الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعيب ولا نقيصة، وأن المرء إنما يعاب بسوء فعله، ويعاقب على ما اجترمت يداه، لا على ما وجد من أصله وفرعه).
…
نقل: [عن صاحب الظلال حول ورود قصة إبراهيم عليه السلام في السورة]
قال صاحب الظلال في الجزء الأخير الذي مرّ معنا من قصة إبراهيم عليه السلام:
(هذا إبراهيم الشيخ. المقطوع من الأهل والقرابة. المهاجر من الأرض والوطن.
ها هو ذا يرزق في كبرته وهرمه بغلام. طالما تطلّع إليه. فلما جاءه جاء غلاما ممتازا يشهد له ربه بأنه حليم. وها هو ذا ما يكاد يأنس به، وصباه يتفتّح، ويبلغ معه السعي، ويرافقه في الحياة. ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد، حتى يرى في منامه أنه يذبحه. ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية. فماذا؟ إنه لا يتردد، ولا يخالجه إلا شعور الطاعة، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم .. نعم إنها إشارة. مجرد إشارة. وليست وحيا صريحا، ولا أمرا مباشرا. ولكنها إشارة من ربه ..
وهذا يكفي .. هذا يكفي ليلبي ويستجيب. ودون أن يعترض. ودون أن يسأل ربه .. لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد؟!
ولكنه لا يلبي في انزعاج، ولا يستسلم في جزع، ولا يطيع في اضطراب ..
كلا إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء. يبدو ذلك في كلماته لابنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب: قالَ: يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ. فَانْظُرْ ماذا تَرى.
فهي كلمات المالك لأعصابه، المطمئن للأمر الذي يواجهه، الواثق بأنه يؤدي واجبه. وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن، الذي لا يهوله الأمر فيؤديه في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي، ويستريح من ثقله على أعصابه!
والأمر شاق- ما في ذلك شك- فهو لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة. ولا يطلب إليه أن يكلفه أمرا تنتهي به حياته .. إنما يطلب إليه أن يتولى هو بيده. يتولى ماذا؟ يتولى ذبحه .. وهو- مع هذا- يتلقّى الأمر هذا التلقي، ويعرض على ابنه هذا العرض؛ ويطلب إليه أن يتروى في أمره، وأن يرى فيه رأيه!
إنه لا يأخذ ابنه على غرّة لينفذ إشارة ربه. وينتهي. إنما يعرض الأمر عليه كالذي
يعرض المألوف من الأمر. فالأمر في حسّه هكذا. ربه يريد. فليكن ما يريد. على العين والرأس. وابنه ينبغي أن يعرف. وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاما، لا قهرا واضطرارا. لينال هو الآخر أجر الطاعة، وليسلم هو الآخر ويتذوّق حلاوة التسليم! إنه يحب لابنه أن يتذوّق لذة التطوّع التي ذاقها؛ وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى ..
فماذا يكون من أمر الغلام، الذي يعرض عليه الذبح، تصديقا لرؤيا رآها أبوه؟
إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه:
قالَ: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ. سَتَجِدُنِي- إِنْ شاءَ اللَّهُ- مِنَ الصَّابِرِينَ.
إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب. ولكن في رضى كذلك وفي يقين ..
يا أَبَتِ .. في مودة وقربى. فشبح الذبح لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده. بل لا يفقده أدبه ومودته.
افْعَلْ ما تُؤْمَرُ .. فهو يحسّ ما أحسّه من قبل قلب أبيه. يحسّ أن الرؤيا إشارة. وأن الإشارة أمر. وأنها تكفي لكي يلبي وينفذ بغير لجلجة ولا تمحل ولا ارتياب. ثم هو
الأدب مع الله، ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال؛ والاستعانة بربه على ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية، ومساعدته على الطاعة:
سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.
ولم يأخذها بطولة. ولم يأخذها شجاعة. ولم يأخذها اندفاعا إلى الخطر دون مبالاة. ولم يظهر لشخصه ظلا ولا حجما ولا وزنا .. إنما أرجع الفضل كله لله إن هو أعانه على ما يطلب إليه، وأصبره على ما يراد به: سَتَجِدُنِي- إِنْ شاءَ اللَّهُ- مِنَ الصَّابِرِينَ.
يا للأدب مع الله! ويا لروعة الإيمان. ويا لنبل الطاعة. ويا لعظمة التسليم!
ويخطو المشهد خطوة أخرى وراء الحوار والكلام .. يخطو إلى التنفيذ:
فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ.
ومرة أخرى يرتفع نبل الطاعة. وعظمة الإيمان. وطمأنينة الرضى وراء كل ما تعارف عليه بنو الإنسان ..
إن الرجل يمضي فيكب ابنه على جبينه استعدادا. وإن الغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعا. وقد وصل الأمر إلى أن يكون عيانا.
لقد أسلما .. فهذا هو الإسلام. هذا هو الإسلام في حقيقته. ثقة وطاعة وطمأنينة ورضى وتسليم .. وتنفيذ .. وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي لا يصنعها غير الإيمان العظيم.
إنها ليست الشجاعة والجراءة. وليس الاندفاع والحماسة. لقد يندفع المجاهد في الميدان، يقتل ويقتل. ولقد يندفع الفدائي وهو يعلم أنه قد لا يعود. ولكن هذا كله شئ والذي يصنعه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام هنا شئ آخر .. ليس هنا دم فاغر ولا حماسة دافعة، ولا اندفاع في عجلة تخفي وراءها الخوف من الضعف والنكوص! إنما هو الاستسلام الواعي المتعقّل القاصد المريد، العارف بما يفعل، المطمئن لما يكون.
لا بل هنا الرضى الهادئ المستشعر المتذوق للطاعة وطعمها الجميل!
وهنا كان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قد أدّيا. كانا قد أسلما. كانا قد حققا الأمر والتكليف. ولم يكن باقيا إلا أن يذبح إسماعيل، ويسيل دمه، وتزهق روحه ..
وهذا أمر لا يعني شيئا في ميزان الله، بعد ما وضع إبراهيم وإسماعيل في هذا الميزان من روحهما وعزمهما ومشاعرهما كل ما أراده منهما ربهما ..
كان الابتلاء قد تم. والامتحان قد وقع. ونتائجه قد ظهرت. وغاياته قد تحقّقت. ولم يعد إلا الألم البدني. وإلا الدم المسفوح. والجسد الذبيح. والله لا يريد أن يعذّب عباده بالابتلاء. ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شئ. ومتى خلصوا له واستعدوا للأداء بكلّياتهم فقد أدوا، وقد حققوا التكليف، وقد جاوزوا الامتحان بنجاح.
وعرف الله إبراهيم وإسماعيل صدقهما. فاعتبرهما قد أدّيا وحققا وصدقا:
وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا* إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّ هذا
لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ* وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ.
قد صدّقت الرؤيا وحققتها فعلا. فالله لا يريد إلا الإسلام والاستسلام بحيث لا يبقى في النفس ما تكنّه عن الله أو تعزّه عن أمره، أو تحتفظ به دونه، ولو كان هو الابن فلذة الكبد. ولو كانت النفس والحياة. وأنت- يا إبراهيم- قد فعلت. جدت بكل شئ. وبأعز شئ. وجدت به في رضى وفي هدوء وفي طمأنينة وفي يقين.
فلم يبق إلا اللحم والدم. وهذا ينوب عنه ذبح. أي ذبح من دم ولحم! ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأدّت. يفديها بذبح عظيم. قيل: إنه كبش وجده إبراهيم مهيأ بفعل ربه وإرادته ليذبحه بدلا من إسماعيل!
وقيل له: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ .. نجزيهم باختيارهم لمثل هذا البلاء.
ونجزيهم بتوجيه قلوبهم ورفعها إلى مستوى الوفاء. ونجزيهم بإقدارهم وإصبارهم على الأداء. ونجزيهم كذلك باستحقاق الجزاء!
ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى، ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي يرتفع منارة لحقيقة الإيمان. وجمال الطاعة. وعظمة التسليم. والذي ترجع إليه الأمة المسلمة لتعرف فيه حقيقة أبيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، الذي تتبع ملّته، والذي ترث نسبه وعقيدته. ولتدرك طبيعة العقيدة التي تقوم بها أو تقوم عليها، ولتعرف أنها الاستسلام لقدر الله في طاعة راضية واثقة ملبية لا تسأل ربها لماذا؟ ولا تتلجلج في تحقيق إرادته عند أول إشارة منه وأول توجيه. ولا تستبقي لنفسها في نفسها شيئا، ولا تختار فيما تقدمه لربها هيئة ولا طريقة لتقديمه إلا كما يطلب هو إليها أن تقدم!
ثم لتعرف أن ربها لا يريد أن يعذبها بالابتلاء؛ ولا أن يؤذيها بالبلاء، إنما يريد أن تأتيه طائعة ملبية وافية مؤدّية. مستسلمة لا تقدم بين يديه، ولا تتألى عليه، فإذا عرف منها الصدق في هذا أعفاها من التضحيات والآلام. واحتسبها لها وفاء وأداء. وقبل منها وفدّاها. وأكرمها كما أكرم أباها .. وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ.*
فهو مذكور على توالي الأجيال والقرون. وهو أمة. وهو أبو الأنبياء. وهو أبو هذه الأمة المسلمة. وهي وارثة ملته. وقد كتب الله لها وعليها قيادة البشرية على ملة إبراهيم. فجعلها الله عقبا ونسبا إلى يوم الدين. سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ.