الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مصعب بن سعد يحدّث عن أبيه سعد قال: نزلت فيّ أربع آيات، فذكر قصته وقال:
قالت أم سعد أليس الله قد أمرك بالبر؟ والله لا أطعم طعاما، ولا أشرب شرابا، حتى أموت أو تكفر، قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها، فنزلت وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً* وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما).
2 - [كلام النسفي بمناسبة قوله تعالى لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ]
بمناسبة قوله تعالى: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ قال النسفي:
(والصلاح من أبلغ صفات المؤمنين وهو متمنى الأنبياء عليهم السلام قال سليمان عليه السلام: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ. [النمل: 19] وقال يوسف عليه السلام: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف: 101]، أي: في مدخل الصالحين وهو الجنة).
كلمة في السياق: [حول أصعب الامتحانات التي يمر بها المؤمن المجاهد وكيفية التصرف فيها وصلة ذلك بالمحور]
من أصعب الامتحانات التي يمرّ بها المؤمن المجاهد موقف والديه منه، ومن أصعب الأمور أن يتصرّف التصرف المناسب في مثل هذا الموطن، ومن ثمّ ألزم الله المؤمن هنا بشيئين: الإحسان، وعدم الطاعة في المعصية وهما أمران لا يستطيعهما معا إلا موفّق، ومن ثمّ ذكر الله عز وجل في هذا السياق ما أعده لمن آمن وعمل صالحا، وعلى هذا فإن السياق- حتى الآن- يعرض علينا علامات الصدق في الإيمان، وهي الصبر على الامتحان، ورجاء ثواب الله، والجهاد، والعمل الصالح، والإحسان إلى الوالدين، مع الرفض لكل أمر فيه معصية لله، وإذا كان هذا الشأن مع الوالدين، فمن باب أولى أن يكون الأمر كذلك مع غيرهما. إن السورة حتى الآن إذن تعرض علينا في سياقها الرئيسي علامات الصدق في الإيمان بالغيب التي هي الصفة الأولى من صفات المتقين، كما عرضت في مقدّمة سورة البقرة وقد آن الأوان لنتحدّث شيئا ما عن مقدمة سورة البقرة:
عرضت مقدمة سورة البقرة صفات المتقين. ثم تحدثت عن الكافرين.
ثم عرضت صفات المنافقين، وعند ما تكلّمت عن صفات المتقين بدأت بصفة الإيمان الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ.
وعند ما تحدّثت عن المنافقين بدأت بكذبهم في دعوى الإيمان:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ* يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ* فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ.
وكما رأينا فإن سورة العنكبوت بدأت في الكلام عن علامة الصدق في الإيمان والكذب به فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ وسار السياق ليحدّثنا عن علامات الصدق في الإيمان، مع التبشير لأهل ذلك، وها نحن بعد ذلك قد وصلنا إلى أن يعطينا السياق علامة الإيمان الكاذب، وهو السقوط في الامتحان، وكما بدأ الحديث في مقدمة سورة البقرة عن المنافقين، بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ
…
فههنا يبدأ كذلك بقوله: وَمِنَ النَّاسِ
…
....
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ قال النسفي: (أي إذا مسّه أذى من الكفار جزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله تعالى). وقال ابن كثير: (إذا جاءتهم محنة وفتنة في الدنيا اعتقدوا أن هذا من نقمة الله تعالى بهم، فارتدوا عن الإسلام). وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أي وإذا نصر الله المؤمنين ومكّنهم وغنّمهم اعترضوهم، وقالوا: إنّا كنّا معكم، أي متابعين لكم في دينكم، ثابتين عليه بثباتكم، فأعطونا نصيبنا من الغنم أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ أي أو ليس الله بأعلم بما في قلوبهم، وما تكنّه ضمائرهم، وإن أظهروا الموافقة؟ أي هو أعلم بما في صدور العالمين، من العالمين بما في صدورهم، ومن ذلك ما في صدور هؤلاء من النفاق، وما في صدور المؤمنين من الإخلاص،
ثم وعد المؤمنين، وأوعد المنافقين بقوله: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ. قال ابن كثير: (أي وليختبر الله الناس بالضراء والسراء؛ ليتميّز هؤلاء من هؤلاء، من يطيع الله في الضراء والسّراء، ومن يطيعه في حظ نفسه). وقال صاحب الظلال بمناسبة هاتين الآيتين اللتين تتحدّثان عن نموذج من الناس يراه الإنسان
كثيرا:
(ذلك النموذج من الناس، يعلن كلمة الإيمان في الرخاء يحسبها خفيفة الحمل، هينة المئونة، لا تكلف إلا نطقها باللسان، فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ بسبب الكلمة التي قالها وهو آمن معافى جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ فاستقبلها في جزع،
واختلّت في نفسه القيم، واهتزت في ضميره العقيدة؛ وتصوّر أن لا عذاب بعد هذا الأذى الذي يلقاه، حتى عذاب الله؛ وقال في نفسه: ها هو ذا عذاب شديد أليم ليس وراءه شئ، فعلام أصبر على الإيمان، وعذاب الله لا يزيد على ما أنا فيه من عذاب؟
وإن هو إلا الخلط بين أذى يقدر على مثله البشر، وعذاب الله الذي لا يعرف أحد مداه.
هذا موقف ذلك النموذج من الناس في استقبال الفتنة في ساعة الشدة.
وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ: إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ!
إنا كنا معكم
…
وذلك كان موقفهم في ساعة العسرة من التخاذل والتهافت والتهاوي، وسوء التصوير وخطأ التقدير. ولكن حين يجئ الرخاء تنبعث الدعوى العريضة. وينتفش المنزوون المتخاذلون، ويستأسد الضعفاء المهزومون، فيقولون:
إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ! أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ.
أو ليس يعلم ما تنطوي عليه تلك الصدور من صبر أو جزع، ومن إيمان أو نفاق؟
فمن الذي يخدعه هؤلاء وعلى من يموّهون؟
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ.
وليكشفنهم فيعرفون؛ فما كانت الفتنة إلا ليتبين الذين آمنوا ويتبين المنافقون.
ونقف لحظة أمام التعبير القرآني الدقيق وهو يكشف عن موضع الخطأ في هذا النموذج من الناس حين يقول: جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ.
فليست الغلطة أن صبرهم قد ضعف عن احتمال العذاب، فمثل هذا يقع للمؤمنين الصادقين في بعض اللحظات- وللطاقة البشرية حدود- ولكنهم يظلون يفرقون تفرقة واضحة في تصورهم وشعورهم بين كل ما يملكه البشر لهم من أذى وتنكيل، وبين عذاب الله العظيم؛ فلا يختلط في حسّهم أبدا عالم الفناء الصغير، وعالم الخلود الكبير، حتى في اللحظة التي يتجاوز عذاب الناس لهم مدى الطاقة، وجهد الاحتمال
…
إن الله في حسّ المؤمن لا يقوم له شئ، مهما تجاوز الأذى طاقته واحتماله
…
وهذا هو مفرق الطريق بين الإيمان في القلوب والنفاق).