الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
37/ 135 - 148
التفسير:
فَاسْتَفْتِهِمْ أي استخبر الكافرين أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أي أقوى أو أصعب وأشق أَمْ مَنْ خَلَقْنا من الملائكة والسموات والأرض وما بينهما قال النسفي:
(وجئ بمن تغليبا للعقلاء على غيرهم) إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ أي لاصق أو لازم. ومعنى الآية: أن من هان عليه خلق هذه الخلائق العظيمة، ولم يصعب عليه اختراعها، كان خلق البشر عليه أهون، وذكر خلقهم من طين احتجاج عليهم بأنّ الطين اللازب الذي خلقوا منه تراب، فمن أين استنكروا أن يخلقوا من تراب قال ابن كثير: (يقول تعالى: فسل هؤلاء المنكرين للبعث أيما أشد خلقا هم أم السموات والأرض، وما بينهما من الملائكة والشياطين والمخلوقات العظيمة
…
؟ فإنّهم يقرّون أنّ هذه المخلوقات أشدّ خلقا منهم، وإذا كان الأمر كذلك فلم ينكرون البعث؟ وهم يشاهدون ما هو أعظم ممّا أنكروا
…
ثم بيّن أنهم خلقوا من شئ ضعيف هو الطين اللازب أي الجيّد الذي يلزق بعضه ببعض).
كلمة في السياق: [آيات المقطع ومدى ترابطها وصلتها بالمحور]
هذه الآية جسر للانتقال إلى موضوع اليوم الآخر وهي جسر يبيّن أنّ موضوع اليوم الآخر مرتبط بموضوع الإيمان بالله، فالسياق أشعرنا أنّ مجرد معرفة أن الله هو
الخالق لما ذكر فهذا يقتضي إيمانا بالبعث، والسّياق أشعرنا أنّ الكافرين لا يعطون هذا اللازم حقه، ومن ثمّ أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوجه لهم هذا السؤال ليقيم عليهم الحجة من خلاله، ومن هذا نفهم أنّ الذي لا يؤمن باليوم الآخر ليس مؤمنا بالله أصلا، ومن ثمّ ندرك كيف أن السورة مع أنها تصبّ في سياقها الرئيسي في موضوع التوحيد فهي تتعرض لموضوع اليوم الآخر، وغيره من المواضيع الإيمانية، وما ذلك إلا لأن التوحيد الكامل يدخل فيه موضوع الإيمان باليوم الآخر والرسل، فمن لا يؤمن باليوم الآخر يتصوّر أن هذا الكون خلقه الله سدى وعبثا، ومن لم يؤمن بالرسل يتصور أن الله عز وجل يهمل ويترك عباده بلا هداية، وكل ذلك يتنافى مع التصور الصحيح لموضوع الألوهية، وبالتالي فهو يتنافى مع التوحيد الحق الخالص، ولنمض في التفسير:
…
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ قال ابن كثير: (أي: بل عجبت يا محمد من تكذيب هؤلاء المنكرين للبعث، وأنت موقن مصدّق بما أخبر الله تعالى من الأمر العجيب، وهو إعادة الأجسام بعد فنائها، وهم بخلاف أمرك من شدة تكذيبهم يسخرون ممّا تقول لهم من ذلك) أي أنت تعجب من تكذيبهم لأن الأمر في غاية الوضوح عندك، وهم يسخرون منك، ومن تعجبك فالبعد بين الموقفين واضح، كالبعد بين الموقف العقلي الحاسم الجازم، والموقف النفسي الهازل
وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ أي ودأبهم إذا وعظوا لا يتعظون، فهم مع موقفهم الهازل الساخر المكذّب ليس عندهم استعداد للسماع ولا للتذكّر
وَإِذا رَأَوْا آيَةً أي معجزة، أو دلالة واضحة على صدق ما جئت به يَسْتَسْخِرُونَ أي يبالغون في الاستهزاء منها، أو يستدعي بعضهم بعضا أن يسخر منها، فلا الآيات تنفع لهم، ولا التذكير ينفع بهم، ولا عقل يخضعون لحكمه، وأبشع من هذا كله أنهم يعتبرون الحقّ القطعي سحرا
وَقالُوا إِنْ أي ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي ظاهر وما هو الذي سمّوه سحرا؟ إنّه البعث
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ يتساءلون سؤال إنكار، أنبعث إذا كنا ترابا وعظاما؟
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ أي أيبعث أيضا آباؤنا الأقدمون، ويعنون أنهم أقدم، فبعثهم أبعد وأبطل، وهكذا عرفنا لم أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يستفتي هؤلاء الكافرين الاستفتاء السابق، ويوجّه لهم ذلك السؤال، عرفنا أن ذلك من أجل هذا الموقف الذي وضّحه السياق فيما بعد، وإنّما أخّره ليربط
بين موضوع الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، وليجعل ما قبل السؤال حجة في ردّ ما زعموه، وفي تقرير أن اليوم الآخر لازم من لوازم الإيمان بالله، وإذ قامت الحجة عليهم من قبل فإنّ الجواب على سؤالهم الاستنكاري، يأتي الآن بشكل جواب تقريري، وعرض لما سيكون،
قال تعالى: قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ أي صاغرون ذليلون قال ابن كثير: (أي قل لهم يا محمد نعم تبعثون يوم القيامة، بعد ما تصيرون ترابا وعظاما، وأنتم داخرون: أي حقيرون تحت القدرة العظيمة
…
)
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي صيحة واحدة والتقدير: إذا كان الأمر كما ذكر فما هي إلا صيحة واحدة فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ أي فإذا هم أحياء بصراء ينظرون إلى سوء أعمالهم، أو ينتظرون ما يحل بهم قال ابن كثير: (أي فإنما هو أمر واحد من الله عز وجل يدعوهم دعوة واحدة أن يخرجوا من الأرض، فإذا هم قيام بين يديه ينظرون إلى أهوال يوم القيامة، عندئذ يرجعون على أنفسهم بالملامة، ويعترفون بأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم في الدار الدنيا، فإذا عاينوا أهوال القيامة ندموا كل الندم؛ حيث لا ينفعهم الندم
وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ أي اليوم الذي ندان فيه، أي نجازى بأعمالنا، والويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة، قال ابن كثير: فتقول لهم الملائكة والمؤمنون
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ أي يوم القضاء، والفرق بين فرق الهدى والضلال الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ يقال لهم هذا على وجه التقريع والتوبيخ، قال ابن كثير:
(ويأمر الله تعالى الملائكة أن تميّز الكفار من المؤمنين في الموقف، في محشرهم ومنشرهم) ولهذا قال تعالى:
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا أي: كفروا، والخطاب للملائكة وَأَزْواجَهُمْ أي أشباههم وأمثالهم وإخوانهم وقرناءهم وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من الأصنام والأنداد، تحشر معهم في أماكنهم فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ أي: فارشدوهم إلى طريق جهنم، أي: دلّوهم إلى طريق النار
وَقِفُوهُمْ أي احبسوهم إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ عن أقوالهم وأفعالهم قال ابن عباس: يعني احبسوهم إنّهم محاسبون وقال ابن كثير: أي: قفوهم حتى يسألوا عن أعمالهم وأقوالهم التي صدرت عنهم في الدار الدنيا
…
ثم يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ أي: لا ينصر بعضكم بعضا، وهذا توبيخ لهم بالعجز عن التناصر، بعد ما كانوا متناصرين في الدنيا
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ أي منقادون لأمر الله، لا يخالفونه ولا يحيدون عنه قال النسفي:(أو قد أسلم بعضهم بعضا، وخذله عن عجز، فكلّهم مستسلم غير منتصر).