الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابن إسحاق: لما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا: «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم» فلم تغز قريش بعد ذلك وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يغزوهم بعد ذلك حتى فتح الله تعالى مكة. وهذا الحديث الذي ذكره محمد بن إسحاق حديث صحيح. كما روى الإمام أحمد
…
عن سليمان بن صرد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: «الآن نغزوهم ولا يغزونا» وهكذا رواه البخاري في صحيحه).
9 - [كلام ابن كثير بمناسبة قوله تعالى وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ .. الآيتان (26، 27)]
بمناسبة قوله تعالى: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً* وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً.
قال ابن كثير: (قد تقدم أن بني قريظة لمّا قدمت جنود الأحزاب، ونزلوا على المدينة نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد وكان ذلك بسفارة حيي ابن أخطب النضري- لعنه الله- دخل حصنهم ولم يزل بسيدهم كعب بن أسد حتى نقض العهد، وقال له فيما قال: ويحك قد جئتك بعز الدهر، أتيتك بقريش وأحابيشها، وغطفان وأتباعها، ولا يزالون هاهنا حتى يستأصلوا محمدا وأصحابه؛ فقال له كعب: بل والله أتيتني بذل الدهر، ويحك يا حيي إنك مشئوم فدعنا منك، فلم
يزل يفتل في الذروة والغارب حتى أجابه واشترط له حيي إن ذهب الأحزاب ولم يكن من أمرهم شئ أن يدخل معهم في الحصن فيكون له أسوتهم، فلما نقضت قريظة، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ساءه، وشقّ عليه وعلى المسلمين جدا، فلما أيّده الله تعالى ونصره، وكبت الأعداء، وردهم خائبين بأخسر صفقة، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مؤيّدا منصورا، ووضع الناس السلاح، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من وعثاء تلك المرابطة في بيت أم سلمة رضي الله عنها إذ تبدّى له جبريل عليه الصلاة والسلام معتجرا بعمامة من إستبرق، على بغلة عليها قطيفة من ديباج فقال: أوضعت السلاح يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم» قال: لكن الملائكة لم تضع أسلحتها، وهذا الآن رجوعي من طلب القوم، ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة، وفي رواية فقال له: عذيرك من مقاتل أوضعتم السلاح؟ قال: «نعم» قال: لكنا لم نضع أسلحتنا بعد، انهض إلى هؤلاء قال صلى الله عليه وسلم:«أين؟» قال:
بني قريظة، وكانت على أميال من المدينة، وذلك بعد صلاة الظهر، وقال صلى الله عليه وسلم:
«لا يصلينّ أحد منكم العصر إلا في بني قريظة» فسار الناس فأدركتهم الصلاة في الطريق، فصلى بعضهم في الطريق، وقالوا لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعجيل المسير، وقال آخرون لا نصليها إلا في بني قريظة فلم يعنّف واحدا من الفريقين، وتبعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه، وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. ثم نازلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، فلما طال عليهم الحال نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنه لأنهم كانوا حلفاء في الجاهلية، واعتقدوا أنه يحسن إليهم في ذلك، كما فعل عبد الله بن أبيّ بن سلول في مواليه بني قينقاع حين استطلقهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فظن هؤلاء أن سعدا سيفعل فيهم كما فعل ابن أبيّ في أولئك، ولم يعلموا أن سعدا رضي الله عنه كان قد أصابه سهم في أكحله أيام الخندق، فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكحله وأنزله في قبة في المسجد ليعوده من قريب، وقال سعد رضي الله عنه فيما دعا به: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة، فاستجاب الله تعالى دعاءه وقدر عليهم أن نزلوا على حكمه باختيارهم طلبا من تلقاء أنفسهم، فعند ذلك استدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ليحكم فيهم، فلما أقبل وهو راكب على حمار قد وطئوا له عليه جعل الأوس يلوذون به ويقولون: يا سعد إنهم مواليك؛ فأحسن فيهم ويرقّقونه عليهم ويعطّفونه وهو ساكت لا يرد عليهم، فلما أكثروا عليه قال رضي الله عنه: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. فعرفوا أنه غير مستبقيهم، فلما دنا من الخيمة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قوموا إلى سيّدكم» فقام إليه المسلمون، فأنزلوه إعظاما وإكراما واحتراما له في محل ولايته ليكون أنفذ لحكمه فيهم، فلما جلس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن هؤلاء- وأشار إليهم- قد نزلوا على حكمك فاحكم فيهم بما شئت» . فقال رضي الله عنه: وحكمي نافذ عليهم؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم» . قال: وعلى من في هذه الخيمة؟ قال: «نعم» . قال: وعلى من هاهنا- وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض بوجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا وإكراما وإعظاما- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» .
فقال رضي الله عنه: حكمي أني أحكم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذريتهم وأموالهم.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة» .
وفي رواية: «لقد حكمت بحكم الله» . ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأخاديد فخدّت في
الأرض، وجيء بهم مكتفين، فضرب أعناقهم، وكانوا ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة، وسبى من لم ينبت منهم من النساء وأموالهم، وهذا كله مقرر مفصّل بأدلته وأحاديثه وبسطه في كتاب السيرة التي أفردناها موجزا وبسيطا ولله الحمد والمنة. ولهذا قال تعالى: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ أي عاونوا الأحزاب وساعدوهم على حرب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني بني قريظة من اليهود من بعض أسباط بني إسرائيل كان قد نزل آباؤهم الحجاز قديما طمعا في اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فعليهم لعنة الله، وقوله تعالى: مِنْ صَياصِيهِمْ يعني حصونهم. كذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء وقتادة والسدي وغيرهم من السلف، ومنه سمي صياصي البقر وهي قرونها لأنها أعلى شئ فيها وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ وهو الخوف لأنهم كانوا مالئوا المشركين على حرب النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم، وليس من يعلم كمن لا يعلم، وأخافوا المسلمين، وراموا قتلهم ليعزوهم في الدنيا فانعكس عليهم الحال، وانقلب إليهم القتال، انشمر المشركون، ففازوا بصفقة المغبون، فكما راموا العزّ ذلوا، وأرادوا استئصال المسلمين فاستؤصلوا، وأضيف إلى ذلك شقاوة الآخرة فصارت الجملة أن هذه هي الصفقة الخاسرة، ولهذا قال تعالى: فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً فالذين قتلوا هم المقاتلة، والأسراء هم الأصاغر والنساء. وروى الإمام أحمد عن عطية القرظي قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فشكّوا فيّ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظروا هل أنبت بعد، فنظروني فلم يجدوني أنبت، فخلى عني وألحقني بالسبي، وكذا رواه أهل السنن كلهم من طرق عن عبد الملك بن عمير به، وقال الترمذي حسن صحيح، ورواه النسائي وقوله تعالى: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ أي جعلها لكم من قتلكم لهم وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها قيل خيبر، وقيل مكة. رواه مالك عن زيد ابن أسلم، وقيل فارس والروم، وقال ابن جرير: يجوز أن يكون الجميع مرادا وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً روى الإمام أحمد عن علقمة بن وقاص قال:
أخبرتني عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت يوم الخندق أقفو الناس فسمعت وئيد الأرض ورائي، فإذا أنا بسعد بن معاذ رضي الله عنه ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنة، قالت: فجلست إلى الأرض فمرّ سعد رضي الله عنه وعليه درع من حديد، قد خرجت منه أطرافه، فأنا أتخوّف على أطراف سعد، قالت: وكان سعد رضي الله
عنه من أعظم الناس وأطولهم فمرّ وهو يرتجز ويقول:
لبّث قليلا يشهد الهيجا حمل
…
ما أحسن الموت إذا حان الأجل
قالت فقمت فاقتحمت حديقة، فإذا فيها نفر من المسلمين، وإذا فيها عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، وفيهم رجل عليه تسبغة له- تعني المغفر-، فقال عمر رضي الله عنه: ما جاء بك؟ لعمري والله إنك لجريئة، وما يؤمّنك أن يكون بلاء أو يكون تخوّر، قالت: فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت بي ساعتئذ فدخلت فيها، فرفع الرجل التسبغة عن وجهه، فإذا هو طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه فقال: يا عمر ويحك إنك قد أكثرت منذ اليوم، وأين التحوز أو الفرار إلا إلى الله تعالى قالت: ورمى سعدا رضي الله عنه رجل من قريش يقال له ابن العرقة بسهم له، وقال له خذها وأنا ابن العرقة، فأصاب أكحله، فقطعه، فدعا الله تعالى سعد رضي الله عنه فقال: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة، قالت وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية، قالت: فرقأ كلمه، وبعث الله تعالى الريح على المشركين، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قويا عزيزا، فلحق أبو سفيان ومن معه بتهامة، ولحق عيينة ابن بدر ومن معه بنجد، ورجعت بنو قريظة فتحصّنوا في صياصيهم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأمر بقبة من أدم فضربت على سعد رضي الله عنه في المسجد، قالت: فجاءه جبريل عليه السلام وإن على ثناياه لنقع الغبار، فقال: أو قد وضعت السلاح؟ لا والله ما وضعت الملائكة بعد السلاح، اخرج إلى بني قريظة فقاتلهم، قالت: فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وأذن في الناس بالرحيل أن يخرجوا، فمرّ على بني تميم وهم جيران المسجد فقال:«من مرّ بكم» قالوا مرّ بنا دحية الكلبي، وكان دحية الكلبي يشبه لحيته وسنه ووجهه جبريل عليه الصلاة والسلام، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، فلما اشتد حصارهم، واشتد البلاء، قيل لهم انزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر، فأشار إليهم أنه الذبح، قالوا ننزل على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«انزلوا على حكم سعد بن معاذ» فنزلوا وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه فأتي به على حمار عليه إكاف من ليف قد حمل عليه، وحفّ به قومه، فقالوا:
يا أبا عمرو حلفاؤك ومواليك وأهل الكتاب ومن قد علمت، قالت: فلا يرجع إليهم شيئا، لا يلتفت إليهم، حتى إذا دنا من دورهم التفت إلى قومه فقال: قد آن لي أن لا أبالي في الله لومة لائم. قالت: قال أبو سعيد: فلما طلع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«قوموا إلى سيدكم فأنزلوه» فقال عمر رضي الله عنه: سيدنا الله. قال: «أنزلوه»