الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إنّها تفهم على أوجه متعدّدة: فهناك ناس يرجمون الغيب من مكان بعيد، فلا تصل إليه قذائفهم؛ لأن الغيب محفوظ، وهم أحقر من أن يصلوا إليه بأذى، فهؤلاء يدخلون في الصورة التي تحدّثت عنها الآية، وإنّك لتراهم في كل مكان.
وهناك ناس يحاولون أن يمسكوا بالغيوب كلها- في زعمهم- ليرموها إلى آخر درك يستطيعونه ليتخلصوا منها، وهيهات لهم ذلك، أمثال هؤلاء يدخلون في الصورة، وإنك لتجدهم في كل مكان.
فإن تجد النص على مثل هذا الاختصار، وعلى مثل هذا التصوير للواقع، وعلى مثل هذه البلاغة، ثمّ أن تجده في محلّه من السياق الجزئي والعام للقرآن، يؤدي دوره بمثل هذا الانسجام الرفيع، وهذه السلاسة العذبة، إنّ ذلك لشئ يدل على أن هذا القرآن من عند الله، فالحمد لله على نعمة الإيمان.
كلمة أخيرة في سورة سبأ:
رأينا أن سورة سبأ تألفت من مقدمة وثلاثة مقاطع.
المقدمة تحدّثت عن استحقاق الله عز وجل للحمد في الدنيا والآخرة، والمقطع الأول ردّ- بشكل مباشر- على كفر الكافرين بالساعة، والمقطع الثاني ردّ على كفر الكافرين بالساعة من خلال الردّ عن شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمقطع الثالث ردّ على كفر الكافرين بالساعة من خلال الردّ عن القرآن الكريم.
بدأ المقطع الأول بقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ.
وبدأ المقطع الثاني بقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ.
وبدأ المقطع الثالث بقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.
فأنت ترى أن الكلام عن اليوم الآخر ورد في بداية المقاطع الثلاثة، إما بشكل متفرد، وإما في معرض الكفر بالرّسول أو بالقرآن؛ فدل ذلك على ارتباط موضوع اليوم الآخر بموضوع الرسالة والقرآن، وفي كل ذلك رأينا ارتباط هذه الأمور بموضوع الإيمان بالله، ومن ثمّ ندرك صلة السورة بمحورها: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ
أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
…
وإذ كان محور السورة هو هذه الآية، فالسورة حدثتنا عن استحقاق الله عز وجل للحمد، كما حدّثتنا عن طريق الحمد وعاقبته، كما حدّثتنا عن الكفر ونماذجه وعاقبة أهله من خلال الدعوة إلى الإيمان بالآخرة، الذي هو الشرط الرئيسي للشكر، ومن خلال الإيمان بالقرآن، الذي هو الدليل على طريق الشكر، ومن خلال الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو القدوة في الشكر، والذي أنزل عليه القرآن الكريم للإنذار والتبشير باليوم الآخر.
…
وهاهنا نحب أن ننبه على فكرة حول موضوع السورة القرآنية ومحورها.
إنّ محاور السور في سياقها، وفي موضعها تؤدي دورها بشكل كامل، وهي في الوقت نفسه مفصّلة تفصيلا كاملا، ثمّ تأتي السور فتفصّل هذه المحاور تفصيلا بعد تفصيل، خذ مثلا قوله تعالى في سورة البقرة:
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
لقد أدت الآيتان دورهما الكامل في الإنكار على الكفر والتعجيب منه، وفي إقامة الحجة على أهله بشكل واضح، وبيّن ومفصّل.
فعند ما تأتي سورة الأنعام تفصّل في هذا المحور، أو تأتي سورة سبأ وفاطر، فتفصلان في هذا المحور، فإنّ معاني جديدة سترد، هي من ناحية تفصيل للمحور، وهي من ناحية أخري تؤدي أدوارا، وتكمّل بناء، فآيتا سورة البقرة ذكرتا الرجوع إلى الله كمسلّمة، ولكن هذه المسلّمة ليست مسلّمة في منطق الكافرين، ومن ثمّ فعند ما تأتي سورة سبأ تجدها تقيم الدليل على هذه المسلّمة، وتذكر موقف الكافرين منها، وتردّ عليهم بأساليب وطرق شتى، فليست سورة سبأ- بالنسبة لمحور السورة إذن- تفصيلا حرفيا، بل الأمر أوسع من ذلك وأبعد؛ فالسورة تفتح آفاقا جديدة،
وتذكر أشياء جديدة، وتبيّن معاني جديدة، ولكنها كلها تصبّ في خدمة محور السورة على طريقة في التفصيل ليست معهودة للبشر.
…
إنك عند ما تقرأ سورة سبأ مثلا تجد فيها أن الرجوع إلى الله مسلّمة وبديهية، وتجد أن الشكر لله مسلّمة وبديهية، وتجد أن كفران نعم الله مستنكر ومتعجب منه، كل هذا تخرج منه من خلال قراءتك للسورة، وكل هذه المعاني مستكنّة في محور السورة من سورة البقرة، ولكن هل تجد أي تشابه بين هذا التفصيل في السورة، وبين أي نوع من التفصيل للمعاني المجملة التي عرفها البشر، أو يمكن أن يفكّر فيها البشر، إن هذا وحده- لمن تأمّله وعقله كاف ليعرف الإنسان أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من بشر، بل هو من عند الله الحكيم الخبير، الغفور الرحيم.
…
إن سورة سبأ سلّطت الأضواء بشكل كامل على صلة الإيمان باليوم الآخر بموضوع شكر الله، كما سلّطت الأضواء على ارتباط الإيمان باليوم الآخر بموضوع الإيمان بالله، كما أرتنا صلة الإيمان بالله والرسول والقرآن بموضوع اليوم الآخر، فالسورة تحدثت عن هذه القضايا كلها وصلاتها ببعضها.
وقد رأينا في السورة كيف يعالج القرآن الكريم قضايا العقيدة، فليكن لنا في ذلك دروس.
…
إن طريقة القرآن في المعالجات والعرض طريقة معجزة، والمعاني التي يعرضها القرآن هي في بابها معجزة، فأنت عند ما ترى القرآن يحدّثك بأروع البيان عن حال الكافرين في الآخرة بما لا يمكن أن يخطر ببال بشر، ثم يكون بجانب هذا حديث عن أدق خلجات النفس البشرية ثم يكون بجانب هذا حديث عن كليات هذا الوجود، وجزئياته، ثمّ يكون هذا كله مرتبطا بمحور ضمن وحدة كلية للقرآن، فإذا لم يكن هذا كله معجزا فما هو المعجز؟.
***