الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأصحاب يأخذون بسنّته، ويقتدون بأمره، ثمّ إنّها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» أخرجه مسلم عن ابن مسعود.
كلمة أخيرة في سورة العنكبوت:
رأينا من خلال عرضنا للسورة أن السورة تفصّل قوله تعالى من سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (البقرة: 1 - 4) وكان تفصيلها أن فصّلت في لوازم الإيمان بالغيب فذكرت:
الامتحان، ورجاء لقاء الله، والجهاد، والعمل الصالح، وبر الوالدين، والصبر على الأذى، وعدم الخضوع لتأثيرات الكافرين.
وفصّلت في لوازم الإيمان بالكتب السماوية كلها فذكرت:
عدم مجادلة أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن.
وفصّلت في الطريق لتحقيق الإيمان الصادق، وتحقيق التقوى: فذكرت تلاوة القرآن، وإقامة الصلاة، والذكر، والعمل الصالح، والصبر، والتوكل، والمجاهدة، والإحسان.
وفصّلت في إقامة الحجّة على أنّ هذا القرآن من عند الله.
وفصّلت في تبيان نعم الله، وما تقتضيه في موازين الإيمان، ورسمت الطريق لتحقيق الإيمان ابتداء بالجهاد، وتوسطا بالصبر، وانتهاء بالهجرة والصبر والتوكل.
…
وكما فصّلت في صفات المتقين فصّلت في ما يقابل ذلك من الكفر، والنفاق، وهي المواضيع التي تحدّثت عنها مقدمة سورة البقرة.
فعرفنا علامة النفاق، وعرفنا بعض لوازم الكفر وآثاره.
وعرفنا بعض ما أعدّ الله للمؤمنين، وبعض ما أعدّ للكافرين.
وعرفنا الفارق الكبير بين ما يركن إليه أهل الإيمان، وبين ما يركن إليه أهل الكفر:
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
…
هذه المعاني وغيرها موجودة في سورة العنكبوت، وهي نوع تفصيل لمقدمة سورة البقرة، وسورة العنكبوت هي واحدة من أربع سور في هذه المجموعة كلها مبدوء ب الم وهذه السور الأربع كلّها تفصّل في مقدمة سورة البقرة، وكل منها يفصّل في هذه المقدمة تفصيلا يكمّل تفصيل الآخر؛ فسورة العنكبوت فصّلت في موضوع لوازم الإيمان بالغيب، والكتاب، بشكل أخصّ. وسنرى أنّ سورة الروم تفصّل في موضوع الإيمان باليوم الآخر بشكل أخص. وهكذا كل سورة من هذه السور الأربع. وقد رأينا من قبل أن سورتا طه والأنبياء فصّلتا مقدمة سورة البقرة. ومن قبل رأينا سورة يونس فصّلت في مقدمة سورة البقرة. ومن قبلها رأينا سورة آل عمران فصّلت في مقدمة سورة البقرة، وكل منها فصّل في هذه المقدمة تفصيلا يكمّل تفصيل الآخر.
إن هذا الترابط والتناسق والتكامل والصلة والوحدة في هذا القرآن لكاف في أن يعرف الإنسان استحالة كون هذا الكتاب من عند بشر. فكيف إذا كان هذا واحدا من آلاف من مظاهر الإعجاز في هذا القرآن؟ نسأل الله ألا يضلّنا، ونسأله أن يفتح علينا في فهم كتابه، وأن يتوفانا على الإيمان، ويدخلنا الجنة، ويزحزحنا عن النار، ويغفر ويستر.
…
إن سورة العنكبوت عالجت أهم قضيتين يخطئ الناس فيهما:
القضية الأولى: أن الإيمان لا يرافقه امتحان وهو فهم خاطئ لا زلنا نراه عند بني الإنسان، إذ يظنّون أن الدخول في الإسلام لا يرافقه خوف ولا أذى، ولا تقتير
رزق، ولا غير ذلك من معاني الابتلاء. بل إنّ بعض الناس يعتبرون وجود مثل هذه الأشياء علامة على الخطأ في السير، فما أكثر جهلهم؟ لقد بيّنت السورة خطأ هذا التصور وعالجته.
القضية الثانية: ظن الكافر أنّه يفوت الله، فلا يناله عقابه في دنيا، أو في أخرى ومعالجة هذه القضية لها صلة بمعالجة القضية الأولى لأنّه قد يقول قائل: ما دمت إذا دخلت في الإسلام فسأمتحن، وسأعذّب، وسأوذى، وسيسلّط الله عليّ، فلأبق على الكفر، ومن ثمّ بيّن الله عز وجل أن ابتلاء الله للمؤمنين في الدنيا أهون بكثير من عقاب الله عز وجل للكافرين في الدنيا والآخرة.
لقد عالجت السورة هاتين القضيتين في سياقها الخاص معالجة كاملة إن في العرض أو في ذكر الأمثلة، أو في الدلالة على الطريق والعمل. ولقد غفل الناس في عصرنا عن كثير من مضامين هذه السورة. فبدلا من أن يعتبروا الامتحان ظاهرة عاديّة أصبحوا يعتبرون الامتحان علامة خطأ على السير، وصاروا ينافقون فرارا من الامتحان مقلّدين إخوانهم المنافقين الأوّلين، بل إنّ بعض أولئك نافقوا عند الإيذاء، وبعض هؤلاء ينافق قبل وجود الإيذاء، ثمّ إنّ هناك غفلة عند الكثيرين عن التحقّق في المعاني التي تعرّضت لها السورة، والتي هي زاد الطريق من المجاهدة، وبر الوالدين في غير معصية، والهجرة، والصبر، والتوكل، والجمع بين تلاوة القرآن والذكر، وإقام الصلاة، والحذر من الدعوات الكافرة وأهلها.
....
ونحب هنا أن نؤكّد على ناحية ذكرناها أثناء التفسير وهي أنّ على المربي أن يبدأ بالعلم، وأن يركّز في الابتداء على التلاوة، والصلاة، والذكر، والتركيز على التلاوة يقتضي تعليم علم التجويد، والتركيز على الصلاة يقتضي تعليم فقهها، والتركيز على الذكر يقتضي دراسة الأذكار المسنونة. كما يقتضي إيجاد الأجواء المناسبة، والبيئة المناسبة التي تجعل مريد وجه الله عز وجل ينصهر في هذه الأشياء الثلاثة، إنّنا إذا صهرنا المسلم في لحظة إقباله بهذه المعاني الثلاثة نكون قد وضعناه في طريق الجنة بإذن الله.
....
إنّ قضية الإيمان هي أغلى القضايا وأعظمها، وسورة العنكبوت فصّلت في هذه
القضية في سياقها الرئيسي، وركزتها لتكون مدخلا إلى السورة التي تأتي بعدها، ولتكون أساسا لها، ومن ثمّ فإنك تلاحظ أن سورة العنكبوت تحدّثت في بدايتها عن
الامتحان والإيذاء. وقالت: وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ وهذه سورة الروم تقول في بدايتها يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وفي أواخرها وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ومن هذه الملاحظة نعرف كيف تكمّل السور الأربع المبدوءة ب (الم) في هذه المجموعة بعضها، وكيف أنها كلها تصبّ في مصبّ واحد، وتفصّل مقاما واحدا هو مقدّمة سورة البقرة.
***