الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك فَلا مُمْسِكَ لَها أي فلا أحد يقدر على إمساكها وحبسها وَما يُمْسِكْ أي يمنع ويحبس فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ أي فلا مطلق لها من بعد إمساكه وَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب القادر على الإرسال والإمساك الْحَكِيمُ أي الذي يرسل ويمسك ما تقضي الحكمة إرساله وإمساكه. قال ابن كثير في الآية: (يخبر تعالى أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع).
نقل: [عن صاحب الظلال بمناسبة آية ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ .. (2)]
قال صاحب الظلال في قوله تعالى: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ:
(في هذه الآية الثانية من السورة صورة من صور قدرة الله التي ختم بها الآية الأولى. وحين تستقر هذه الصورة في قلب بشري يتم فيه تحول كامل في تصوراته ومشاعره واتجاهاته وموازينه وقيمه في هذه الحياة جميعا.
إنها تقطعه عن شبهة كل قوة في السماوات والأرض وتصله بقوة الله. وتيأسه من مظنة كل رحمة في السماوات والأرض، وتصله برحمة الله. وتوصد أمامه كل باب في السماوات والأرض، وتفتح أمامه باب الله. وتغلق في وجهه كل طريق في السماوات والأرض، وتشرع له طريقه إلى الله.
ورحمة الله تتمثّل في مظاهر لا يحصيها العد؛ ويعجز الإنسان عن مجرد ملاحقتها وتسجيلها في ذات نفسه وتكوينه، وتكريمه بما كرمه؛ وفيما سخّر له من حوله ومن فوقه ومن تحته؛ وفيما أنعم به عليه مما يعلمه ومما لا يعلمه وهو كثير.
ورحمة الله تتمثل في الممنوع تمثلها في الممنوح. ويجدها من يفتحها الله له في كل شئ، وفي كل وضع، وفي كل حال، وفي كل مكان
…
يجدها في نفسه، وفي مشاعره؛ ويجدها فيما حوله، وحيثما كان، وكيفما كان. ولو فقد كل شئ مما يعد الناس فقده هو الحرمان .. ويفتقدها من يمسكها الله عنه في كل شئ، وفي كل وضع، وفي كل حالة، وفي كل مكان. ولو وجد كل شئ مما يعده الناس علامة الوجدان والرضوان!
وما من نعمة- يمسك الله معها رحمته- حتى تنقلب هي بذاتها نقمة. وما من محنة- تحفّها رحمة الله- حتى تكون هي بذاتها نعمة .. ينام الإنسان على الشوك- مع
رحمة الله- فإذا هو مهاد. وينام على الحرير- وقد أمسكت عنه- فإذا هو شوك القتاد. ويعالج أعسر الأمور- برحمة الله- فإذا هي هوادة ويسر. ويعالج أيسر الأمور- وقد تخلّت رحمة الله- فإذا هي مشقة وعسر. ويخوض بها المخاوف والأخطار فإذا هي أمن وسلام. ويعبر بدونها المناهج والمسالك فإذا هي مهلكة وبوار!
ولا ضيق مع رحمة الله. إنما الضيق في إمساكها دون سواه. لا ضيق ولو كان صاحبها في غياهب السجن. أو في جحيم العذاب أو في شعاب الهلاك. ولا وسعة مع إمساكها ولو تقلب الإنسان في أعطاف النعيم، وفي مراتع الرخاء. فمن داخل النفس- برحمة الله- تتفجر ينابيع السعادة والرضى والطمأنينة. ومن داخل النفس- مع إمساكها- تدب عقارب القلق والتعب والنصب والكد والمعاناة!
هذا الباب وحده يفتح وتغلق جميع الأبواب، وتوصد جميع النوافذ، وتسدّ جميع المسالك .. فلا عليك. فهو الفرج والفسحة واليسر والرخاء
…
وهذا الباب وحده يغلق وتفتح جميع الأبواب فما هو بنافع. وهو الضيق والكرب والشدة والقلق والعناء! هذا الفيض يفتح، ثم يضيق الرزق. ويضيق السكن. ويضيق العيش، وتخشن الحياة ويشوك المضجع .. فلا عليك فهو الرخاء والراحة والطمأنينة والسعادة. وهذا الفيض يمسك. ثم يفيض الرزق ويقبل كل شئ. فلا جدوى. وإنما هو الضنك والحرج والشقاوة والبلاء!
المال والولد، والصحة والقوة، والجاه والسلطان .. تصبح مصادر قلق وتعب ونكد وجهد إذا أمسكت عنها رحمة الله. فإذا فتح الله أبواب رحمته كان فيها السكن والراحة والسعادة والاطمئنان.
يبسط الله الرزق- مع رحمته- فإذا هو متاع طيب ورخاء؛ وإذا هو رغد في الدنيا وزاد إلى الآخرة. ويمسك رحمته، فإذا هو مثار قلق وخوف، وإذا هو مثار حسد وبغض، وقد يكون معه الحرمان ببخل أو مرض، وقد يكون معه التلف بإفراط أو استهتار.
ويمنح الله الذرية- مع رحمته- فإذا هي زينة في الحياة ومصدر فرح واستمتاع، ومضاعفة للأجر في الآخرة بالخلف الصالح الذي يذكر الله. ويمسك رحمته فإذا الذرية بلاء ونكد وعنت وشقاء، وسهر بالليل وتعب بالنهار!
ويهب الله الصحة والقوة- مع رحمته- فإذا هي نعمة وحياة طيبة، والتذاذ بالحياة. ويمسك نعمته فإذا الصحة والقوة بلاء يسلّطه الله على الصحيح القوي، فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسم ويفسد الروح، ويدّخر السوء ليوم الحساب!
ويعطي الله السلطان والجاه- مع رحمته- فإذا هي أداة إصلاح، ومصدر أمن، ووسيلة لادخار الطيب الصالح من العمل والأثر. ويمسك الله رحمته فإذا الجاه والسلطان
مصدر قلق على قوتهما، ومصدر طغيان وبغي بهما، ومثار حقد وموجدة على صاحبهما لا يقر له معهما قرار ولا يستمتع بجاه ولا سلطان، ويدخر بهما للآخرة رصيدا ضخما من النار!
والعلم الغزير. والعمر الطويل. والمقام الطيب. كلها تتغيّر وتتبدّل من حال إلى حال .. مع الإمساك ومع الإرسال .. وقليل من المعرفة يثمر وينفع، وقليل من العمر يبارك الله فيه. وزهيد من المتاع يجعل الله فيه السعادة.
والجماعات كالآحاد. والأمم كالأفراد. في كل أمر وفي كل وضع، وفي كل حال .. ولا يصعب القياس على هذه الأمثال!
ومن رحمة الله أن تحسّ برحمة الله! فرحمة الله تضمك وتغمرك وتفيض عليك.
ولكن شعورك بوجودها هو الرحمة. ورجاؤك فيها وتطلعك إليها هو الرحمة. وثقتك بها وتوقعها في كل أمر هو الرحمة. والعذاب هو العذاب في احتجابك عنها أو يأسك منها أو شكك فيها. إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ.
ورحمة الله لا تعز على طالب في أي مكان ولا في أي حال. وجدها إبراهيم- عليه السلام في النار. ووجدها يوسف- عليه السلام في الجب كما وجدها في السجن. ووجدها يونس- عليه السلام في بطن الحوت في ظلمات ثلاث.
ووجدها موسى- عليه السلام في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة ومن كل حراسة، كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له متربص به ويبحث عنه. ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور. فقال بعضهم لبعض: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ووجدها رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهما ويقصون الآثار .. ووجدها كل من آوى إليها يأسا من كل ما سواها. منقطعا عن كل شبهة في قوة، وعن كل مظنة في رحمة، قاصدا باب الله