الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ازدهار أشغاله المثمرة، وحيث أنه لم يكن واثقاً من نجاحه لينصرف إلى الراحة، عمد إلى تشغيل أمواله مرات عديدة، وجنى أرباح عظيمة بطريقة حسابية دقيقة (1).
6 -
إضاعة الوقت: يعتبر إضاعة الوقت ذنباً دينياً، لأن حياة الإنسان قصيرة جداً وقيمة، ومن تم فإضاعة الوقت من خلال الفراغ والترف أو النوم بأكثر مما تحتاجه الصحة، يجلب الإدانة الأخلاقية. فضياع ساعة وقت تعنى ضياع ساعة عمل في تأكيد مجد الله. وعلى ذلك فالتأمل السلبي لا قيمة له، ويستحق الإدانة إذا كان على حساب العمل اليومي. فليس اسعد لله من الانجاز الايجابي لإرادته.
7 -
التبرير الديني لتخفيض الأجور واستغلال العامل: يؤكد (فيبر) أن رفع اجر العامل يعنى أنه سوف يجد لديه أكثر مما يحتاجه لإشباع حاجاته التقليدية وبالتالي سوف يدفعه ذلك إلى التقليل من كم العمل. ولما كان الإنسان الذي لا ينتج مادامت لديه الصحة والقدرة، هو الإنسان الذي يغفل مسئولياته الأخلاقية، فإن تخفيض اجر العامل تكون له مبرراته الدينية. فيجب علينا كما يقول (فيبر) أن نأخذ بالحكمة الكالفنية التي تقول: أن البشر يعملون فقط ماداموا فقراء (2).
هكذا شكلت العناصر السابقة المستمدة من المذهب البروتستانتي في مجموعها كما يذهب فيبر نسقاً قيمياً، كان مصدر الإلهام لنشأة النظام الرأسمالي. "فالديانة التي استصلحت أصلحت بدورها الخلق الاقتصادي. لقد كانت تخشى تراكم الثروات، ولكنها كانت تحارب سوء استعمال الثروة لا تجميعها، وحكماء انكلترا المجددون، حاولوا الجمع بين روح الأعمال ومقتضيات العقل، ومن هنا نشأ مبدأ المنافسة والصراع"(3).
دور الدين في الحياة الأمريكية
مما تقدم، اتضح لنا دور الدين والقيم الدينية المستمدة من المذهب البروتستانتي، في نشأة النظام الرأسمالي السائد، في كلاً من بريطانيا وأمريكيا،
(1) تاريخ الحضارة الغربية ـ كلود دلماس ـ ترجمة توفيق وهبه ـ ص 63
(2)
النظرية الاجتماعية لمعاصرة ـ دراسة لعلاقة الإنسان بالمجتمع ـ د. على عليله ص 507
(3)
تاريخ الحضارة الغربية ـ كلود دلماس ـ ترجمة توفيق وهبه ـ ص 62
حيث لعب هذا المذهب على صبغ الحياة الأمريكية برمتها بصبغة دينية، وهنا يبرز خطأ شائع، بل وقاتل وقع فيه كثير من الكتاب والمفكرين العرب، من خلال محاولتهم التقليل من دور الدين في الحضارة الحديثة، على اعتبار أن الغرب لم ينجح، ولم يتقدم إلا بعد أن خلع رداء الدين، واحل محله ما يسمى بالعلمانية، التي تفصل الدين عن الدولة، حيث حاول هؤلاء الوصول إلى نتيجة أن العرب والمسلمين لن يتقدموا إلا إذا فعلوا نفس الشيء، ولست هنا في مجال الخوض في تفاصيل هذا الموضوع، لأن ذلك ليس موضوع الكتاب، ولكن هذا لا يمنع من إلقاء مزيد من الضوء على دور الدين في أمريكا، بعد أن بينا أثره في رسم السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، والعالم الإسلامي.
وحتى لا يكون حديثنا في هذا المجال مجرد سرد للتصريحات، والمواقف للسياسيين والمفكرين، ورجال الدين الأمريكيين ـ بالرغم من أهميتها ـ سنحاول الغوص بعمق في جذور الثقافة والفكر الأمريكي منذ نشأته، لنبين الدور المركزي الذي لعبه الدين ـ ولازال ـ في الحياة الأمريكية، وفي تشكيل الثقافة الأمريكية ومنظومة القيم، التي يؤمن بها الأمريكيون (1)، حيث "أن نظرة شاملة لطرق تفاعل الدين والسياسة في أمريكا، منذ التاريخ المبكر للهجرة إلي أمريكا، وبناء المستعمرات، وحتى الآن، ستجعلنا نتبين أنه لا يمكن فهم التاريخ الأمريكي المعاصر دون فهم جدلية العلاقة بين الدين والسياسة، التي تعد المنظور الكامل للتاريخ الأمريكي، حيث أن جذور الأحداث، التي تعرفها أمريكا المعاصرة، تضرب بجذورها في أعماق التاريخ والثقافة الأمريكية، وتعد العلاقة بين الدين والسياسة أحد أهم المؤثرات فيهما والمحركة لهما"(2).
وفي كتابه الجديد (من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأميركية)، يحاول (صموئيل هنتنغتون) تحديد الهوية الحقيقية لأمريكا، حيث يرفض فكرة أن الولايات المتحدة، هي مجتمع من المهاجرين متعددي الأعراق والإثنيات والثقافات، ويرى على
(1) راجع، المدخل في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، حتى 1877 - محمد النيرب- ج1 ص60 - دار الثقافة الجديدة - ط1 1997
(2)
الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكيةـ مايكل كوربت وجوليا كوربت ـ ترجمته د. عصام فايز، ود. ناهد وصفي ص18
النقيض أن الأميركيين الذين أعلنوا استقلال أميركا عن الاستعمار البريطاني في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، كانوا مجموعة متجانسة من المستوطنين البريطانيين البروتستانت، الذين توافدوا إلى العالم الجديد من أوروبا، وخاصة بريطانيا، لكي يستقروا فيه ويعمروه للأبد. ويرى أن هؤلاء المستوطنين وضعوا بذور المجتمع الأميركي، انطلاقاً من مبادئهم وثقافتهم الأنغلو ـ بروتستانتينية التي لولاها لما قامت أميركا، التي نراها اليوم. ولذا يرى (هنتنغتون) أن لأميركا هوية محددة هي هوية هؤلاء المستوطنين، التي تقوم على ركائز أربع أساسية، هي العرق الأبيض، والإثنية الإنجليزية، والدين المسيحي البروتستانتي، والثقافة الإنجليزية البروتستانتينية. ويعتقد (هنتنغتون) أن الخصائص الأربع السابقة، انعكست بوضوح على جميع خصائص المجتمع، والدولة بالولايات المتحدة، وظلت سائدة حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي تقريباً (1).
كما ان القارئ لتاريخ الولايات المتحدة الأمريكية منذ تأسيسها، يمكنه أن يلحظ إلى أي حد مثل الدين أساسا، أقيم عليه العالم الجديد (أمريكا). فقد جاء المستعمرون البيوريتانيون ـ الذين أسسوا مستعمرة خليج ماساتشوستس إلى العالم الجديد بدوافع دينية إلى حد ما. لقد جاءوا من إنجلترا إلى هنا لكي يحيوا حياتهم بالشكل الذي يتماشى مع رؤاهم الدينية، حيث تعذر ذلك في إنجلترا خلال الحكم العدائي لجيمس الأول، وشارلز الأول. ورأى الكثير منهم أنه من الأفضل لهم الذهاب إلى مكان آخر، لممارسة معتقداتهم. لذا قام البيوريتانيون بتأسيس مستعمرة خليج ماساتشوستس في عام 1630م وخلال العقد التالي هاجر أكثر من عشرين الف بيوريتاني إلى هذه المستعمرة (2).
فقد كان عام 1620م مرحلة رسو الباخرة ميلفور على الشواطئ الأمريكية، مقلة جماعة من المنشقين الدينيين، من جماعة البروتستانت، التي أنشأت انكلترا الحديثة (3)، بداية هجرة جماعات كبيره من البريتانيون المتعصبين، فراراً من
(1) من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأميركية: صموئيل هنتنغتون ـ ط1 2004 - الناشر: سيمون آند سيشتر - الولايات المتحد- عرض/ علاء بيومي ـ الجزيرة نت 2ـ8ـ2004م
(2)
الدين والسياسة في الولايات المتحدة -ج1ـ مايكل كوربت ـ جوليا ميشتل كوريت ص43
(3)
تاريخ الحضارة الغربية ـ كلود دلماس ـ ترجمة توفيق وهبه ـ ص 76
الاضطهاد الديني، الذي كانوا يعانون منه في بريطانيا وأوروبا، نتيجة الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت، حيث حملوا معهم تراثهم الديني المستمد من العهد القديم، وكانوا يسقطون الأحوال التي يمرون بها وكأنها جاءت مطابقة لما ورد فيه بشأن اليهود عند دخولهم أرض فلسطين، بعد خروجهم من مصر. معتقدين بأنهم (شعب الرب المختار) المكلف برسالة ما، والعالم الجديد هو (إسرائيل الجديدة)، والعالم القديم هو مصر الجديدة. ولهذا عقد البيوريتانيون عهداً مع الرب ومع بعضهم البعض، ببناء مجتمع يقوم على أساس القانون الإلهي. فكان لابد لهم أن يكونوا بمثابة مدينة تقف أعلى التل (أي مدينة فاضلة) تكون محط أنظار العالم أجمع.
- إن أي إنسان يدان قانونياً بعبادة إله غيرالهنا سوف يعدم.
- إن كل من يعمل بالسحر رجلا كان أو امرأة (أي تكون له صله أو يلجأ للاستعانة بالأرواح) سوف يعدم.
- إذا ما قام أي إنسان بسب الرب (الأب أو الابن أو الروح القدس)، سواء بالتغيير الصريح أو بالتجريح، أو عن طريق العمد، أو يلعن الرب بأسلوب مماثل سوف يعدم.
تلك مختارات من قوانين الإعدام، التي تشكل جزءاً من هيئة الحريات بماساتشوستس لعام 1641م، حيث حدد البيوريتانيون (التطهريون) اثنتي عشرة جريمة يعاقب فيها المرء بعقوبة الإعدام. والجرائم الثلاث الأولى (المذكورة أعلاه) تتعلق بالأمور الدينية. لقد جنح النظام البيوريتاني في أوجه إلى النمط الثيوقراطي. ففي هذه المستعمرة، سيطرت الكنائس البيوريتانية على الحكومة، وحرص البيوريتانيون بشكل جاد على استخدام كل من المنظمات السياسية والدينية في صياغة رؤيتهم للمجتمع، على أساس معتقداتهم الدينية (1).
(1) الدين والسياسة في الولايات المتحدة -ج1 مايكل كوربت، جوليا ميشتل كوربت ص39
وهكذا لعب الدين دوراً مركزياً في حياة الأمريكيين منذ السنين الأولى. "فأمريكا هي الأمة الوحيدة في العالم التي شيدت على أساس الإيمان"(1)، ويصبح المرء أمريكياً عبر اعتناق جملة الطروحات الواردة فيما أطلق عليه (امرسون) اسم (تجربة دينية). "ففي التعابير التي كانت تدور على ألسنة سكان المراحل الأولى من تاريخ فيرجينيا ـ على سبيل المثال ـ أعلن أوائل المستوطنين عن أنفسهم بجرأة أنهم على حد قول (جون رولف) بأنهم "شعب له خصوصيته أشار إليه، واختاره إصبع الله لامتلاك تلك الأرض لأنه معنا دون شك". واليوم يعتقد الكثيرون في الولايات المتحدة، بأن الدولة مكلفة بمهمة خاصة، ويعين عليها أن تكون مثالاً يحتذى به في العالم اجمع. ويشعر كثير من الأمريكيين بأن الولايات المتحدة هي الأرض المختارة التي أسبغ الرب عليها نعمته (2).
"ويمكننا الحصول على صورة لا بأس بها، عن أثر الدين في الحياة الأمريكية، إذا لاحظنا أنه كانت توجد مقاعد في الكنائس عام 1860م تتسع لستة وعشرين مليوناً من السكان، الذين بلغ إجمالي عددهم 31 مليوناً. وتدل هذه الأرقام على أن المرء لو زار الولايات المتحدة يوم أحد في تلك الفترة لوجد على الأرجح أن أكثر من نصف الناس كانوا في الكنيسة"(3). وقد لاحظ (توكفيل) في تلاثينات القرن التاسع عشر أن الأمريكيين كانوا الشعب الأكثر تدينا (4) ً، وقد بقى ذلك صحيحاً إلى اليوم. "ففي أي عطلة أسبوعية، سيبادر ما يزيد على نصف مجموع الأمريكيين إلى الذهاب إلى إحدى دور العبادة، مقارنة بنسبة تتراوح بين 10، و20، بالمئة في أكثر البلدان الأوربية وكندا"(5). كما لاحظ (جيمس برايس) وهو زائر بريطاني للولايات المتحدة في عقد ثمانينات القرن التاسع عشر الميلادي أن رجال الدين كانوا أبرز مواطني أمريكا وأنهم كانوا يحصلون على " قدر من النفوذ كثيراً ما يفوق في اتساعه وقوته
(1) الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص5،
(2)
الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية ـ مايكل كوربت، وجوليا كوربت -ص50.
(3)
الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص59
(4)
أمريكا والعالم - د. حسين فوزي النجار - ص43 - مكتبة مدبولي 1986
(5)
الدولة المارقة - الدفع الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية - كلايد برستوفتز - تعريب فاضل جتكر -ص52
نفوذ أي رجل عادى علماني" (1).واكد توكفيل هذا المعنى فقال: «عند الأمريكيين يجب اعتبار الدين بمثابة المؤسسة السياسية الأولى» (2). ولهذا كانت القوة الدافعة لتحريم الخمر في أمريكيا هي الحملة البروتستانتية التي انخرط فيها الليبراليون والمحافظون البروتستانت.
وقد وصف أحد الكتاب (جمعية مناهضة الحانات) التي تأسست في 1895م على أنها في الحقيقة فرع الكنائس الميثودية المعمدانية، حيث أيد بشدة جميع البروتستانت الأمريكيين تحريم الخمر، ولم يكن هناك إلا بعض الاستثناءات (3).
أما في العصر الحاضر، فإن "هناك دلائل على أن أغلبية الأمريكيين في أواخر القرن العشرين، يغمرهم شعور ديني لافت للنظر، إذ عاد إلى الظهور ـ في أواخر عقد الثمانينات من هذا القرن نوع من المسيحية التقليدية إلى حد ما كقوة يعتد بها في الحياة الأمريكية السياسية والثقافية، حيث تبدو أهمية الدين من خلال كثرة وتكرار استخدام النصوص الدينية من جانب الساسة، مثل استخدام (كلينتون) في خطابه الافتتاحي عام 1997م لعبارة من التوراة، تقول: "استرشادا بالرؤية القديمة لأرض الميعاد، فلنوجه أبصارنا اليوم إلي أرض ميعاد جديدة". ويشير (مايكل كوربت) في كتابه "الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية" إلي تغلغل الدين في حياة الأمريكيين في قضايا عامة، وخاصة مثل شن الحرب وتفهمها، أو تبرير أسبابها، وتنظيم الحياة الشخصية، وحول ما يجب فعله أو الامتناع عنه، أو تبرير العبودية، والفصل العنصري أو رفضها. كما يعتبر المؤلف أن الصلاة الجماعية في الكنائس بأمريكا، هي نوع من دعم الدولة للدين، وفي نفس الوقت مساعدة الأفراد علي الإحساس بكل ما هو مقدس، ويرجع المؤلف ظهور التعليم العام، ونشأة العمل التطوعي إلي الدين (4).
(1) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص112
(2)
أمريكا المستبدة الولايات المتحدة وسياسة السيطرة على العالم «العولمة» - ميشيل بيغنون -ترجمة: الدكتور حامد فرزات ص 214 - من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2001
(3)
الدين والسياسة في الولايات المتحدة -ج1ـ مايكل كوربت ـ جوليا ميشتل كوربت ص115
(4)
الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية ج1ـ تأليف مايكل كوربت وجوليا كوربت ـ ص50
وفي هذه الأيام يجد منظمو استطلاعات الرأي باستمرار، مستويات من الإيمان الديني المعلن يمكن أن تدفع المرء إلى التشكيك في الاعتقاد الشائع القائل: إن الأمريكيين الآن أقل تديناً مما كانوا عليه منذ قرن مضى. إذ لا يقول خمسة وتسعون في المائة من الأمريكيين، الذي يجري استطلاع آرائهم كل مرة أنهم يؤمنون بالله وحسب، بل يقول أكثر من سبعين في المائة أيضاً أنهم لن يصوتوا لصالح مرشح رئاسي لا يؤمن بالله، (حتى وإن كانوا يحبونه حقيقة
…
ويشاركونه آراءه السياسية). كما يقول سبعة من كل عشرة أن عيسى هو ابن الله المقدس. ويؤمن نفس العدد بحياة بعد الموت. كذلك يقول الثلث أنهم (ولدوا من جديد) كما يقول حوالي النصف أن (الكتاب المقدس) كلمة الله، وكل ما جاء فيه صحيح. ويقول ستة من كل سبعة، أن الوصايا العشر من الأمور، التي يجب العمل بها هذه الأيام، بينما يذكر سبعة وخمسون في المائة أن الدين "أمر هام جدا في حياتهم"(1).
وهذه المستويات العالية من الإيمان الديني، التي كشفت عنها الاستطلاعات، تؤكد النتيجة التي سبق وأن توصل إليها (الكسيس دي توكفيل) في كتابه (الديمقراطية في أمريكا) عندما قال:"في الولايات المتحدة السلطة المهيمنة سلطة دينية وبالتالي، لا يوجد بلد في العالم يتمتع فيه الدين المسيحي بالنفوذ الذي يتمتع به في نفوس الناس في أمريكا"(2). كما أن الكتاب المقدس ـ المصدر الرئيس للعقيدة المسيحية ـ يتمتع بمكانة خاصة حاسمة في نفوس الناس في أمريكيا، لأنه كان في وسع المصلح دائماً الاحتكام إلى المبدأ البروتستانتي القائل: إن الكتاب المقدس كان السلطة الوحيدة العليا التي تسمو على جميع التقاليد، وكان بإمكان الشخص العادي الذي يقف إلى جانب المعنى الواضح المبني على سلامة الفطرة للكتاب المقدس، وان يتجاهل سلطة رجال الدين المثقفين أو الكنائس ذات الهيبة والمقام.
وهكذا فقد اتفق جميع البروتستانت الأمريكيين تقريباً، من حيث المبدأ على أن الكنيسة الحقة والمدنية الصحيحة لابد وأن تقوما على الكتاب المقدس. "ولا يكاد يمكن للمرء أن يغالي في تقديره للدرجة العظيمة التي نظر بها البروتستانت
(1) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص9
(2)
الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة - ص71
الأمريكيون إلى الولايات المتحدة، على أنها نتاج لحضارة ذلك الكتاب. فقد حظي الكتاب ذاته باحترام واسع بوصفه المرجع النهائي لجميع المواضيع بما فيها التاريخ والعلوم، إلى جانب اللاهوت والأخلاق. وطيلة القرن التاسع عشر الميلادي قرأ أطفال المدارس الأمريكيين دروساً في سلسلة كتب (ماك غفي) للقراءة عناوين مثل:(الكتاب المقدس خير المؤلفات المعتمدة) و (أمي التوراة) ".
ونتيجة هذا الأثر الكبير للكتاب المقدس، وبالذات العهد القديم، على الأمريكيين، لم يكن غريباً أن يصف الأمريكيون أنفسهم بعبارات وصور مجازية توراتية، واقتفوا اثر سوابق بيوريتان نيوانجلند في هذا المجال واستمروا يتحدثون عن أنفسهم على أنهم إسرائيل جديدة، وأنهم شعب يرتبط بميثاق مع الله. وكان المفهوم الميثاقي ـ القائل: إن نجاح الأمة (الأمريكية) وازدهارها نتيجة لبركات من لدن الله، ومن ثم الاعتماد على النظام الأخلاقي القومي ـ يمثل معتقداً علمياً وله تأثيره الكبير في كل حركة سياسية رامية إلى الإصلاح الأخلاقي. إضافة إلى ذلك فقد أحدثت إيقاعات الكتاب المقدس أثرها في الاستعمالات اللغوية البلاغية، وفي خطب (أبراهام لنكولن) مثال بارز على ذلك. وقدم الكتاب المقدس الكثير من أدبياتهم كما اقتصرت معرفتهم بالتاريخ إلى حد بعيد على التاريخ الموجود في الكتاب المذكور" (1)، باعتباره المصدر الوحيد للحقيقة. ولكن ادعاء الكتاب المقدس الحقيقة - كما يقول روبرت يانج- هو ادعاء مستبد، فهو يستبعد الادعاءات الاخرى كافة .. حيث لا تحاول القصص التوراتية كسب ودنا
…
كما انها لا تتملقنا بحيث يمكن ان تسعدنا أو تفرحنا، انها تسعى لاخضاعنا، واذا رفضنا الخضوع فنحن مارقون (2). وربما هذا ما يفسر النظرة الاحادية والتعصب التى طبع بها المؤمنون بحرفيته من الاصوليون المسيحيون، امثال بوش وغيرهم الذين قسموا العالم إلى محورين شر وخير، ودول مارقه وخيره، وطالبوا الجميع بان يكونوا معنا أو ضدنا!!؟.
(1) الدين والثقافة الأمريكية - جورج مارسدن - ترجمة صادق عودة ص9
(2)
اساطير بيضاء (كتابة التاريخ والغرب) - روبرت يانج - ترجمة احمد محمود - ص 232 - المجلس الاعلى للثقافة - ط1 2003