الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هو مظنون الذين كفروا، وإنما جعلوا ظانين أنه خلقها للعبث لا للحكمة مع إقرارهم بأنه خالق السموات والأرض وما بينهما لقوله وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ* لأنه لما كان إنكارهم للبعث والحساب والثواب والعقاب مؤديا إلى أن خلقها عبث وباطل جعلوا كأنهم يظنون ذلك ويقولونه؛ لأن الجزاء هو الذي سيقت إليه الحكمة في خلق العالم، فمن جحده فقد جحد الحكمة في خلق العالم).
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أي ويل لهم يوم معادهم ونشورهم من النار المعدّة لهم.
ثم بيّن تعالى أنّه عز وجل من عدله وحكمته لا يساوي بين المؤمنين والكافرين فقال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ* أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ الاستفهام في الآية للإنكار. قال النّسفي: والمراد أنه لو بطل الجزاء- كما يقول الكافرون- لاستوت أحوال من أصلح وأفسد واتقى وفجر، ومن سوّى بينهم كان سفيها ولم يكن حكيما. وقال ابن كثير في الآية: أي لا نفعل ذلك (وهي التسوية بين المؤمنين والكافرين والمتقين والفجار) ولا يستوون عند الله، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من دار أخرى يثاب فيها المطيع، ويعاقب فيها هذا الفاجر، وهذا الإرشاد يدلّ العقول السليمة والفطر المستقيمة على أنّه لا بدّ من معاد وجزاء؛ فإنا نرى الظالم الباغي يزداد ماله وولده ونعيمه ويموت كذلك، ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده، فلا بدّ في حكمة الحكيم العليم العادل، الذي لا يظلم مثقال ذرة، من إنصاف هذا من هذا، وإذا لم يقع هذا في هذه الدار. فتعيّن أن هناك دارا أخرى لهذا الجزاء والمواساة، ولما كان القرآن يرشد إلى المقاصد الصحيحة، والمآخذ العقلية الصريحة،
قال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ أي هذا كتاب أنزلناه إليك يعني القرآن لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ أي ليتدبّروا آياته ومعناه: ليتفكّروا فيها فيقفوا على ما فيه، ويعملوا به وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ أي وليتعظ بالقرآن أولو العقول.
قال الحسن البصري: والله ما تدبره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول قرأت القرآن كله، ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل. رواه ابن أبي حاتم.
…
كلمة في السياق:
ذكرنا أن هذه الآيات الثلاث جاءت في وسط الكلام عن داود وسليمان عليهما السلام وارتباطها بالسياق القريب واضح كما رأينا. فبعد أن ذكر الله عز وجل نهيه داود
عليه السلام عن اتّباع الهوى، وأمره إياه بالحكم بالحق، وتبيانه جزاء الضالين يوم القيامة، جاءت الآيتان التاليتان لذلك لتبيّنا ضرورة وجود اليوم الآخر وحكمته، واقتضى هذا أن تأتي الآية الثالثة لتبيّن حكمة نزول القرآن، إذ ما دام هناك يوم آخر فلا بدّ من وحي، وكان هذا الوحي في الرسالة الخاتمة هو القرآن الذي أنزله الله للتدبّر والتذكّر، فإذا اتضح هذا فلنتساءل ما محل هذه الآيات في سياق السورة والمقطع؟
لاحظنا أن المقطع بدأ بقوله تعالى: اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ
…
فالمقطع يبدأ بالأمر بذكر داود عليه السلام مما يوحي أنّ المقطع يأتي من أجل تبيان نماذج من كون هذا القرآن ذكرا؛ فهو يذكّر من خلال القصة والحادثة، ويذكّر من خلال التقرير، ويذكّر من خلال العرض، وقد ذكّرنا في قصّة داود عليه السلام من خلال القصة، وذكّرنا في الآيات الثلاث في الوسط من خلال التقرير، وختم الآيات بتبيان وتأكيد كون القرآن مذكّرا وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ وصلة ذلك ببداية السورة وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ واضحة. فالسّورة نموذج على كون القرآن ذكرا.
ومجئ الآيات الثلاث بعد قوله تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ
…
فيه إشارة إلى أهمية ما ورد في الآية، حتى جاءت ثلاث آيات بعدها لتعضّد مضمونها، فالحكم بالحق وترك اتباع الهوى من أعظم المقاصد في هذه الشريعة، وفي ختم الآيات الثلاث بقوله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ
…
فيه إشارة إلى أن القرآن هو ميزان الحق، وميزان عدم اتباع الهوى، وفي ختم الآية الأخيرة بقوله تعالى:
لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ ما يفيد أن في السياق من العبر ما يحتاج إلى تدبّر، وتذكّر كبيرين، وبعد هذا الفاصل الذي خدم سياق السورة القريب والعام خدمات كثيرة يعود السياق إلى الحديث عن داود عليه السلام.
…
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ وفي ذكر هبة الله داود سليمان عليهما السلام في هذا المقام ما يشير إلى أنّ هذه الهبة مكافأة لداود عليه السلام على ما مرّ، ممّا يشير إلى أنّه قد قام بحق الاستخلاف، وحكم بالحق، وترك اتباع الهوى نِعْمَ الْعَبْدُ أي سليمان إِنَّهُ أَوَّابٌ هذا تعليل لاستحقاقه الثناء، والأواب: هو الكثير الرجوع إلى الله تعالى، فكما كان أبوه أوّابا فهو أوّاب، وكما أعطي أبوه ما أعطي، فقد أعطي هو الكثير؛ مكافأة له على أوّابيته، وكما عرض الله عز وجل حادثة تدل على أوّابيّة داود عليه