الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْفَتْحِ أي إذا حلّ بكم بأس الله وسخطه وغضبه في الدنيا والآخرة لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ. كما قال تعالى: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر: 83]. ومن زعم أن المراد من هذا فتح مكة فقد أبعد النجعة، وأخطأ فأفحش؛ فإن يوم الفتح قد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلام الطلقاء وقد كانوا قريبا من ألفين، ولو كان المراد فتح مكة لما قبل إسلامهم لقوله تعالى: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ وإنما المراد الفتح الذي هو القضاء والفصل كقوله: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً الآية [الشعراء: 118]. وكقوله: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ الآية [سبأ: 26]. وقال تعالى: وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [إبراهيم: 15] وقال تعالى: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة: 89]. وقال تعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ [الأنفال: 19].
10 - [كلام ابن كثير حول فضل سورة السجدة]
وفي سورة السجدة قال ابن كثير: روى البخاري
…
عن أبي هريرة قال:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة الم تَنْزِيلُ السجدة وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ. ورواه مسلم أيضا من حديث سفيان الثوري به. وروى الإمام أحمد
…
عن جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الم تَنْزِيلُ السجدة وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ تفرّد به أحمد.
كلمة أخيرة في سورة السجدة وزمرتها:
لاحظنا أن السياق الخاص لسورة السجدة صبّ في موضوع رئيسي هو موضوع الإيمان الجازم بهذا القرآن؛ إلا أننا قلنا من قبل إن كل سورة من هذه السور الأربع المبدوءة ب (الم) صبّ سياقها في موضوع رئيسي من مواضيع الآيات الأولى من سورة البقرة، ولكنه تحدّث عنه مرتبطا ببقية المواضيع، وهذا الذي نلاحظه في سورة السجدة.
فقد كان لقوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* حظّه من التفصيل كما رأينا.
وكان لقوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ
يُنْفِقُونَ حظّه من التفصيل كذلك. تذكّر قوله تعالى: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ* تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ.
وكان لقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ حظّه من التفصيل كذلك، تذكّر قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ ....
وكان لقوله تعالى: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ حظه من التفصيل كذلك تذكّر قوله تعالى: وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ
…
وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ
…
فاليوم الآخر أخذ حيّزا كبيرا من السورة.
وقد تعرّضت السورة لموضوع الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر. ففصّلت في كل موضوع نوع تفصيل اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
…
، قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ
…
، تَنْزِيلُ الْكِتابِ
…
، لِتُنْذِرَ قَوْماً
…
، وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ
…
، وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ....
…
وكنّا ذكرنا أنّ مقدّمة سورة البقرة تحدّثت عن المتقين والكافرين والمنافقين، وأنّ السور الأربع إذ تفصّل في صفات المتقين، فإنّها تفصّل كذلك فيما قابل ذلك من صفات الكافرين.
ومن ثم نجد في سورة السجدة كلاما كثيرا عن الكافرين:
عن ادعائهم أن القرآن مفترى، وعن كفرهم باليوم الآخر، وعن فسوقهم، وعن العذاب العظيم المعدّ لهم، وعن غير ذلك مما يذكّرنا بقوله تعالى في أول سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (البقرة: 6، 7).
خذ مثلا قوله تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أَفَلا يَسْمَعُونَ أَفَلا يُبْصِرُونَ.
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ.
وبهذا نعرف كيف أن سورة السجدة فصّلت في مقدمة سورة البقرة كلها، وبهذا نعرف كذلك أن هذه الزمرة المؤلفة من السور الأربع قد فصّلت في مقدمة سورة البقرة كلها، كل منها قد فصّلت وكمّلت غيرها؛ بحيث اتضح كثير من مضامين هذه المقدمة.
…
وكما جاء بعد مقدمة سورة البقرة قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة: 21) لتدل على طريق التحقق بالمعاني التي تضمنتها المقدمة، فإنّه بعد السور الأربع تأتي سورة الأحزاب مبدوءة بقوله تعالى:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً لتدل على الطريق العملي للتحقق، لاحظ أن في الآية الأولى من سورة الأحزاب قوله تعالى:
وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ والكفر والنفاق هما أحد المواضيع الثلاثة التي تحدثت عنها مقدمة سورة البقرة، وتحدثت عنها السور الأربع، إلا أنّ النّفاق لم يتحدث عنه إلا في سورة العنكبوت؛ لأنّ النّفاق هو الكفر القلبي، مع التظاهر بغيره، فمرجعه إلى الكفر. وقد آن الأوان لنسجّل ملاحظة:
رأينا أن سورة البقرة سارت ضمن سياق محدّد:
تحدّثت عن المتقين والكافرين والمنافقين.
دعت الناس جميعا لسلوك الطريق المؤدي إلى التقوى.
بيّنت الأخلاق التي تحول دون التقوى.
أنكرت على من يكفر، ذكرت ظاهرة العناية. وهكذا
…
وكل موضوع من مواضيعها مرتبط بما قبله وما بعده.
ثم جاء بعد سورة البقرة تتمّة القسم الأول من أقسام القرآن- وهو قسم الطوال- ففصّل على نفس النسق.
فصّلت سورة آل عمران في المقدمة.
جاءت سورة النساء لتدل على الطريق.
جاءت سورة المائدة لتبعد عن الخطأ.
جاءت سورة الأنعام لتنفي الكفر، وتقيم الحجة بظاهرة العناية.
وهكذا على نفس الوتيرة الموجودة في سورة البقرة، وهكذا قل في كل قسم من أقسام القرآن.
ومن ثمّ تجد في هذا القسم زمرة الم تقابل مقدمة سورة البقرة. وسورة الأحزاب تقابل: يا أَيُّهَا النَّاسُ .... كما سنرى. فزمرة الم هنا تذكر الصفات والخصائص، وتأتي سورة الأحزاب لتدلّ على طريق التحقق بالصفات والخصائص، ولكن بما يكمّل ما قبله. فمثلا مقدمة سورة البقرة فصّلتها من قبل سورة آل عمران، وسورة يونس، وسورة الحجر، وسورة طه، وسورة الأنبياء. ثم سور زمرة (الم) من هذا القسم. فالزمرة هذه إذن مسبوقة بتفصيل، ومن ثمّ فإنها تفصّل بمعان جديدة زائدة.
وكذلك فإنّ يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فصّلتها سورة النساء، وسورة هود، وسورة الحج. والآن تأتي سورة الأحزاب. فسورة الأحزاب مسبوقة بما فصّل محورها. ومن ثمّ فهي تفصّل بمعان جديدة مكمّلة أخواتها، ولكنّها بالنسبة لما قبلها مباشرة تدلّ على طريق التحقّق فيه، وبتوضيح أكثر نقول:
إنّك إذا أردت أن تعرف معاني مقدمة سورة البقرة فعليك أن ترى كل سورة فصّلتها، وإذا أردت أن تعرف معاني: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ .... فعليك أن تعرف معاني كل سورة فصّلتها، ولكن إذا أردت أن تعرف الطريق إلى التحقق بمعان وردت في سورة- أو سور- تقابل المقدمة فعليك أن ترى السورة التي جاءت تقابل يا أَيُّهَا النَّاسُ
…
مباشرة بعدها. فكلّما سرت في القرآن رأيت جديدا منبثقا عن أصل، ومرتبطا بأصل، وعلى ضوء ذلك نقبل على سورة الأحزاب.
***