الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
11 -
كتابُ الأقضيةِ
1 -
بابُ: ولايةِ القضاءِ، وأدبِ القاضي
عن عبدِ اللهِ بنِ عمْرو، أنّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قالَ:" لا يَحلُّ لثلاثةٍ يكونون بفلاةٍ من الأرضِ، إلا أمَّروا عليهمْ أحدَهمْ "
(1)
، رواهُ الإمامُ أحمدُ.
وعن أبي سعيدٍ: أنّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قالَ:" إذا خرجَ ثلاثةٌ في سفرٍ، فلْيؤمِّروا أحدَهم "
(2)
، رواهُ أبو داودَ، ولهُ عن أبي
(3)
هريرةَ مثلُهُ.
فيُؤخذ من ذلكَ وجوبُ ولايةِ القضاءِ بطريقِ الأولى.
عن أبي موسى، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " لنْ نستعمل على عَملِنا، مَنْ أرادهُ "
(4)
، أخرجاهُ.
عن عبدِ الرّحمن بنِ سَمُرَةَ، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " يا عبدَ الرّحمن بنَ سَمُرَةَ، لا تسألِ الإمارَة، فإنّكَ إنْ أُعطيتَها عن غيرِ مسألةٍ، أُعِنْتَ عليها، وإنْ أُعْطيتَها عن مسألةٍ، وُكلْتَ إليها "
(5)
، أخرجاهُ.
عن أبي هريرةَ، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " إنكمْ ستحرصونَ على الإمارةِ، وستكونُ ندامةً يومَ القيامةِ، فنعْمتِ المُرضعةُ، وَبئستِ الفاطمةُ "
(6)
، رواهُ البخاريُّ.
(1)
أحمد (المتن 2/ 177).
(2)
أبو داود (2/ 34).
(3)
أبو داود (2/ 34).
(4)
البخاري (12/ 78) ومسلم (6/ 6).
(5)
البخاري (24/ 226) ومسلم (6/ 5).
(6)
البخاري (24/ 226).
وعنهُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قالَ:" من طلبَ قضاءَ المسلمين حتّى ينالَهُ، ثمَّ غلبَ عدلُهُ جَوْرهُ، فلهُ الجنّةُ، ومن غلبَ جورُهُ عدلَهُ، فلهُ النّارُ "
(7)
، رواهُ أبو داودَ بإسنادٍ حسَنٍ.
وفيهِ دلالةٌ على جوازِ السّعي في ولايةِ القضاءِ، لكنَّ الأولى أن لا يَتعاطى ذلكَ لما تقدّمَ من الأحاديثِ.
ولما وردَ من طريقٍ جيّدةٍ عن أبي هريرةَ: أنّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قالَ:" من وَليَ القضاءَ، ذُبحَ بغيرِ سِكينٍ "
(8)
، رواهُ أبو داودَ، والترمذيُّ، وابنُ ماجة.
قد بعثَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُعاذَ بنَ جبلٍ، وأبا موسى الأشْعريِّ رضي الله عنهما حاكميْن إلى اليمنِ، وأردَفَهُما بعليِّ بن أبي طالبٍ حاكماً أيضاً، فدلَّ على أنهُ إذا دعتِ الحاجةُ إلى توليةِ قاضيينِ في البلدِ الواحدِ، جازَ.
قالَ أبو داود: حدَّثنا الربيعُ بنُ نافعٍ عن يزيدَ يعني: ابنَ المِقْدام بن شُرَيْحٍ عن جدِّهِ شُريْحٍ عن أبيهِ هانئ: " أنهُ لما وفدَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم معَ قومهِ، فسمعهمْ يُكنّونهُ بأبي الحكم، فدعاهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالَ: إنّ الله هو الحكمُ، وإليه الحكم، فلم تُكنَّ أبا الحكم؟، قالَ: إنّ قومي إذا اختلفوا في شيءٍ، أتوني فحكمتُ بينَهمْ، فرضيَ كلا الفريقين، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ما أحسنَ هذا، فما لكَ من الولدِ؟، قالَ: لي شُريحٌ، ومسلمٌ، وعبدُ الله، قالَ: مَنْ أكبرُهُمْ؟، قالَ: قلتُ: شُريْحٌ، قالَ: فأنتَ أبو شُرَيْحٍ "
(9)
.
فيهِ دلالةٌ على جوازِ التحكيم مُطلقاً، وهو الصّحيحُ من القولين، واللهُ أعلمُ. أمَّا شروطُ القاضي، فكالإمامِ سواء، وقد تقدَّمتِ الأدلّةُ هناكَ، ونذكرُ هنا حديثَ بُرَيدةَ بنِ الحصيبِ الأسْلميّ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنهُ قالَ: " القضاةُ ثلاثةٌ، واحدٌ في الجنةِ، واثنان في النّارِ، فأمّا الذي في الجنةِ، فرجلٌ عرفَ الحقَّ وقضى بهِ، ورجلٌ عرفَ
(7)
أبو داود (2/ 269).
(8)
أبو داود (2/ 268) والترمذي (2/ 393) وابن ماجة (2308).
(9)
أبو داود (2/ 585).
الحقَّ فجارَ في الحكمِ، فهو في النّارِ، ورجلٌ حكمَ للناسِ على جهلٍ، فهو في النّارِ "
(10)
، رواهُ أبو داودَ، وهذا: لفظُهُ، والترمذيُّ، والنّسائيُّ، وابنُ ماجة، وإسنادُهُ جيّدٌ.
تقدّمَ أنهُ عليه السلام، لمّا بعثَ عمرو بنَ حَزْمٍ إلى اليمنِ، كتبَ لهُ كتاباً، إلى ملوكهم، وكتبَ الصّدّيقُ لأنسٍ، لما وَلاّهُ البحرين كتاباً، فيهِ ما يدلُّ على ولايتهِ.
فيؤخذُ منهُ: كتابةُ عهدِ القاضي، قالَ: ويُستحبُّ أن يدخلَ صبيحةَ يومِ الإثنين، وذلكَ لأنّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دخلَ المدينة يومَ الأثنين حينَ اشتدَّ الضّحى إلى تعالي النّهارِ.
عن صَخْرٍ الغامديِّ، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " اللهُمَّ بارك لأمّتي في بكورِها "
(11)
، رواهُ الإمامُ أحمدُ، وأهلُ السُّننِ.
قالَ الترمذيُّ: حسنٌ، ولا نعرفُ لصَخْرٍ غيرَ هذا الحديثِ.
قلتُ: فأمّا ما تفهمُهُ
(12)
العامةُ في هذا الحديثِ: " يومَ سبتِها وخميسِها "، فلا أصل لهُ.
تقدّمَ حديثُ بُرَيْدةَ: أنهُ عليه السلام: كانَ إذا بعثَ أميراً وصّاهُ بتقوى اللهِ في خاصّةِ نفسِهِ، ومَنْ معهُ من المسلمين خيراً "
(13)
، فيُستَحبُّ للإمامِ إذا ولّى قاضياً أن يوصيهِ، بذلكَ اقتداءً برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
قدْ كانَ لهُ عليه السلام كتّابٌ منهمْ الأئمةُ الأربعةُ، أبو بكرٍ، وعمر، وعثمانُ، وعليٌّ، ومنهم معاويةُ، وزيدُ بنُ ثابتٍ، وغيرُ واحدٍ كما استقصاهم الحافظُ أبو القاسمِ ابنُ عساكر في أوّلِ تاريخهِ، وقدْ حرَّرتهمْ في كتابِ السّيرةِ، ولله الحمد.
(10)
أبو داود (2/ 268) والترمذي (3/ 613) والنسائي في الكبرى كما في التحفة 2/ 94 وابن ماجة (2315).
(11)
أحمد (المتن 4/ 384) وأبو داود (2/ 34) والترمذي (2/ 343) والنسائي (لم أجده، قد يكون في الكبرى) وابن ماجة (2236 و 2238).
(12)
غير واضح بالأصل، فلم تتبين لي، ولعلها هكذا كما أثبتناها.
(13)
تقدم.
قال تعالى: " يا أيّها الّذينَ آمَنُوا كونُوا قوَّامينَ بالقِسْطِ شُهداءَ للهِ "، وقالَ:" وتَعاوَنُوا على البِرِّ والتَّقْوى ولَا تَعاونُوا عَلى الإثمِ والعُدْوانِ ".
عن ابنِ عمرَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قالَ:" منْ خاصمَ في باطلٍ وهو يعلمُ، لمْ يزلْ في سخطِ اللهِ حتّى يَنزِعَ "
(14)
.
وفي لفظٍ: " مَن أعانَ على خصومةٍ بظلمٍ، فقدْ باءَ بغضبٍ من اللهِ "
(15)
، رواهُما أبو داودَ. هذا يخصُّ الوكلاءَ، وأعوانَ القاضي.
عن أبي سعيدٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قالَ:" ما استُخلِفَ من خليفةٍ، إلا لهُ بطانتان، بطانةٌ تأمرُهُ بالخيرِ وتحضُّهُ عليه، وبطانةٌ تأمرُهُ بالشرِّ وتحضّهُ عليه، والمعصومُ مَنْ عَصمهُ الله "
(16)
، رواهُ البخاريُّ.
وللنسائيِّ عن أبي هريرةَ مرفوعاً: " ما مِن والٍ إلا لهُ بطانتان. . الحديث "
(17)
.
فيُؤخذُ، أنهُ يتخذُ قوماً من أصحاب المسائلِ، ثقات أُمناءَ بُرآءَ من الشّحناءِ بينَهم وبينِ النّاسِ.
عن عبد الله بنِ عمْرو، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " لعنةُ اللهِ على الرّاشي والمُرْتشي "
(18)
، رواهُ الإمامُ أحمدُ، وأهلُ السُّننِ، إلا النّسائي، وصحّحهُ الترمذيُّ، قالَ: وفي البابِ عن عائشةَ، وأُمِّ سَلمةَ، وابنِ حديدةَ.
وعن عمرَ بنِ أبي سَلمةَ بنِ عبدِ الرّحمنِ بنِ عَوْفٍ عن أبيهِ عن أبي هريرةَ، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " لعْنةُ اللهِ على الرّاشي والمُرْتشي في الحكمِ "
(19)
، رواهُ الإمامُ
(14)
أبو داود (2/ 274).
(15)
أبو داود (2/ 274).
(16)
البخاري (24/ 269).
(17)
النسائي (7/ 158).
(18)
أحمد (15/ 212) وأبو داود (2/ 270) والترمذي (5/ 397) وابن ماجة (2313).
(19)
أحمد (15/ 212) والترمذي (2/ 397).
أحمدُ، والترمذيُّ، وقالَ: رُويَ عن أبي سلمة عن عبدِ الله بنِ عَمْرو، وسمعتُ الدّارميَّ يقولُ: هو أحسنُ شيءٍ رُويَ في هذا البابِ، قالَ: ورُويَ عن أبي سلمةَ عن أبيهِ، ولا يصحُّ.
وعن ثوبان، قالَ:" لعنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الراشيَ، والمرتشيَ، والرائشَ، يعني الذي بينهما "
(20)
، رواهُ الإمامُ أحمدُ.
وعن أبي حُمَيْدٍ، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " هدايا العُمّال غُلولٌ "
(21)
، رواهُ الإمامُ أحمدُ، بهذا اللفظِ، وهو في الصّحيحين بمعناهُ.
قالَ الشَّعبيُّ: " كان بينَ عمرَ، وأُبي خصومةٌ، قالَ عمرُ: اجعلْ بيني وبينَكَ رجلاً، فجعلا بينهما زيداً، يعني - ابن ثابتٍ، قالَ: فأتيناهُ، فقالَ عمرُ: أتيناكَ لتحكمَ بيننا، في بيتِهِ يُؤتى الحكَمُ "
(22)
، رواهُ أبو القاسمِ البَغَويُّ عن عليِّ بنِ الجعْد عن شُعْبةَ عن سَيّارٍ عنهُ.
ففيه: أنهُ إذا اتفقَ للإمامِ والقاضي حكومةٌ، أنهُ يحكمُ فيهِ بعضُ نوّابهِ.
وكذا روينا عن علي: أنهُ تحاكمَ وهو رجلٌ من اليهودِ في دِرْعٍ لهُ إلى شُرَيْحٍ القاضي.
عن بشر
(23)
بن السَّعْديِّ المالكيِّ، قالَ: " استعملَني عمرُ إلى الصّدقةِ، فلما فرغتُ منها، وأدّيتها إليهمْ، أمرَ لي بعُمالةٍ، فقُلت: إنّما عملتُ للهِ، فقالَ: خذْ ما أُعطيتَ، فإني عملتُ على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فعَمَّلني فقلتُ مثلَ قولِكَ، فقالَ لي
(20)
أحمد (15/ 213).
(21)
أحمد (المتن 5/ 424).
(22)
أبو القاسم البغوي في " الجعديات "(1802).
(23)
هكذا بالأصل ولعل صوابه: عن بسر عن ابن السعدي، لأنه يرويه بسر بن سعيد عن ابن السعدي وهو: عبد الله بن وقدان كما في مسلم، وعند البخاري يرويه حويطب بن عبد العزى عن عبد الله بن السعدي وهو من قريش لكن أباه استرضع في بني سعد.
رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إذا أُعطيتَ شيئاً من غيرِ أن تسألَ فكلْ وتصدَّقَ "
(24)
، أخرجاهُ.
ففيهِ: أنهُ يجوزُ تناولُ القضاءِ من بيتِ المالِ.
قد عُلمَ من غيرِ ما حديثٍ: أنهُ عليه السلام كانَ يعودُ المرضى، ويَشهدُ الجنائزَ، ويُجيبُ الدّعوةَ.
عن أبي بَكْرةَ رضي الله عنه، قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: " لا يَقْضِي حاكمٌ بينَ اثنين وهو غَضبانُ "
(25)
، أخرجاهُ.
وجميعُ الأوصافِ الباقيةِ
(26)
مقيسةٌ على الغضبِ بجامعِ شغلِ الذّهنِ، فإنْ حكمَ والحالة هذهِ، ووافقَ الحقَّ ينفذْ، لما رواهُ عبدُ اللهِ بن الزُّبيرِ عن أبيهِ: " أن رجلاً من الأنصارِ خاصمهُ عند رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في شِراجِ الحرّةِ التي يَسقون بها النخلَ، فقالَ الأنصاريُّ: سرِّحِ الماءَ
(27)
فأبى عليهِ، فاختصما إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم للزُّبيرِ: اسْقِ يا زُبَيْرُ، ثمَّ أرسلْهُ إلى جارِكَ، فغضبَ الأنصاريُّ، ثمَّ قالَ: يا رسولَ اللهِ، أنْ كانَ ابنَ عمّتكَ، قالَ: فتلوَّنَ وجهُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ قالَ للزُّبيرِ: اسْقِ يا زُبَيْرُ، ثم احبسِ الماءَ حتّى يرجعَ إلى الجَدْرِ، فقال الزبير: والله إني لأحسب هيه الآية نزلت في ذلك: " فَلا ورَبِّكَ لا يُؤمنونَ حَتّى يحكِّمُوكَ فِيمَا شَجرَ بَيْنَهُمْ "
(28)
، أخرجاهُ.
عن واثلةَ بنِ الأسقَعِ رضي الله عنه: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قالَ: " جَنِّبوا مساجدَكمْ صبيناكُمْ ومَجانينَكمْ، وشراءَكمْ وبيعَكُمْ، وخصوماتِكُمْ، ورفعَ أصواتِكُمْ، وإقامةَ
(24)
البخاري (24/ 243) ومسلم (3/ 98).
(25)
البخاري (24/ 233) ومسلم (5/ 132).
(26)
غير واضحة بالأصل، ولعلها كما أثبتناها.
(27)
هكذا بالأصل، فراغ هنا قدر كلمة، أظنها كلمة " يمرّ " كما هي في البخاري (5/ 28) الفتح.
(28)
البخاري (12/ 205) ومسلم (7/ 91).
حدودِكمْ، وسَلَّ سيوفكُمْ، واتّخذوا على أبوابِها المطاهرَ، وجمّروها في الجمعِ "
(29)
، رواهُ ابنُ ماجة، وليسَ إسنادُهُ بذاكَ، ولكنْ قد رُوِّينا من وجوهٍ أُخرَ كما تقدَّمَ.
فيُؤخذُ منهُ: أنهُ يُكْرَهُ التصدي للحكم في المساجدِ، فإنْ اتفقَ حكومةٌ، فلا بأسَ، لأنهُ عليه السلام حكمَ بينَ المتلاعنين في المسجدِ كما تقدّمَ.
وفي الصحيحينِ أيضاً عن أبي هريرةَ، قالَ:" أتى رجلٌ من المسلمين رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهو في المسجدِ فناداهُ، فقالَ: يا رسولَ اللهِ، إني زنيتُ، فأعرضَ عنهُ، فتنحّى تلقاءَ وجههِ، فقالَ: يا رسولَ اللهِ، إنّي زنَيْتُ، فأعرضَ عنهُ حتّى شهدَ على نفسِهِ أربعَ شهاداتٍ، فدعاهُ، فقالَ: أبكَ جنونٌ؟، قالَ: لا، قالَ: هلْ أحصنتَ؟، قالَ: نعمْ، قالَ: اذهبوا به فارجموهُ "
(30)
.
استدَل البخاريُّ على جوازِ الحكمِ في المسجدِ، وهو منتزعٌ حسنٌ، ووجهُهُ ظاهرٌ، واللهُ أعلمُ.
عن ابنِ عباسٍ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قالَ:" إنَّ لكلِّ شيءٍ شرفاً، وإنَّ أشرفَ المجالسِ، ما استُقبلَ بهِ القبلةُ "
(31)
، رواهُ الحافظُ أبو يَعْلى الموصليُّ في مُسْنَدِه، وليسَ إسنادُهُ بقويٍّ.
وقالتْ قَيْلةُ بنتُ مَخْرَمةَ: " فلما رأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كالمُتخَشِّعِ في جِلْستهِ، أُرعدتُ من الفَرَقِ "
(32)
، رواهُ البخاريُّ في الأدبِ، وأبو داودَ، والترمذيُّ، قالَ الزُّهْريُّ:" كانَ عمرُ إذا نزلَ به الأمرُ المُعضلُ، دعا الفتيانَ، فاستشارَهم يبتغي بذلك حدّةَ عقولهم "
(33)
، رواهُ البيهقيُّ في كتابِ المدخلِ، وهو منقطعٌ.
فيُستحبُّ للحاكم إذا مرَّ بهِ أمرٌ مُشكلٌ أن يشاورَ أهلَ العلمِ، ويشهدُ لهُ حديثُ
(29)
ابن ماجة (750).
(30)
البخاري (9/ 86) ومسلم (5/ 116).
(31)
أخرجه الطبراني (8/ 59) كما في مجمع الزوائد هكذا، وفيه: متروك.
(32)
البخاري في الأدب (1178) وأبو داود (2/ 561) والترمذي في الشمائل (127).
(33)
البيهقي (10/ 113) في السنن الكبرى.
أُسارى بدرٍ، لما شاورَ عليه السلام فيهم أصحابَهُ، فأشارَ الصّديقُ بمُفاداتهم، وأشارَ الفاروقُ بقتلهم، فهَوى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(34)
ما قالَ أبو بكر، ولمْ يهْوَ ما قالَ عمرُ، حتّى نزلَ القرآنُ بوفاقِ عمرَ رضي الله عنه، والحديثُ مبسوطٌ في صحيحِ مسلمٍ.
عن ابنِ عبّاسٍ عن مُعاذٍ رضي الله عنه: " أنّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لما بعثَهُ إلى اليمنِ، قالَ: كيفَ تقضي إذا عرضَ لكَ قضاءٌ؟، قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجده في كتاب الله؟، قال: فبسُنَّة رسولِ الله، قالَ: فإنْ لمْ تجدْ في كتابِ اللهِ ولا في سُنّة رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قالَ: اجتهدُ رأيي، ولا آلو، فضربَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صدرَهُ، وقالَ: الحمدُ لله الذي وفّقَ رسولَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لما يُرضي رسولَ اللهِ "
(35)
، رواهُ أبو داودَ، والترمذيُّ من حديثِ شُعْبةَ عن أبي عَوْن محمدِ بنِ عبدِ اللهِ الثّقفي عن الحارث بنِ عَمْرو ابنِ أخي المغيرةِ بنِ شُعْبةَ عن أُناسٍ من أهلِ حِمْص من أصحابِ معاذٍ عنهُ.
قالَ الترمذيُّ: ولا نعرفُهُ إلا مِن هذا الوجهِ، وليسَ إسنادُهُ عندِي بمتصلٍ.
قلتُ: بلْ هو: حديثٌ حسنٌ مشهورٌ، اعتمدَ عليهِ أئمةُ الإسلامِ في إثباتِ أصلِ القياسِ. وقد ذكرتُ لهُ طرقاً، وشواهدَ في جزءٍ مفردةٍ، ولله الحمدُ والمِنّةُ.
والغرضُ من إيرادِهِ هنا: أنه لا يجوزُ للحاكمِ أن يُقَلِّدَ غيرهُ في الحكمِ، وقد كتبَ عمرُ بنُ الخطابِ إلى شُرَيْحٍ القاضي يأمرُهُ بالحُكمِ بالكتابِ، ثمّ بالسّنةِ، ثمّ بما اتّفقَ عليهِ الناسُ، ثمّ بالاجتهادِ "
(36)
، رواهُ النّسائيُّ في سُنَنِهِ بإسنادٍ صحيحٍ.
عن عبدِ الله بنِ الزُّبيْر، قالَ:" قضى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّ الخصمين يَقعُدان بينَ يدي الحاكم "
(37)
، رواهُ أبو داودَ.
وعن عليٍّ: " أنهُ لما تحاكمَ هو واليهوديُّ إلى شُرَيْحٍ ترفّعَ عليهِ في المجلسِ،
(34)
مسلم (5/ 157).
(35)
أبو داود (2/ 272) والترمذي (2/ 394).
(36)
النسائي (8/ 231).
(37)
أبو داود (2/ 271)، فيه مصعب بن ثابت ولا يحتج بحديثه.
وقالَ: لولا أنهُ يهوديٌّ لاستويتُ معَهُ، ولكنْ سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ:" صَغِّروهم كما صغَّرهُمُ اللهُ "
(38)
، ولا يُعرَفُ إلا بإسنادٍ غريبٍ في بعضِ الأجزاءِ.
وقد أفردَهُ الحافظُ في اللحية في أحاديثِ المُهذَّبِ، وقالَ: إسنادٌ مجهولٌ، ولا يُعرَفُ إلا من ذا الوجهِ.
وقد رَواهُ البيهقيُّ من وجهين، قالَ البيهقيُّ: وروينا عن عليٍّ مرفوعاً: " النَّهيَ أن يُضَيِّفَ أحدُ الخصمين إلا معَ صاحبِهِ ".
عن ابن عبّاسٍ: " أنّ رجلاً لزمَ غريماً لهُ بعشرةِ دنانيرَ، فقالَ: واللهِ لا أُفارقكَ حتّى تقضيني أو تأتيَني بحملٍ، قالَ: فتحمَّل بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فأتاهُ بقدرِ ما وعدَهُ، فقالَ لهُ: من أينَ أصبْتَ هذهِ؟، قالَ: من معدِنٍ، قالَ: لا حاجةَ لنا فيها، ليسَ فيها خيرٌ، فقضاها عنهُ "
(39)
، رواهُ أبو داود، وابنُ ماجة.
وفيه دِلالةٌ على أنهُ يجوزُ للحاكمِ أن يذبَّ
(40)
عن أحدِ الخصمين ما لزِمَهُ، ولهُ أن يشفعَ لهُ إلى خصمهِ بدليلِ ما أخرجاهُ.
عن كعْب بنِ مالكٍ: " أنهُ تقاضى ابنَ أبي حَدْرَدٍ ديناً لهُ عليهِ في المسجدِ حتّى ارتَفَعتْ أصواتُهما حتّى سمعهما رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في بيتِهِ، فخرجَ إليهما، فقالَ: يا كعبُ، ضعْ من دينِ هذا، أي الشَّطرَ، فقالَ: قد فعلتُ يا رسولَ اللهِ، قالَ: قمْ فاقْضهِ "
(41)
.
عن جُنْدُبِ بنِ عبد اللهِ، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " من قالَ في القرآنِ برأيهِ فأصابَ، فقد أخطأ "
(42)
، رواهُ أبو داودَ، والترمذيُّ، والنسائيُّ من حديثِ سُهَيْلِ بنِ أبي حَزْمٍ القُطَعيِّ عن أبي عِمْرانَ الجَوْنيِّ عنهُ.
(38)
أبو نعيم في الحلية (4/ 140)، والبيهقي في الكبرى (10/ 136) من وجهين مع حديث علي (10/ 137): لا يضيف أحد الخصمين إلا مع صاحبه.
(39)
أبو داود (2/ 217) وابن ماجة (2406).
(40)
غير واضحة بالأصل، ولعلها هكذا، والله أعلم.
(41)
البخاري (4/ 250) ومسلم (5/ 30).
(42)
أبو داود (2/ 287) والترمذي (4/ 269) والنسائي في " الكبرى " كما في التحفة 2/ 444.
وقالَ الترمذيُّ: غريبٌ، وقد تكلمَ بعضُ أهلِ العلمِ في سُهَيْلِ بنِ أبي حَزْمٍ وقد غلّطهُ أبو حاتم الرَّازيُّ أيضاً بشيءٍ فيهِ نظرٌ، والأظهرُ أنها ليستْ مُؤثِّرة، اللهُ أعلمُ.
قلتُ: يُؤخذُ منهُ نقضُ أحكامِ القاضي الذي لا يصلحُ للقضاءِ، أصابَ في أحكامِهِ تلكَ أو أخطأ، كما ذكرهُ الشيخُ رحمه الله.
عن عمْرو بنِ العاصِ رضي الله عنه: أنهُ سمعَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: " إذا حكمَ الحاكمُ فاجتهدَ ثمَّ أصابَ، فلهُ أجران، وإذا حكمَ فاجتهدَ ثمّ أخطأ، فلهُ أجرٌ "
(43)
، أخرجاهُ.
فيُستدلُّ بهِ على الصّحيحِ من القولين أنهُ لا تُنقَضُ أحكامُ الحاكمِ إذا اجتهدَ فأخطأ، وإنْ لم يوافقْ اجتهادُهُ من بعدَهُ، ويُحتجُّ للقولِ الآخرِ بحديثِ أبي هريرةَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قالَ:" بينما امرأتان معَهما ابناهُما، جاءَ الذئبُ فذهبَ بابنِ إحداهُما، فقالتْ هذهِ لصاحبتِها: إنّما ذهبَ بابْنكِ، وقالتِ الأخرى: إنما ذهبَ بابنكِ، فتحاكمتَا إلى داودَ عليه السلام، فقَضى بهِ للكبرى، فخرجتا إلى سليمانَ عليه السلام، فأخبرتاهُ، فقالَ: ائتوني بالسّكّينِ أشقُّهُ بينَكما نصفين، فقالتِ الصّغرى: لا تفعلْ يرحمُكَ اللهُ، هو ابنُها، فقَضى بهِ للصُّغرى "
(44)
، أخرجاهُ.
وقد ردَّ عليه السلام على خالدِ بنِ الوَليدِ حُكمَهُ في بَني جُذَيْمةَ، وضَمِنَ ما أتلفَهُ لهمْ، ولا شَكَّ إنهُ رضي الله عنه كانَ قد اجتهدَ.
(43)
البخاري (25/ 67) ومسلم (5/ 131).
(44)
البخاري (16/ 16) ومسلم (5/ 133).