورت ابن عباس في داره اثنتي عشرة سنة ما في القرآن آية الا وقد سألته عنها". وقال مجاهد (ت: 102 هـ): "عرضت المصحف على ابن عباس، ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفته عند كل آية منه، وأسأله عنها"
(5)
، وقال عكرمة (ت: 105 هـ): "كان ابن عباس يجعل الكبل في رجلي على تعليم القرآن والفقه"
(6)
، وقال عطاء بن أبي رباح (ت: 114 هـ): "ما رأيت مجلسًا قط أكرم من مجلس ابن عباس أكثر فقهًا وأعظم جفنة منه، إن عنده أصحاب القرآن يسألونه، وعنده أصحاب الشعر يسألونه، وعنده أصحاب النحو يسألونه، كلهم يصدر في واد واسع"
(7)
، ومن هنا نجد تميز تلاميذه بالتوسع في التفسير رواية ودراية أكثر من غيرهم
(8)
.
وهكذا الأمر أيضًا لدى التابعين، فلا شك أن تلك الثروة الضخمة من تفسيرهم -وهم أكثر طبقات السلف تفسيرًا- لم ينقله تلاميذهم إِلَّا عبر تلك المجالس العلمية، خصوصًا المكثرين منهم ممن اختص بتلاميذ يتفرغون لنقل تفسيره كمجاهد وقتادة والسدي.
وكذا كان أتباعهم من بعدهم، وقد تقدم في معالم تفسير التابعين ملامح من تلك المجالس العلمية العامرة.
(1)
في مطبوعة الشيخ شاكر 4/ 245: للَّه بلادك. وعقَّب على ذلك بقوله: في المطبوعة: "للَّه تلادك" بالتاء في أوله، ولا معنى له، والصواب ما أثبت. وفي الدر المنثور:"للَّه دَرُّك". والعرب تقول: "للَّه درُّ فلان، وللَّه بلاده".
(2)
أخرجه ابن جرير 3/ 588 - 589.
(3)
أخرجه البخاري 4294، وينظر أمثلة أخرى في: تفسير قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [البقرة: 266]، وقوله تعالى:{وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33].
(4)
أخرجه ابن جرير 1/ 85.
(5)
أخرجه ابن جرير 1/ 75.
(6)
المعرفة والتاريخ 1/ 527.
(7)
المعرفة والتاريخ 1/ 520.
(8)
ينظر: تفسير التابعين 1/ 391.