الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أكثر عشرة من أتباع التابعين آثارًا في التفسير
رابعًا: قد يرد بعض التباين والتعارض بين هذه النتائج وبين ما ذكره بعض المتقدمين، ولعلنا نعرض فيما يلي مثالين شهيرين من ذلك، أولهما متعلق بتفسير بعض الصحابة، والآخر متعلق بتفسير بعض التابعين:
1 -
ما أورده السيوطي بقول: "اشتهر بالتفسير من الصحابة عشرة: الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبد اللَّه بن الزبير"
(1)
، فماذا قصد السيوطي بشهرة هؤلاء العشرة من الصحابة في التفسير مع أنه لم يرد عنهم إِلا النزر اليسير؛ سوى ما جاء عن ابن عباس، ثم ابن مسعود، ثم علي رضي الله عنهم أجمعين؟
الجواب: ما صدر عن السيوطي من حديث حول المشتهرين بالتفسير من الصحابة شاع كثيرًا بين المؤلفين بعده، خصوصًا المعاصرين، والسيوطي -كما هو معلوم- رجل موسوعي مستقرئ ومطلع، بل له مؤلف ضخم في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة سماه "ترجمان القرآن"
(2)
، وبين أيدينا مختصره -مع زيادات- وهو كتاب "الدر
(1)
الإتقان، ط. المجمع 6/ 2325.
(2)
قال رحمه الله في الإتقان 4/ 222: "وقد جمعت كتابًا مسندًا فيه تفاسير النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة فيه بضعة عشر ألف حديث ما بين مرفوع وموقوف، وقد تم وللَّه الحمد في أربع مجلدات وسميته: "ترجمان القرآن". وقال في موضع آخر 4/ 240: "وكتابنا الذي أشرنا إليه جامع لجميع ما ورد عن الصحابة من ذلك"، وكذلك =
المنثور" الذي هو أوسع كتاب للمتقدمين في تفسير السلف مما وصلنا.
لكن الناظر في كتابه الدر المنثور يرى أن آثار أغلب هؤلاء العشرة قليلة جدًّا مقابل ما يُروى عن ابن عباس ثم ابن مسعود ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وهم كذلك في الموسوعة كما مر معنا- فيا ترى ماذا قصد السيوطي بقوله: "اشتهر بالتفسير من الصحابة عشرة" مع وقوفه على قلة ما رُوي عن أكثرهم في كتابيه السابقين؟
لا أظن أن السيوطي غاب عنه ذلك، بل صرَّح بشيء من ذلك بعد تعداد العشرة فقال:"أما الخلفاء فأكثر من روي عنه منهم علي بن أبي طالب، والرواية عن الثلاثة نزرة جدًّا، وكان السبب في ذلك تقدم وفاتهم، كما أن ذلك هو السبب في قلة رواية أبي بكر رضي الله عنه للحديث، ولا أحفظ عن أبي بكر رضي الله عنه في التفسير إِلَّا آثارًا قليلة جدًّا لا تكاد تجاوز العشرة"، وهذا كلام صريح في هذه المسألة، مما يدل أن السيوطي لم يُرِد بمسألة الاشتهار بالتفسير كثرة المروي عنهم، الذي من لازمه تصديهم للتفسير وإلقائه، ولو حصل ذلك لرُوي عنهم، لما لهم من المكانة العظيمة، والمرتبة الجليلة في الأمة.
وهذا يدعونا إلى إعادة النظر في مراد السيوطي بمصطلح الاشتهار بالتفسير، فقد يكون مراده كونهم أعلم الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم بالتفسير؛ "لما شاهدوه من القرآن، والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح"
(1)
، حيث كانوا يتلقون القرآن غضًّا طريًّا كما أُنزل، ولا يتجاوزون آياته المنزلة حتى يعلموا حدودها وفروضها ويعملوا بها، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي:"حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان، وعبد اللَّه بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا"
(2)
. فهذا يدل على علمهم بكل ما نزل من القرآن إِلَّا ما أشكل عليهم فإنهم يرجعون فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثَمَّ فهم أعلم الأمة بما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم.
= كتابه الذي بين أيدينا "الدر المنثور في التفسير بالمأثور"، وهو يعدّ هذين الكتابين -وغيرهما- مما تفرد فيهما! نظرًا لما يحتاج إليه من سعة النظر وكثرة الاطلاع وملازمة التعب والكد، على حد قوله في كتابه:"التحدث بنعمة اللَّه" ص 105.
(1)
مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية ص 40.
(2)
مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية ص 9.
وخُصَّ هؤلاء العشرة لأنهم كانوا ألصق بالنبي صلى الله عليه وسلم (عدا ابن عباس وابن الزبير فعدادهما في صغار الصحابة) من غيرهم، وهم من أعلم الصحابة رضي الله عنهم.
وهذا التعليل قد يكون وجيهًا وأقرب للواقع؛ غير أنه يكدره ما عقّب به السيوطي بعد ذكره لترجمة بعض هؤلاء العشرة حيث قال: "وقد ورد عن جماعة من الصحابة غير هؤلاء اليسير من التفسير، كأنس وأبي هريرة وابن عمر وجابر وأبي موسى الأشعري، وورد عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص أشياء تتعلق بالقصص وأخبار الفتن والآخرة"
(1)
! إذ إن ظاهر معنى قوله "ورد"، أي: ما نقل من تفسيرهم ووصل إلينا، ومفهوم هذا الكلام -فيما يظهر- أن هؤلاء العشرة ورد عنهم الكثير من التفسير، وهو ما أشكل علينا ابتداء!
جواب آخر: ربما رأى السيوطي أن هؤلاء العشرة هم أقرأ الصحابة للقرآن، وأغلبهم ممن تصدى لإقرائه، وأسانيد القراء من بعدهم تدور عليهم فرأى في ذلك صلة بتفسير القرآن كونهم تصدوا لإقرائه، والغالب على من كان هذا شأنه أن يفسر ما أشكل من معاني القرآن لطلابه، وهم من هم في الحرص على الدعوة والتعليم، خصوصًا إذا علمنا أن مصطلح القراء في عهد الصحابة والتابعين يُراد به أكثر من مجرد إقراء القرآن فيما يظهر، واللَّه أعلم.
من جانب آخر يحتمل أن يكون كلام السيوطي على ظاهره، باعتبار أن كثيرًا من تفسير هؤلاء الصحابة فُقد فيما فُقد من تراث الأمة، لكن هذا يحتاج إلى مستند من كلام السيوطي يوضح أنه يعني ذلك؛ لأن ظاهر كلامه أنه تقرير ناتج من استقراء جميع تفسير الصحابة الذي وصله! وانظر إلى تعبيره بـ "ورد" فهو يوضح ذلك ويعضده، واللَّه أعلم.
على العموم هذه بعض التفسيرات التي يمكن أن تحل هذا الإشكال، وعليها مآخذ كما رأينا، ومن هنا فالمسألة تحتاج لبحث وتحرير، أما مجرد نقل كلام السيوطي واعتماده في تحديد المفسرين من الصحابة -كما هو واقع من المعاصرين عند الحديث عن تفسير الصحابة والتابعين
(2)
- دون بيان وتوضيح لمقصوده فهو قصور في البحث العلمي.
(1)
الإتقان 4/ 240.
(2)
تناقل كلام السيوطي أغلب من كتب في تاريخ التفسير، ولعل من أوائل من نقله من المعاصرين د. محمد =
2 -
ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: "وأما التفسير فإن أعلم الناس به أهل مكة، لأنهم أصحاب ابن عباس، كمجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم من أصحاب ابن عباس، كطاووس، وأبي الشعثاء، وسعيد بن جبير، وأمثالهم، وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود، ومن ذلك ما تميزوا به على غيرهم"
(1)
، والناظر في آثار أصحاب ابن مسعود يجد أنه لم يُرو عنهم إِلا النزر القليل، وأكثرهم آثارًا في الموسوعة، مسروق بـ (59) أثرًا أغلبها في الأحكام، يليه أبو رزين الأسدي بـ (53) أثرًا، يليه الربيع بن خثيم بـ (34) أثرًا، وهي مقادير قليلة جدًّا! حتى إنه لم يرد أحد منهم ضمن العشرة المكثرين من التابعين، بل لم يُسلك أحد منهم في طبقة المقلين التي اعتمدناها! وكذلك ذكَر أهل المدينة ولم يبرز فيهم من المكثرين سوى عبد الرحمن بن زيد، وفي المقابل لم يذكر أهل البصرة مع بروز أربعة منهم ضمن طبقة المكثرين، وهم: قتادة والحسن وأبو العالية والربيع، وابن تيمية رحمه الله مستقرئ! ولا يشك في أنه وقف على مقدار تفسيرهم، فماذا قصد بذلك، ثم لِم لَمْ يذكر أهل البصرة مع أنهم أكثر التابعين تفسيرًا بعد أهل مكة
(2)
؟
فقد يكون مراده أعلم الناس بالتفسير رواية ودراية، لكن هذا لا يحل الإشكال
= حسين الذهبي رحمه الله في كتابه الماتع التفسير والمفسرون 1/ 49، وقد تبين له قلة ما ورد من تفسير عمن سوى الأربعة (ابن عباس وابن مسعود وعلي وأُبي بن كعب) لكن قال:"فهم وإن اشتهروا بالتفسير إِلا أنهم قلَّت عنهم الرواية ولم يصلوا في التفسير إلى ما وصل إليه هؤلاء الأربعة المكثرون، لهذا نرى الإمساك عن الكلام في شأن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وزيد بن ثابت، وأبي موسى الأشعري، وعبد اللَّه بن الزبير، ونتكلم عن علي، وابن عباس، وابن مسعود، وأُبَي بن كعب، نظرًا لكثرة الرواية عنهم في التفسير، كثرة غذت مدارس الأمصار على اختلافهم وكثرتها". التفسير والمفسرون 1/ 50، ولم يبين المراد باشتهارهم في التفسير، كذلك لم يعلل سبب قلة الرواية عنهم مع اشتهارهم بالتفسير! مع ملاحظة أن تفسير أُبي بن كعب المنقول إلينا نزر قليل كالباقين، وليس كما ذكر.
(1)
تحدث أيضًا د. الذهبي: التفسير والمفسرون 1/ 89، 94، عن التابعين ومدارسهم التفسيرية بناء على كلام ابن تيمية فيما يظهر، ومن لْم أورد عددًا من المقلين في التفسير على أنهم من ماهير مفسري التابعين كعلقمة بن قيس، ومسروق، والأسود بن يزيد، ومُرَّة الهمداني. -وتبعه بعض من كتب في تاريخ التفسير على بعض ذلك- دون توضيح وبيان لمقدار ما روي عنه من آثار التفسير، أو إثبات أنه مفسر معروف بالتفسير من خلال وصفه لنفسه أو وصف أقرانه أو تلاميذه أو من خلال وصف مترجميه في كتب التراجم، وعندها يُبحث عن الأسباب التي أدت إلى قلة إنتاجه التفسيري.
(2)
بل فاق المكثرون منهم ما روي عن المكثرين من المكيين، فبلغ مجموع تفسير قتادة والحسن والربيع وأبو العالية 10467 أثرًا، بينما بلغ مجموع تفسير مجاهد وسعيد وعكرمة وعطاء 8342 أثرًا.