الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
32/ 22
التفسير:
وَقالُوا أي: الكافرون مستبعدين المعاد أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أي تمزّقت أجسادنا، وتفرّقت في أجزاء الأرض، وذهبت أي: صرنا ترابا وذهبنا مختلطين بتراب الأرض، لا نتميّز منه كما يضل الماء في اللبن، أو غبنا في الأرض بالدفن فيها أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي أإنا لنعود بعد تلك الحال؟ يستبعدون ذلك، وهذا إنّما هو بعيد بالنسبة إلى قدرهم العاجزة لا بالنسبة إلى قدرة الذي بدأهم وخلقهم من العدم، الذي أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، ولهذا قال تعالى: بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ أي جاحدون. قال النسفي: (لما ذكر كفرهم بالبعث أضرب عنه إلى ما هو أبلغ وهو أنّهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة لا بالبعث وحده)
قُلْ مبيّنا لهم حقيقة ما أمامهم يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ أي وكّل بقبض أرواحكم ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ أي بعد ذلك مبعوثين للحساب والجزاء. وهذا معنى لقاء
الله، والتوفي: استيفاء النفس وهي الروح
وَلَوْ تَرى يا محمد أو أيها الإنسان إِذِ الْمُجْرِمُونَ أي الكافرون ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ من الذّلّ والحياء والنّدم والخجل عِنْدَ رَبِّهِمْ أي عند حساب ربهم يقولون رَبَّنا أَبْصَرْنا أي صدق وعدك ووعيدك وَسَمِعْنا أي منك تصديق رسلك، أو كنّا عميا وصما فأبصرنا وسمعنا، أو نحن الآن نسمع قولك ونطيع أمرك فَارْجِعْنا إلى الدنيا نَعْمَلْ صالِحاً أي نؤمن ونطيع إِنَّا مُوقِنُونَ بالبعث والحساب الآن، وقد كذبوا، فلو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه. وقد علم الله ذلك منهم
وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها في الدنيا أي لو شئنا أعطينا كل نفس ما عندنا من اللطف الذي لو كان منهم اختيار ذلك لاهتدوا، لكن لم نعطهم ذلك اللطف لما علمنا منهم اختيار الكفر وإيثاره وَلكِنْ حَقَّ أي وجب الْقَوْلُ مِنِّي بما علمت أنّه يكون منهم ما يستوجبون به جهنّم، وهو ما علم منهم أنّهم يختارون الردّ والتكذيب لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أي من الصنفين، قرارهم النار لا محيد لهم عنها ولا محيص لهم منها. قال النسفي:(وفي تخصيص الإنس والجن إشارة إلى أنّه عصم ملائكته عن عمل يستوجبون به جهنم)
فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ
هذا أي يقال لأهل النار على سبيل التقريع والتوبيخ: ذوقوا هذا العذاب بسبب تكذيبكم به، واستبعادكم وقوعه، وتناسيكم له، إذ عاملتموه معاملة من هو ناس له إِنَّا نَسِيناكُمْ أي تركناكم في العذاب كالمنسي. قال ابن كثير:(أي سنعاملكم معاملة النّاسي لأنه تعالى لا ينسى شيئا ولا يضل عنه شئ، بل من باب المقابلة) وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ أي العذاب الدائم الذي لا انقطاع له بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الكفر والمعاصي، أي بسبب كفركم وتكذيبكم. وبعد أن بيّن الله عز وجل حال الكافرين ومآلهم يذكر الآن علامة الإيمان بالقرآن مما يشير إلى أن من ذكر سابقا ليسوا مؤمنين بالقرآن. فالسياق إذن سائر على نسق واحد هو تبيان قضية نفي الريب في القرآن وتعميق الإيمان.
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا أي يصدّق بها ولا يرتاب الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها أي وعظوا بها خَرُّوا سُجَّداً أي سجدوا لله تواضعا وخشوعا وشكرا على ما رزقهم من الإسلام. قال ابن كثير: أي استمعوا لها وأطاعوها قولا وفعلا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي ونزّهوا الله عما لا يليق به وأثنوا عليه حامدين له وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن الإيمان والسجود واتّباع آيات الله والانقياد لها فهم لا يستكبرون كما يفعل الجهلة من الكفرة الفجرة، قال الألوسي: قال أبو حبان:
(هذه السجدة من عزائم سجود القرآن)
تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ أي ترتفع وتتنحّى عن الفرش ومضاجع النوم. قال ابن كثير: يعني بذلك قيام الليل، وترك النوم، والاضطجاع على الفرش الوطيئة. يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أي داعين ربهم عابدين له خَوْفاً وَطَمَعاً أي لأجل خوفهم من سخطه وطمعهم في رحمته وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في طاعة الله تعالى، فيجمعون بين القربات اللازمة والمندوبة
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ أي لا يعلم أحد ما أعدّ لهؤلاء من الكرامة ممّا تقرّ به أعينهم جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي جوزوا جزاء بذلك بسبب ما كانوا يعملونه من الأعمال الصالحة. وبعد أن ذكر الله عز وجل علامة الإيمان بالقرآن، قارن بين المؤمنين والكافرين، وحال كلّ، ومآل كلّ،
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً أي كافرا لا يَسْتَوُونَ أي من كان في نور الطاعة والإيمان لا يستوي مع من هو في ظلمة الكفر والعصيان. قال ابن كثير: يخبر تعالى عن عدله وكرمه أنّه لا يساوي في حكمه يوم القيامة من كان مؤمنا بآياته، متّبعا لرسله
بمن كان فاسقا أي خارجا عن طاعة ربه، مكذبا رسل الله إليه. ثمّ فصّل الله تعالى في حكمهم
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى أي التي فيها المساكن والدور والغرف العالية نُزُلًا أي ضيافة وكرامة وعطاء بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بسبب أعمالهم الصالحة
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ أي ملجؤهم ومنزلهم النار كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ أي يقول لهم خزنة النار ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ دل هذا على أن المراد بالفاسق في السياق الكافر
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى أي في الدنيا من قلق واضطراب وحيرة ومحنة وعذاب أنواعه شتى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ أي دون عذاب الآخرة. أي نذيقهم عذاب الدنيا قبل أن يصلوا إلى الآخرة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي لعلهم يتوبون عن الكفر
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها أي لا أظلم ممن ذكّره الله بآياته، وبيّنها له ووضّحها، ثم بعد ذلك تركها وجحدها وأعرض عنها، وتناساها كأنه لا يعرفها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ أي سأنتقم من من فعل ذلك أشدّ الانتقام. وفي ختام المجموعة بهذه الآية دليل على أن سياق السورة الرئيسي منصبّ على موضوع الإيمان بالقرآن، ويؤكد هذا المعني أن المجموعة الثالثة والأخيرة تبتدئ بذكر إيتاء الله الكتاب لموسى، وإذ تكلمنا عن سياق المجموعة الثانية أثناء التفسير وقبله. فلنذكر المجموعة الثالثة مباشرة.
…
***