الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موقف السلف من تفسير القرآن الكريم بالإسرائيليات
الإسرائيليات: كل ما أُخِذَ عن بني إسرائيل (اليهود والنصارى) من غير طريق النبي صلى الله عليه وسلم.
والمراد بتفسير القرآن الكريم بها: الافادة من مرويات بني إسرائيل
(1)
في بيان بعض المعاني الواردة في قصص القرآن، أو ما يتعلق بها.
وذلك بأن يرجع المفسر إلى مروياتهم المكتوبة، أو أن يسأل علماءهم عنها، فيتلقاها مباشرة، أو أن يسأل من عنده علم بها.
وقولنا: (في بيان بعض المعاني الواردة في قصص القرآن) فيه أمران:
الأول: أن الإفادة منهم إنما هي في هذه القصص فحسب.
الثاني: أن بعض القصص المجملة في القرآن قد يختلف تحديد معناها المراد باختلاف الاعتماد على الخبر الإسرائيلي من عدمه، وسيظهر من خلال الدراسة ما وقع من ذلك عند المفسرين.
وقولنا: (أو ما يتعلق بها)؛ أي: من الأمور التي تتعلق بالقصة، كسبب القصة الذي لا ترد إليه الإشارة في القرآن، أو تعيين بعض المبهمات التي لا يضر الجهل بها، أو غير ذلك مما لا علاقة له ببيان معنى الآية.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بيان بعض الأخبار الإسرائيلية الواردة في القرآن، مثل بيانه تبديل يهود كلمة "حطة" بقولهم: حبة في شعرة
(2)
، وبيانه لأذية قوم موسى له
(3)
،
(1)
بعض القصص التي تخص العرب القدماء؛ كأخبار قوم صالح وهود وشعيب؛ لم ترد من طريق بني إسرائيل، وقد تدخل في الإسرائيليات، على سبيل التغليب، ولكن إفرادها أولى؛ ليعلم أنه لا يلزم أن تكون كل قصص السابقين مأخوذة من أهل الكتاب.
(2)
رواه البخاري وغيره، ومن مواضعه في رواية البخاري له، ما رواه بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه، يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "قيل لبني إسرائيل: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58]، فبدلوا، فدخلوا يزحفون على أستاههم، وقالوا: حبة في شعرة"، وهو برقم (4641) باب وقولوا حطة من كتاب التفسير.
(3)
روى البخاري بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن موسىى كان رجلًا حييًّا ستيرًا، لا يرى من جلده شيء استحياءً منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما يستتر هذا التستر، إِلا من عيب بجلده: إما =
وبيانه لقصة موسى مع الخضر
(1)
.
وكان فعله هذا صلى الله عليه وسلم مع قوله صلى الله عليه وسلم: "وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"
(2)
أكبر مندوحة للصحابة والتابعين في أن يلجوا هذا الباب.
والقرآن قد أخبر عن بعض أخبار السابقين: بعضها مفضل، وبعضها مجمل، ولا سبيل إلى معرفة تفاصيل المجمل، أو زيادة تفاصيل المفصل إِلا الرواية والخبر.
والرواية: إما أن تكون عن المعصوم، وإما أن لا تكون كذلك.
فإن كانت عن المعصوم من طريق صحيح معتبر، فإنها مقبولة بلا ريب، وإن كانت عن غير طريق المعصوم، فلا تُقبل إِلا ببرهان علمي معتبر، وكذا لا تُرَدَّ إِلا ببرهان علمي معتبر، ولا يكفي في ردِّها كونها من "مرويات بني إسرائيل".
ومن هنا فإننا نجد الصحابة والتابعين وأتباعهم يذكرون هذه الإسرائيليات، ويستشهدون بها في التفسير، وقد تأتي عنهم مجملة، وقد تكون مفصلة، ولو استقرأنا من روي عنه إسرائيليات في هذه الطبقات لظهر لنا جماعة منهم ممن يروون هذه الإسرائيليات.
ومن أمثلة الأعلام الذين روي عنهم ما يأتي:
1 -
في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف: 175]، ورد في تعيين هذا الشخص أقوالٌ، منها أن المقصود "بلعام بن باعوراء" رجل من بني إسرائيل، وقد ورد ذلك عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد، وعكرمة والسدي
(3)
.
= برص وإما أدرة: وإما آفة، وإن اللَّه أراد أن يبرِّئه مما قالوا لموسى، فخلا يومًا وحده، فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه لياخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملإ من بني إسرائيل، فرأوه عريانًا أحسن ما خلق اللَّه، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر، فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضربًا بعصاه، فواللَّه إن بالحجر لندبًا من أببر ضربه، ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا، فذلك قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69] "، برقم (3404)، باب حديث الخضر مع موسى، كتاب أحاديث الأنبياء.
(1)
رواها البخاري برقم (3401)، باب حديث الخضر مع موسى، كتاب أحاديث الأنبياء.
هذا، ولم تسلم بعض هذه الروايات الثابتات في الصحاح من نقد بعض المتعالمين أو المغرضين، فما بالك بغيرها مما لم يُرو بوجه صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
رواه البخاري برقم (3461)، باب ما ذكر عن بني إسرائيل كتاب أحاديث الأنبياء.
(3)
ينظر: تفسير الطبري 10/ 568.
وقصته معروفة، وإن اختلفوا في تفاصيلها، وفي تحديد زمنه، فإن هذا الاختلاف لا يؤثر في كونها من قصص بني إسرائيل.
2 -
اختلف المفسرون من السلف في تعيين الشجرة التي أكل منها آدم وزوجه حواء
(1)
، في قوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35].
فقيل: هي السنبلة، وورد ذلك عن ابن عباس من طريق عكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير، وعن أبي مالك غزاون الغفاري، وعطية، وقتادة، وعن أبي الجلد إجابة على سؤال ابن عباس له، وعن وهب بن منبه اليماني، ومحارب بن دثار، والحسن البصري.
وقيل: الكرمة (العنب)، وقد ورد من رواية السدي عن ابن عباس، ومن طريق السدي عن أشياخه عن ابن عباس أو ابن مسعود، وعن السدي -أيضًا-، وعن جعدة بن هبيرة، وعن سعيد بن جبير، وعن محمد بن قيس.
وقيل: التينة، نسبه ابن جريج إلى بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من دون تعيين.
ومن هنا نجد أن الكتب التي عُنيت بنقل المأثور عن الصحابة والتابعين وأتباعهم لا تكاد تخلو من ذكر الإسرائيليات التي فسَّر بها هؤلاء الأسلاف كتاب اللَّه تعالى، فقد دخلت الإسرائيليات في تفسير القرآن منذ عهد الصحابة، ثم كثرت الرواية عند من بعدهم، ولم يروا في ذلك غضاضة، مع العلم بما في بعضها من اختلاف أو من قضايا مشكلة في منطوق الروايات.
قال القاسمي (ت: 1332 هـ): "وأما ما كان إسرائيليًّا، وهو الذي أخذ جانبًا وافرًا من التنزيل العزيز، فقد تلقى السلف شرح قصصه، إما مما استفاض على الألسنة ودار من نبئهم، وإما من المشافهة عن الإسرائيليين الذين آمنوا. . . ومع ذلك فلا مغمز على مفسرينا الأقدمين في ذلك، طابق أسفارهم أم لا"
(2)
.
وقال: ". . . والقصد أن الصالحين كانوا يتقبلون الروايات على عِلَّاتِها للملاحظة المارة، لصفاء سريرتهم. فلا ينبغي إِلا تفنيد الموضوع منها، لا الحط من مقامهم وقرض أعراضهم. كيف وقد تلقى الصحابة ومن بعدهم الإسرائيليات وحكوها، بل
(1)
تفسير الطبري، ط. دار هجر 1/ 551 - 556.
(2)
محاسن التأويل 1/ 41.
بعضهم اقتنى أسفارها وأدمن مطالعتها، لما استبان له من البشائر النبوية، وتحقق تحريفهم"
(1)
.
قال القاسمي (ت: 1332 هـ): "وقال وليُّ اللَّه الدهلويّ -قُدِّس سِرُّه- في أصول التفسير، في فصل الكلام على معرفة أسباب النزول:
شرط المفسر أمران:
الأول: ما تعرض له الآيات من القصص، فلا يتيسر فهم الإيماء بتلك الآيات إِلا بمعرفة تلك القصص.
والثاني: ما يخصص العام من القصة، أو مثل ذلك من وجوه صرف الكلام عن الظاهر، فلا يتيسر فهم المقصود من الآيات بدونها.
ومما ينبغي أن يعلم أن قصص الأنبياء السألفين لا تذكر في الحديث إِلا على سبيل القلة، فالقصص الطويلة العريضة التي تكلف المفسرون روايتها، كلها منقولة عن علماء أهل الكتاب إِلا ما شاء اللَّه تعالى. انتهى.
فإذن، لا يخفى أن من وجوه التفسير معرفة القصص المجملة في غضون الآيات الكريمة، ثم ما كان منها غير إسرائيليٍّ. كالذي جرى في عهده صلى الله عليه وسلم، أو أخبر عنه. فهذا تكفّل ببيانه المحدثون. وقد رووه بالأسانيد المتصلة، فلا مغمز فيه.
وأما ما كان إسرائيليًّا، وهو الذي أخذ جانبا وافرًا من التنزيل العزيز، فقد تلقى السلف شرح قصصه، إما مما استفاض على الألسنة ودار من نبئهم، وإما من المشافهة عن الإسرائيليين الذين آمنوا. وهؤلاء كانوا تلقفوا أنباءها عن قادتهم. إذ الصحف كانت عزيزة لم تتبادلها الأيدي، كما هو في العصور الأخيرة. واشتهر ضنّ رؤسائهم بنشرها لدى عمومهم، إبقاء على زمام سيطرتهم، فيروون ما شاؤوا غير مؤاخذين ولا مناقشين. فذاع ما ذاع"
(2)
.
ويظهر من سبر تعامل السلف مع الإسرائيليات وأقوالهم فيها ما يأتي:
الأول: كان مرادهم بإيرادها بيان المعنى العام للآية، وأن الوارد عند بني إسرائيل لا يختلف عن المعنى الإجمالي فيها.
(1)
محاسن التأويل 1/ 42. وقد ذكر ذلك في فصل نفيى تحت عنوان: "قاعدة في قصص الأنبياء والاستشهاد بالإسرائيليات" 1/ 40 - 50.
(2)
محاسن التأويل للقاسمي، تعليق: محمد فؤاد عبد الباقي 1/ 41.
الثاني: أن التفاصيل لا تُصدَّق ولا تُكذَّب إِلا بخبر الصادق المعصوم، ولا يكفي في قبولها ورودها في مرويات بني إسرائيل.
الثالث: أن نَهْيَ من نَهَى من الصحابة والتابعين منصبٌّ على واحد من احتمالين:
- الاحتمال الأول: ما كان فيه طلب الاهتداء، أو على كثرة سؤالهم، وعلى هذا يُحْمَل ما ورد عن ابن مسعود وابن عباس.
- الاحتمال الثاني: كثرة سؤالهم، وطلب ما عندهم من الغرائب، وعلى هذا يحمل ما ورد عن الأعمش في شأن مجاهد
(1)
حيث كان يتقيه الكوفيون لروايته لمرويات بني إسرائيل، ومما ورد من غرائبه في ذلك:
عن الأعمش، قال:"كان مجاهد لا يسمع بأعجوبة إِلا ذهب لينظر إليها" ذهب إلى حضرموت ليرى بئر برهوت، وذهب إلى بابل -وعليه وال- فقال له مجاهد: تعرض علي هاروت وماروت، فدعا رجلًا من السحرة فقال: اذهب به، فقال اليهودي: بشرط أن لا تدعو اللَّه عندهما. قال: فذهب به إلى قلعة، فقطع منها حجرًا، ثم قال: خذ برجلي، فهوى به حتى انتهى إلى جوبة، فإذا هما معلقين منكسين كالجبلين، فلما رأيتهما قلت: سبحان اللَّه خالقكما، فاضطربا، فكأن الجبال تدكدكت، فغشي علي وعلى اليهودي، ثم أفاق قبلي، فقال: قد أهلكت نفسك وأهلكتني"
(2)
.
وقد سار كثير من علماء التفسير على نقل هذه الإسرائيليات وتداولها من غير نكير لكثير منها، ولم يقع النكير المطلق إِلا عند بعض المفسرين، كالرازي وأبي حيان، ثم استقر الأمر عند كثير من المعاصرين على هذا المنهج
(3)
.
(1)
لم يتوقف كثير من العلماء عن قبول تفسير مجاهد، ولا كانوا يتقونه كما نقل أبو بكر ابن عياش، بل كان إمام التابعين في التفسير، حتى قال سفيان الثوري:"إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به".
(2)
سير أعلام النبلاء 4/ 456.
(3)
يمكن تقسيم الناس في هذا إلى أقسام:
1 -
مفسرون ينقلونها دون اعتراض، وهذا كثير في كتب التفسير.
2 -
مفسرون اعترضوا على كثير منها، إن لم يكن كلها، ومنهم الرازي وأبو حيان.
3 -
قوم عرَّضوها للنقد والتقويم، ولم يتركوها بالكلية، ولا انتقدوها بالكلية كذلك، ومنهم ابن كثير. محاسن التأويل 1/ 42. وقد ذكر ذلك في فصل نفيس تحت عنوان:"قاعدة في قصص الأنبياء والاستشهاد بالإسرائيليات" 1/ 40 - 50.