الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فبالرغم من إدراكي، أن الحديث عن حروب صليبية في هذا العصر، يعتبر أمراً مستهجناً لدى البعض، إلا أنني سأستمر في محاولة إبراز هذا الدور الذي يلعبه الدين في السياسة الأمريكية، انطلاقاً من إيماني أن الدين ـ كان ولا يزال ـ هو الملهم والمحرك الأساسي لكافة الأفعال البشرية. فكما يقول المؤرخ الإغريقي (بلوكارل): قد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور
…
ومدن بلا مدارس
…
ولكن لم توجد أبداً مدن بلا معابد.
الأصولية المسيحية وعلمانية الغرب
من الأخطاء الشائعة لدى معظم المفكرين والمثقفين العرب والمسلمين، اعتقادهم بلادينية الحضارة الغربية، قياساً على الإفرازات الأخلاقية والفكرية لهذه الحضارة، التي تفصل بين الدين والدولة. وهذا الاعتقاد خاطئ وربما يصدق على بعض الدول الغربية، ولكنه لا يصدق عليها كلها. فهو يصدق على الدول الكاثوليكية مثل إيطاليا وفرنسا وأسبانيا، ولكنه لا يصدق على الدول البروتستانية مثل بريطانيا وأمريكيا.
فالدول الكاثوليكية قبل أن تأخذ بمبدأ فصل الدين عن الدولة، كانت تخضع لسلطة البابا، وكان لزاماً عليها إطاعة أوامره، حيث بلغت سلطة البابا في ذلك الحين شأواً عظيماً. فقد كان البابا يدعى حق السيطرة الدينية والدنيوية على كل شيء، وكانت الكنيسة تفرض ضريبة الأعشار على إتباعها وتجمع التبرعات وتضمها لمواردها الخاصة، فضلاً عن إعفاء أملاكها من الضرائب. وكان للبابا نواب يمثلونه لدى كافة الملوك والأمراء في أوروبا (1). ولكن عندما تأثرت هذه الدول بأفكار عصر التنوير وبحركة الإصلاح الديني، قامت بفصل السلطة الدينية عن السلطة الزمنية، بحيث لم يعد للبابا أي سلطان عليها. ولكن هذا الدول عندما فعلت ذلك فإنها خالفت قرارات المجامع المسكونية، التي اعتبرت كل المسيحيين بمن فيهم الحكام خاضعين
(1) الاجتماع الديني (مفاهيمه النظرية وتطبيقاته العملية) ـ د. أحمد الخشاب ـ ص 212
للبابا وملزمين بطاعة أوامره، لأنه رئيس الكنيسة التي تحمل سلطان الله على الأرض (1).
وهذا الوضع الجديد الذى نشأ في هذه الدول، نتيجة فصل السلطة الزمنية عن السلطة الدينية، يجعل الحديث عن علمانية هذه الدول له ما يبرره، وربما هذا ما يفسر قوة الأحزاب الشيوعية في البلدان الأرتوذكسية والكاثوليكية، في حين أنها غير قوية في البلدان الأخرى، وعلى الأخص في البلدان البروتستانتية. فمن بين الأعمال المبكرة لماركس، والتي لم تحظ بالكثير من الشهرة، تعليق كتبه على إنجيل يوحنا. يجزم ماركس فيه:"بأن المسيحية، بصيغتها البروتستانتية على وجه الخصوص، هي الشيء الوحيد القادر على إعادة صنع حياة دمرتها الخطيئة"(2)، لأن العامل عندما وجد انه مبعد عن مجتمع تدعمه الأوساط الكاثوليكية، انضم إلى اكليروس آخر مستكمل التكوين (3)، وهذا يعنى أن الدين الذي وصفه ماركس بأنه افيون الشعوب، هو الدين المسيحي بشقه الكاثوليكي والارثوذكسي، وليس الدين المسيحيى بشقه البروتستانتي، الذي مدحه ماركس وغيره من مفكري التنوير كما سنلاحظ، بسبب فصله بين الدين والدولة.
أما الدول البروتستانتية مثل بريطانيا وأمريكيا، فإنها بتبنيها للمذهب البروتستانتي، قبلت بمبدأ فصل السلطة الزمنية عن السلطة الدينية، الذي نادى به (لوثر) خلال محاولته تحجيم سلطة الكنيسة الكاثوليكية، كما وضحنا ذلك سابقاً. فإلى جانب الإصلاحات الدينية الكاسحة التي قام بها (مارتن لوثر) و (جون كالفن)، فإنهما ربما اقترحا إلغاء الصلة التي تربط بين الكنبسة والدولة، والتي كانت تمثل جزءا أساسياً في الكاثوليكية في ذلك الوقت. ولكن في الحقيقة أيد كل من (مارتن لوثر) و (جون كالفن) إضفاء الطابع الرسمي على الكنائس التي أسهما في تأسيسها (4). وقد جاءت بعد لوثر فرق بروتستانتية متعددة مثل المعمدانيين لتؤكد هذا المبدأ، حيث كانوا أول من نادى بمبدأ فصل الدين عن الدولة، لأسباب دينية
(1) المسيحية ـ د. أحمد شلبي ـ ص 252 ـ253
(2)
إنجلز .. مقدمة قصيرة جداًـ تيريل كارفرـ مراجعة/ كامبردج بوك ريفيوزـ الجزيرة نت
(3)
تاريخ الحضارة الغربية ـ كلود دلماس ـ ترجمة توفيق وهبه ـ ص 83 - عويدات، 1982
(4)
الدين والسياسة في الولايات المتحدة -ج1ـ مايكل كوربت ـ جوليا ميشتل كوربت ص25
أصولية أدعوا خلالها بأن الكنيسة في بدايتها الأولى لم يكن لها أي علاقة بالدولة. لهذا فإن الدول البروتستانتية مثل بريطانيا وأمريكيا عندما قامت بفصل الدين عن الدولة، فإنها فعلت ذلك استجابة لعقيدة دينية، وليس استجابة لأفكار ونظريات فلسفية علمانية كما حدث في الدول الكاثوليكية والأرثوذكسية.
فنتيجة للثورة على الكنيسة الكاثوليكية خلال عصر الإصلاح، "رأي الغرب في العلمانية - كما قال الفيلسوف الإنجليزي البروتستانتي (جون لوك) (1) - الطريقة الجديدة والأفضل ليكون المرء متديناً، معتبراً أن الخلاص الروحي ينبغي أن يقوم على ترك الأفراد ليقرروا بأنفسهم في نهاية المطاف، الطريقة التي يرشدهم بها الكتاب المقدس لتحقيق ذلك الخلاص، سواء كان ذلك عن طريق العمل الصالح أم برحمة من الله"(2). وهذه الطريقة الجديدة التي عرفت فيما بعد بالعلمانية، لم تكن تعني الابتعاد عن الدين، بل الاقتراب منه أكثر ولكن بدون وساطة من رجال الكنيسة، لهذا فإن الدين ظل يلعب دوراً رئيساً في حياة هذه الدول، بالرغم من أنها تفصل بين السلطتين الزمنية والدينية، لأن هذا الفصل لم يأتِ نتيجة لنزعة الحادية تنكرت للدين، بل جاء تلبية لمعتقد ديني.
وهذا الوضع الجديد للدين في هذه الدول يتمشى مع رأى (كالفن) في علاقة الكنيسة بالدولة، حيث كان يقول:"إن الكنيسة والدولة مقدستان، وقد خلقهما الله لكي يعملا في انسجام كالروح والجسد لمجتمع مسيحي واحد. فعلى الكنيسة أن تضع القواعد التي تنظم التفاصيل الخاصة بالعقيدة والعبادة والأخلاق، وعلى الدولة أن تدعم هذه القواعد باعتبارها ذراع الكنيسة الطبيعي"(3). وهكذا أصبح لفصل الدين
(1) جون لوك اسم لامع في تاريخ الفكر السياسي الغربي، ولا يخلو كتاب له علاقة بالعلوم السياسية من اسم هذا المفكر. لوك الفيلسوف والاقتصادي والمجادل العتيد (1632ـ1704) عاصر فترة حرجة ومهمة في تاريخ ميلاد النظام السياسي البريطاني الحديث. وقد شهدت فترة حياته الحرب الأهلية وإعدام الملوك وإعلان الثورة وقيام الجمهورية، كما شهدت فترة تهدئة النزاع الديني الذي مزق البلاد منذ بداية الانفصال عن الكنيسة الكاثوليكية في روما (33ـ1534) وتحول بريطانيا من دولة ملكية مطلقة إلى دولة ملكية دستورية ذات حكومة محددة المهام والصلاحيات.
(2)
لوك .. مقدمة قصيرة جداـ تأليف/ جون دون ـ عرض/ كامبردج بوك ريفيوز
(3)
قصة الحضارة ـ ول ديورانت قصة الحضارة ـ ول ديورانت - زكي نجيب محمود، ، محيى الدين صابر ـ ج 23،24 ـ ص 215 - دار الجيل، 1988