الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا يدرك مداه. قال ابن كثير: (قال طلق بن حبيب: التقوى: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، مخافة عذاب الله) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ قال ابن كثير: أي لا تسمع منهم ولا تستشرهم إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً أي فهو أحقّ أن تتّبع أوامره وتطيعه فإنّه عليم بعواقب الأمور، حكيم في أقواله وأفعاله
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي من قرآن وسنة إِنَّ اللَّهَ الذي أوحى إليك كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أي لا تخفى عليه خافية من أعمالكم
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في جميع أمورك وأحوالك وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي واكتف بالله وكيلا أي حافظا موكولا إليه كل أمر، أو المعنى: وكفى به وكيلا لمن توكّل عليه وأناب إليه.
كلمة في السياق:
إن مجموع الأوامر التي صدرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمته من خلال شخصه الكريم في هذه الآيات هي التقوى، وترك طاعة الكافرين والمنافقين، واتّباع الوحي، والتوكل، والصلة بين هذه الأوامر واضحة. فالتقوى لا تكون مع طاعة الكافرين والمنافقين. إذ الكافرون والمنافقون يرغبون أن يحرفوا المؤمنين. والتقوى واتباع الوحي متلازمان كما ورد في أول آية من سورة البقرة الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ والتقوى وترك طاعة الكافرين والمنافقين واتّباع الوحي كلها تحتاج إلى توكل على الله، وتفويض أمر له ومعرفة له. ومن ثمّ جاء الأمر بالتوكل، وجاء قوله تعالى:
وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وإِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً وإذ استقرّت هذه المعاني يبدأ السياق بهدم قاعدة التبنّي المتعارف عليها عند العرب، والتي كانت عميقة عندهم، والتي سيترتب على هدمها قيل وقال، فناسب ذلك أن يسبق الكلام عنها هذه المقدّمة، وتلك إحدى حكم وجود هذه المقدّمة، هذا وإن لهذه المقدّمة صلة بمحور سورة الأحزاب من سورة البقرة، فقد رأينا أنّه قد جاء في مقدمة سورة البقرة ذكر المتقين والكافرين والمنافقين. ثم جاء قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا
رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
أي لتكونوا من الفئة الأولى. وهاهنا يأتي الأمر بالتقوى، وترك طاعة الكافرين والمنافقين، ويأتي الأمر باتّباع الكتاب، وبالتوكّل، وكل ذلك يخدم قضية التفصيل في موضوع التقوى والطريق إليها، وإذا كانت السور الأربع السابقة على سورة الأحزاب قد فصّلت في
المقدمة، فذكرت التقوى والكفر والنفاق، فإن مقدمة سورة الأحزاب تحدّد الطريق العملي للسلوك:
1 -
تقوى الله. 2 - عدم الطاعة للكافرين والمنافقين.
3 -
اتّباع الكتاب والسنة. 4 - التوكّل على الله.
ولنعد إلى التفسير:
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ هذه توطئة للمقصود؛ فكما لا يكون للشّخص الواحد قلبان في جوفه، وكما لا تصير زوجته التي يظاهر منها بقوله: أنت عليّ كظهر أمّي أمّا له. كذلك لا يصير الدعيّ ولدا للرجل إذا تبناه فدعاه ابنا له وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أي الذين تدعونهم أولادكم وما هم بأولادكم حقيقة أَبْناءَكُمْ قال النسفي:
(أي ما جمع الله قلبين في جوف، ولا زوجية وأمومة في امرأة، ولا بنوة ودعوة في رجل، والمعنى: أنه تعالى كما لم يجعل لإنسان قلبين- لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر فعلا من أفعال القلوب فأحدهما فضلة غير محتاج إليه، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك فذلك يؤدّي إلى اتصاف الجملة بكونه (أي صاحب القلبين) مريدا كارها عالما موقنا شاكا في حالة واحدة- لم يحكم أيضا أن تكون المرأة الواحدة أمّا لرجل زوجا له، لأن الأم مخدومة والمرأة خادمة، وبينهما منافاة، وأن يكون الرجل الواحد دعيّا لرجل وابنا له؛ لأن البنوّة أصالة في النسب، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير، ولا يجتمع في الشئ الواحد أن يكون أصيلا غير أصيل).
ومن كلام النسفي نفهم أنّ المراد بالقلب في الآية القلب الذي هو محلّ العلم، والظن، والشك، واليقين، فالمنفي هو القلب الذي هذا شأنه، فهذا لا يتعدّد عند الإنسان قطعا بنصّ الآية، أما القلب الحسيّ فالمشاهد أنّه لا يتعدّد كذلك، وفي قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ قال صاحب الظلال:
(إنه قلب واحد، فلا بد له من منهج واحد يسير عليه. ولا بد له من تصوّر كلي واحد للحياة وللوجود يستمد منه. ولا بد له من ميزان واحد يزن به القيم، ويقوّم به الأحداث والأشياء. وإلا تمزّق وتفرّق ونافق والتوى، ولم يستقم على اتجاه.
ولا يملك الإنسان أن يستمد آدابه وأخلاقه من معين؛ ويستمد شرائعه وقوانينه من معين آخر؛ ويستمد أوضاعه الاجتماعية أو الاقتصادية من معين ثالث؛ ويستمد فنونه وتصوّراته من معين رابع .. فهذا الخليط لا يكوّن إنسانا له قلب. إنما يكوّن مزقا وأشلاء ليس لها قوام!
وصاحب العقيدة لا يملك أن تكون له عقيدة حقا، ثم يتجرد من مقتضياتها وقيمها الخاصة في موقف واحد من مواقف حياته كلها، صغيرا كان هذا الموقف أم كبيرا. لا يملك أن يقول كلمة، أو يتحرك حركة، أو ينوي نية، أو يتصوّر تصوّرا، غير محكوم في هذا كله بعقيدته- إن كانت هذه العقيدة حقيقة واقعة في كيانه- لأن الله لم يجعل له سوى قلب واحد، يخضع لناموس واحد، ويستمد من تصور واحد، ويزن بميزان واحد.
لا يملك صاحب العقيدة أن يقول عن فعل فعله: فعلت كذا بصفتي الشخصية.
وفعلت كذا بصفتي الإسلامية! كما يقول رجال السياسة أو رجال الشركات.
أو رجال الجمعيات الاجتماعية أو العلمية وما إليها في هذه الأيام! إنه شخص واحد له قلب واحد، تعمره عقيدة واحدة. وله تصوّر واحد للحياة، وميزان واحد للقيم.
وتصوّره المستمد من عقيدته متلبس بكل ما يصدر عنه، في كل حالة من حالاته على السواء.
وبهذا القلب الواحد يعيش فردا، ويعيش في الأسرة، ويعيش في الجماعة، ويعيش في الدولة. ويعيش في العالم. يعيش سرا وعلانية. ويعيش عاملا وصاحب عمل.
ويعيش حاكما ومحكوما. ويعيش في السراء والضراء .. فلا تتبدّل موازينه، ولا تتبدّل قيمه، ولا تتبدل تصوراته. ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ.
ومن ثمّ فهو منهج واحد، وطريق واحد، ووحي واحد، واتجاه واحد.
وهو استسلام لله وحده. فالقلب الواحد لا يعبد إلهين. ولا يخدم سيّدين، ولا ينهج نهجين، ولا يتجه اتجاهين. وما يفعل شيئا من هذا إلا أن يتمزّق ويتفرّق ويتحوّل إلى أشلاء وركام!).
ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ أي إن قولكم للزوجة هي أم، وللدعي هو ابن قول تقولونه بألسنتكم، لا حقيقة له؛ إذ الابن يكون بالولادة، وكذا الأم وَاللَّهُ
يَقُولُ الْحَقَّ أي يقول ما هو حق ظاهره وباطنه وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ أي سبيل الحق
ثم بيّن ما هو الحق في هذه المسألة، فبيّن أن دعاءهم لآبائهم هو أدخل الأمرين في القسط والعدل فقال: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ أي أعدل عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ أي فإن لم تعلموا لهم آباء تنسبونهم إليهم فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ أي فهم إخوانكم في الدين، وأولياؤكم في الدين فقولوا: هذا أخي وهذا مولاي، ويا أخي ويا مولاي، يريد الأخوة في الدين والولاية فيه. قال ابن كثير:(أمر تعالى برد أنساب الأدعياء إلى آبائهم إن عرفوا، فإن لم يعرفوا فهم إخوانهم في الدين ومواليهم، أي عوضا عمّا فاتهم من النسب) وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي إثم فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ أي لا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين جاهلين قبل ورود النّهي، ولكن
الإثم عليكم فيما تعمّدتموه بعد النهي، أو لا جناح عليكم إذا نسبتم بعضهم إلى غير أبيه خطأ بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع، فإنّ الله قد وضع الحرج في الخطأ، ورفع إثمه، وإنما الإثم على من تعمّد الباطل وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي لا يؤاخذكم بالخطإ ويقبل توبة المتعمّد، وبمناسبة هذا الحكم يقرر الله عز وجل أحكاما أخرى:
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي أحق بهم من أنفسهم في كل شئ وحكمه أنفذ عليهم من حكم أنفسهم؛ فعليهم أن يبذلوها دونه ودون ما أوحي إليه، ويجعلوها فداءه، فإذا أمر أمرا أو نهى عن نهي فعليهم أن يسارعوا إلى الطاعة، أو هو أولى بهم بمعنى: أرأف بهم وأعطف عليهم وأنفع لهم. وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي في الحرمة والاحترام، والتوقير والإكرام والإعظام. قال ابن كثير:
(ولكن لا تجوز الخلوة بهنّ ولا ينتشر التحريم إلى بناتهنّ وأخواتهنّ بالإجماع). وقال النسفي: وأزواجه أمهاتهم في تحريم نكاحهن، ووجوب تعظيمهن، وهن فيما وراء ذلك كالإرث ونحوه كالأجنبيات، ولهذا لم يتعدّ التحريم إلى بناتهن وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ أي في حكم الله وقضائه، أو في اللوح المحفوظ، أو فيما فرض الله مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ أي القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار. قال ابن كثير:(وهذه ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة التي كانت بينهم). وقال النسفي: (وكان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين، وبالهجرة لا بالقرابة، ثم نسخ ذلك وجعل التوارث بحق القرابة). والمعنى: الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضا