الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في قوله تعالى في السورة المتقدمة أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ وفيها من تفصيل أحوال المؤمنين، وأحوال أعدائهم الكافرين يوم القيامة، ما هو كالإيضاح لما في تلك السورة من ذلك، وذكر فيها شئ مما يتعلق بالكواكب لم يذكر فيما تقدم، ولمجموع ما ذكر ذكرت بعدها، وفي البحر مناسبة أول هذه السورة لآخر سورة يس أنه تعالى لما ذكر المعاد وقدرته سبحانه على إحياء الموتى، وأنه هو منشئهم، وأنه إذا تعلقت إرادته بشيء كان، ذكر عز وجل هنا وحدانيته سبحانه إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة إيجادا وإعداما إلا بكون المريد واحدا، كما يشير إليه قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا).
2 - ومن تقديم صاحب الظلال لسورة الصافات ما يلي:
(هذه السورة المكية- كسابقتها- قصيرة الفواصل، سريعة الإيقاع، كثيرة المشاهد والمواقف، متنوّعة الصور والظلال، عميقة المؤثرات، وبعضها عنيف الوقع، عنيف التأثير. وهي تستهدف- كسائر السور المكية- بناء العقيدة في النفوس، وتخليصها من شوائب الشرك في كل صوره وأشكاله. ولكنها- بصفة خاصة- تعالج صورة معينة من صور الشرك التي كانت سائدة في البيئة العربية الأولى. وتقف أمام هذه الصورة طويلا؛ وتكشف عن زيفها وبطلانها بوسائل شتى .. تلك هي الصورة التي كانت جاهلية العرب تستسيغها، وهي تزعم أن هناك قرابة بين الله- سبحانه- وبين الجن. وتستطرد في تلك الأسطورة فتزعم أنه من التزواج بين الله- تعالى- والجنة ولدت الملائكة. ثم تزعم أن الملائكة إناث. وأنهن بنات الله!
هذه الأسطورة تتعرض لحملة قوية في هذه السورة؛ تكشف عن تهافتها وسخفها. ونظرا لأنها هي الموضوع البارز الذي تعالجه السورة، فإنها تبدأ بالإشارة إلى طوائف من الملائكة: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا* فَالزَّاجِراتِ زَجْراً* فَالتَّالِياتِ ذِكْراً ..
ويتلوها حديث عن الشياطين المردة، وتعرضهم للرجم بالشهب الثاقبة كيلا يقربوا من الملأ الأعلى. ولا يتسمّعوا لما يدور فيه؛ ولو كانوا حيث تزعم لهم أساطير الجاهلية ما طوردوا هذه المطاردة! كذلك يشبّه ثمار شجرة الزقوم التي يعذب بها الظالمون في جهنم بأنها كرءوس الشياطين في معرض التقبيح والتفظيع! وفي نهاية السورة تأتي الحملة المباشرة على تلك الأسطورة المتهافتة: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ* أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ* أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ* وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ
لَكاذِبُونَ* أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ* ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ* أَفَلا تَذَكَّرُونَ* أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ* فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ .. سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ!.
وإلى جانب علاج هذه الصورة الخاصة من صور الشرك الجاهلية تتناول السورة جوانب العقيدة الأخرى التي تتناولها السور المكية. فتثبت فكرة التوحيد مستدلة بالكون المشهود: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ* رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ .. وتنص على أن الشرك هو السبب في عذاب المعذّبين في ثنايا مشهد من مشاهد القيامة: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ* إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ* إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ* وَيَقُولُونَ: أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ* بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ* إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ* وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ..
كذلك تتناول قضية البعث والحساب والجزاء وَقالُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ* أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ* أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ* قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ .. ثم تعرض بهذه المناسبة مشهدا مطولا فريدا من مشاهد القيامة الحافلة بالمناظر والحركات والانفعالات والمفاجات!
وتعرض لقضية الوحي والرسالة الذي ورد من قولهم: أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ؟ والرد عليهم: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ.
وبمناسبة ضلالهم وتكذيبهم تعرض سلسلة من قصص الرسل: نوح وإبراهيم وبنيه. وموسى وهارون. وإلياس. ولوط. ويونس. عليهم السلام. تتكشّف فيها رحمة الله ونصره لرسله وأخذه للمكذبين بالعذاب والتنكيل: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ* وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ* فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ* إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ.
وتبرز في هذا القصص قصة إبراهيم خاصة مع ابنه إسماعيل. قصة الذبح والفداء، وتبرز فيها الطاعة والاستسلام لله في أروع صورها وأعمقها وأرفعها؛ وتبلغ الذروة التي لا يبلغها إلا الإيمان الخالص الذي يرفع النفوس إلى ذلك الأفق السامق الوضيء.
***
والمؤثرات الموحية التي تصاحب عرض موضوعات السور وقضاياها، تتمثل بشكل واضح في: مشهد السماء وكواكبها وشهبها ورجومها: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ* وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ* لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ* دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ* إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ.
وفي مشاهد القيامة ومواقفها المثيرة، ومفاجئاتها الفريدة، وانفعالاتها القوية.
والمشاهد التي تحويها هذه السورة ذات طابع فريد حقا سنلمسه عند استعراضه تفصيلا في مكانه من السورة.
وفي القصص ومواقفه وإيحاءاته. وبخاصة في قصة إبراهيم وولده الذبيح إسماعيل- عليهما السلام، وترتفع المؤثرات الموحية هنا إلى الذروة التي تهزّ القلوب هزّا عميقا عنيفا.
ذلك إلى الإيقاع الموسيقي في السورة، وهو ذو طابع مميّز يتّفق مع صورها وظلالها ومشاهدها ومواقفها وإيحاءاتها المتلاحقة العميقة).