الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لمّا رجعوا لم يعرفوا من أوّل وهلة من فعل ذلك حتى كشفوا واستعلموا، فعرفوا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو الذي فعل ذلك، فلمّا جاءوا ليعاتبوه أخذ في تأنيبهم وعيبهم)
قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ أي بأيديكم
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ أي الله خالقكم وخالق أعمالكم، فلم تعبدون غيره؟ فعند ذلك لما قامت عليهم الحجة، عدلوا إلى أخذه باليد والقهر على طريقة الظالمين المستكبرين، إذ قامت عليهم الحجة
قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ أي في النّار الشّديدة
فَأَرادُوا بِهِ أي بإلقائه في النار كَيْداً أي أن يكيدوه فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ أي فجعلناهم المقهورين عند الإلقاء، ونجّاه الله من النار، وأظهره عليهم، وأعلى حجته ونصرها.
…
كلمة في السياق:
في إنجاء الله عز وجل إبراهيم عليه السلام من النار نموذج ثان على إنجاء الله عز وجل عباده المخلصين، وهي إحدى المعاني الرئيسية، التي تمثل لها قصص هذه المجموعة من المقطع؛ فلقد سبقت هذه المجموعة بقوله تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ* فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ* إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ.
…
وَقالَ إبراهيم عليه السلام بعد نجاته من النار، وبعد ما نصره الله تعالى على قومه، وأيس من إيمانهم بعد ما شاهدوا من الآيات العظيمة إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي أي مهاجر إلى المكان الذي أمرني ربي بالذهاب إليه سَيَهْدِينِ أي سيرشدني إلى ما فيه صلاحي في ديني ويعصمني ويوفّقني
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ أي بعض الصالحين، يريد الولد لأنّ لفظ الهبة غلب في الولد قال ابن كثير:(يعني أولادا مطيعين يكونون عوضا من قومه وعشيرته الذين فارقهم)
فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ هو إسماعيل عليه السلام قال النسفي: (انطوت البشارة على ثلاث: على أن الولد غلام ذكر، وأنه يبلغ أوان الحلم؛ لأن الصبي لا يوصف بالحلم، وأنّه يكون حليما، وأي حلم أعظم من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح فاستسلم لذلك)
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أي بلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه، أي فلمّا بلغ الحدّ الذي يقدر فيه على السّعي مع أبيه بمعنى: كبر وترعرع وشبّ وارتحل، وأطاق ما يفعله أبوه من
السّعي والعمل قالَ إبراهيم عليه السلام يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أي في الرؤيا، ورؤيا الأنبياء حق أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى أي ما هو رأيك قال النسفي:(ولم يشاوره ليرجع إلى رأيه ومشورته، ولكن ليعلم أيجزع أم يصبر) قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ أي امض إلى ما أمرك الله من ذبحي سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ أي على الذبح، أي سأصبر وأحتسب ذلك عند الله عز وجل، وصدق صلوات الله وسلامه عليه فيما وعد
فَلَمَّا أَسْلَما أي انقادا لأمر الله وخضعا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أي صرعه على وجهه ليذبحه من قفاه، ولا يشاهد وجهه عند ذبحه؛ ليكون أهون عليه، أي أكبّه على وجهه
وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا أي قد حصل المقصود من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح، أي حقّقت ما أمرناك به في المنام من تسليم الولد للذبح إِنَّا كَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
قال النسفي: (هذا) تعليل لتخويل ما خوّلهما من الفرج بعد الشدّة
إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ أي الاختبار البيّن الذي يتميّز فيه المخلصون من غيرهم قال ابن كثير: (أي الاختبار الواضح الجليّ، حيث أمر بذبح ولده، فسارع إلى ذلك مستسلما لأمر الله تعالى، منقادا لطاعته)
وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ الذّبح: هو ما يذبح، والمراد به هنا كبش ضخم الجثة، سمين وهو السنّة في الأضاحي
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ فما من أمّة بعد إبراهيم عليه السلام إلا وهي تسلّم على إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه
كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ بأن نبارك لهم في الذكر الحسن قال النسفي: ولم يقل (إنا كذلك) هنا كما في غيره؛ لأنه قد سبق في هذه القصة، فاكتفى بذكره مرّة عن ذكره ثانية
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ هذا تعليل لكونه محسنا، بأنه كان عبدا مؤمنا ليريك- كما قال النسفي من قبل- جلالة محلّ الإيمان، وأنه القصارى من صفات المدح والتعظيم
وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا أي وبشّرناه بوجود إسحاق مقدّرة نبوته مِنَ الصَّالِحِينَ وكل نبي صالح، وفي ذكر الصلاح هنا ثناء عليه قال ابن كثير:(لمّا تقدّمت البشارة بالذبيح- وهو إسماعيل عليه السلام عطف بذكر البشارة بأخيه إسحاق)
وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ أي أفضنا عليهما بركات وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ أي مؤمن وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ أي كافر مُبِينٌ أي ظاهر أو محسن إلى الناس وآخر ظالم لنفسه بتعديه حدود الشرع قال النسفي: (وفيه تنبيه على أنّ الخبث والطيب لا يجري أمرهما على العرف والعنصر، فقد يلد البرّ الفاجر، والفاجر البر، وهذا مما يهدم أمر الطبائع والعناصر، وعلى أن الظلم في أعقابهما لم يعد