الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكبير الذي قامت عليه السماوات والأرض وما بينهما، وليصل بين ماضي البشرية وحاضرها ومستقبلها. ثم يستطرد بها إلى الحياة الأخرى بعد هذه الحياة الدنيا، وإلى العالم الآخر بعد عالم الأرض المحدود. ثم يطوف بهم في مشاهد الكون، وفي أغوار النفس، وفي أحوال البشر، وفي عجائب الفطر .. فإذا هم في ذلك المحيط الهائل الضخم الرحيب يطّلعون على آفاق من المعرفة ترفع حياتهم وتطلقها، وتوسع آمادها وأهدافها، وتخرجهم من تلك العزلة الضيقة. عزلة المكان والزمان والحادث.
إلى فسحة الكون كله: ماضيه وحاضره ومستقبله، وإلى نواميس الكون وسننه وروابطه.
ومن ثمّ يرتفع تصورهم لحقيقة الارتباطات وحقيقة العلاقات في هذا الكون الكبير. ويشعرون بضخامة النواميس التي تحكم هذا الكون، وتحكم فطرة البشر، ودقة السنن التي تصرّف حياة الناس وأحداث الحياة، وتحدد مواضع النصر ومواضع الهزيمة، وعدالة الموازين التي تقدّر بها أعمال الخلق، ويقوّم بها نشاطهم في هذه الأرض، ويلقون على أساسها الجزاء في الدنيا والآخرة.
وفي ظل ذلك التصوّر المرتفع الواسع الشامل تتكشف عالمية هذه الدعوة وارتباطها بأوضاع العالم كله من حولها- حتى وهي ناشئة في مكة محصورة بين شعابها وجبالها- ويتسع مجالها فلا تعود مرتبطة بهذه الأرض وحدها، إنما هي مرتبطة كذلك بفطرة هذا الكون ونواميسه الكبرى، وفطرة النفس البشرية وأطوارها، وماضي هذه البشرية ومستقبلها. لا على هذه الأرض وحدها، ولكن كذلك في العالم الآخر الوثيق الصلة بها والارتباط.
وكذلك يرتبط قلب المسلم بتلك الآفاق والآماد؛ ويتكيف على ضوئها شعوره وتصوره للحياة والقيم؛ ويتطلع إلى السماء والآخرة؛ ويتلفت حواليه على العجائب والأسرار، وخلفه وقدامه على الحوادث والمصائر. ويدرك موقفه هو وموقف أمته في ذلك الخضم الهائل؛ ويعرف قيمته هو وقيمة عقيدته في حساب الناس وحساب
الله، فيؤدّي حينئذ دوره على بصيرة، وينهض بتكاليفه في ثقة وطمأنينة واهتمام).
كلمة في سورة الروم ومحورها:
قلنا إن محور السور الأربع: (العنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة)
هو مقدمة سورة البقرة، وقلنا: إنّ كلّا من هذه السور تفصّل في المقدمة تفصيلا، يكمّل بعضه بعضا. وقلنا: إنّ سورة العنكبوت فصّلت في موضوع الإيمان بالغيب وآثاره، وموضوع الإيمان بالكتاب، ولم تتوسّع في موضوع الإيمان باليوم الآخر، وهاهنا نلاحظ أنّ السياق الرئيسي لسورة الروم يكاد يكون منصبّا على موضوع اليوم الآخر.
فالآية (7) تقول: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ والآية (12) تقول: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ والآية (14) تقول: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ. والآية (55) تقول: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ.
وتتحدث السورة عن الله عز وجل بما يذكّر بالآخرة:
فالآية (11) تقول: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
والآية (27) تقول: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
والآية (40) تقول: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
والآية (50) تقول: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
ولاحظ الآن هذه الملاحظة: وهي أن الآيات التي وصفت المتقين من سورة البقرة قالت في جملة ما قالت: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ.
وهذه آخر آية في سورة الروم تقول:
وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ. لاحظ كلمة (يوقنون) في المكانين.
....
فالسورة تكمّل سورة العنكبوت وتفصّل بشكل أخص من مقدمة سورة البقرة ما لم تتوسع فيه سورة العنكبوت في تفصيلها لهذه المقدمة.
....
ومن الملاحظ أن هناك شبها بين آخر آية في سورة يونس التي فصّلت كذلك في مقدمة سورة البقرة وبين آخر آية في سورة الروم.
فآخر آية في سورة يونس هي: وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ.
وآخر آية في سورة الروم: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ.
وهذا يؤكّد أن طريقتنا في فهم الوحدة القرآنية والسياق القرآني صحيحة. فليس في كلامنا في هذا الشأن افتئاتا على القرآن بغير علم بل هو شئ تقودنا إليه المعاني.
…
قلنا أثناء الكلام عن سورة العنكبوت: إن سورة العنكبوت فصّلت بشكل أخص قوله تعالى من مقدمة سورة البقرة:
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ....
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ.
وهاهنا نقول:
إنّ سورة الروم تفصّل بشكل أخص قوله تعالى من مقدّمة سورة البقرة:
وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
لاحظ أنّ في الآية الأخيرة من مقدمة سورة البقرة وعدا هو:
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
ولاحظ أنّ آخر آية في سورة الروم فيها ذكر للوعد:
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ.
…
إنّ من عجائب القرآن ما ورد في بداية سورة الروم، فإنّ فيها وعدا أن ينصر الله الروم على الفرس وهو وعد قد تحقق بعد نزول السورة بفترة، وقد دلّل الله عزّ وجل
على وقوع وعده هذا بوقوع وعده في اليوم الآخر. ثم سار السياق للتدليل على اليوم الآخر، ومن ثمّ نجد في بداية السورة:
وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ* يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ.
وتختم السورة بقوله تعالى:
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ. ومن عرف هذه النقطة فقد أدرك السياق الرئيسي لسورة الروم.
…
ولا نريد أن نستبق الكلام عن تفصيلات السياق، وإنّما نتكلم هنا ضمن الحدود التي نعرف بها السورة ومحورها بشكل مجمل. وقد اتضح مما ذكرناه الموضوع الرئيسي لسورة الروم، واتضح لنا محورها. وسنرى التفصيلات أثناء شرحها. ولنتذكر قبل أن ننتقل إلى عرض سورة الروم:
الآيات الأولى من سورة البقرة التي هي محور هذه السور الأربع:
الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ.
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ.
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
…
تتألف سورة الروم من مقدمة وأربعة مقاطع، والمقاطع الأربعة كل منها مبدوء بلفظ الجلالة (الله) والمقدمة تتألف من مجموعتين.