الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين الحافظ الكبير ثقة الدين أبو القاسم ابن عساكر
فخر الشافعية، وإمام أهل الحديث في زمانه، وحامل لوائهم صاحب تاريخ دمشق، وغير ذلك من المصنفات المفيدة المشهورة، مولده في مستهل سنة تسع وسبعين وأربع مائة، وسمعه أخوه أيضًا ابن هبة الله في سنة خمس وخمس مائة، وبعدها من الشريف أبي القاسم النسيب، وأبي القاسم قوام بن زيد، وأبي الحسن سبيع بن قيراط، وأبي طاهر ابن الحباني، وأبي الحسن بن الموازيني، ثم سمع بنفسه بدمشق من جماعة، ثم رحل إلى بغداد سنة عشرين، وحج منها سنة إحدى وعشرين، وسمع بمكة، وعاد إليها فأقام بها خمس سنين يشتغل ويحصل ويسمع ويتفقه بالنظامية ويعلق مسائل الخلاف على أبي سعد إسماعيل بن أبي صالح
المؤذن، ثم رجع بعلم جم، وسماعات كثيرة، ثم عاد إلى الرحلة في سنة تسع وعشرين إلى خراسان وأصبهان وغيرهما من البلدان، وبقي نحو أربع سنين، ورجع بكتب عظيمة ومسندات وسنن وأجزاء كثيرة، وبعد تلك السنين رجع وقد سمع من مشايخ كبار وصغار نحوا من ألف وثلاث مائة شيخ وثمانين امرأة ونيف.
وقد حدث بأصبهان وخراسان وبغداد وغيرها من البلاد، وسمع منه جماعة من كبار الحفاظ كأبي يعلى الهمذاني، وأبي سعد السمعاني، وروى عنه ابنه القاسم، وبنو أخيه فخر الدين،
وأبو منصور، وزين الأمناء، وعبد الرحيم، وعز الدين النسابة محمد ابن تاج الأمناء الحافظ، وأبو المواهب بن صصرى، وأخوه أبو القاسم بن صصرى، والحافظ عبد القادر الرهاوي، والقاضي أبو القاسم ابن الحرستاني، والقاضي أبو نصر بن الشيرازي، ومحمد ابن أخي الشيخ أبي البيان، والبهاء علي بن الحرني، وخلق كثير وجم غفير.
قال الحافظ أبو سعد السمعاني في تاريخه: كثير العلم، غزير الفضل، حافظ ثقة متقن دين خير، حسن السمت، جمع بين معرفة المتون والأسانيد، صحيح القراءة، مثبت خير، ورحل وتعبد وبالغ في الطلب إلى أن جمع ما لم يجمع غيره، وأربى على أقرانه وصنف التصانيف، وخرج التخاريج، وشرع في تاريخ لدمشق، وقال ابنه الحافظ أبو القاسم: كان أبي رحمه الله مواظبًا على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن، يختم في كل جمعة ويختم في رمضان في كل يوم، ويعتكف في المنارة الشرقية، ويحيي ليلة النصف والعيدين بالصلاة والذكر، وكان كثير النوافل والأذكار، يحاسب نفسه على لحظة تذهب في غير طاعة، وقال لي:
لما حملت بي أمي رأت في منامها قائلًا يقول لها: تلدين غلاما يكون به شأن، قال: وحدثني أن أباه رأى رؤيا معناها يولد لك ولد يحيي الله به السنة، قلت: تصديق هذه الرؤيا ما جلب إلى الشام من كتب الإسلام المشهورة كمسند الإمام أحمد، ومسند أبي يعلى الموصلي وغير ذلك من المسانيد الكبار والصغار، قال: وحدثني أبي قال: كنت يومًا أقرأ على أبي الفتح المختار بن عبد الحميد وهو يتحدث مع الجماعة، فقال: قدم علينا أبو علي بن الوزير، فقلنا: ما رأينا مثله، ثم قدم علينا أبو سعد السمعاني فقلنا: ما رأينا مثله، حتى قدم
علينا هذا فلم نر مثله، وقال الحافظ الرئيس أبو المواهب بن
صصرى: أما أنا فكنت أذاكره في خلواته عن الحفاظ الذين لقيهم، فقال: أما ببغداد، فأبو عامر البغدادي، وأما بأصبهان فأبو نصر اليونارتي، لكن إسماعيل الحافظ كان أشهر منه، فقلت له: فعلى هذا ما رأى سيدنا مثله فقال: لا تقل هذا، قال الله تعالى:{فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32]، قلت: وقد قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] قال: نعم لو قال قائل: إن عيني لم تر مثلي لصدق، قال أبو المواهب: وأنا أقول: لم أر مثله ولا من اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة من لزوم الصلوات في الصف الأول إلا من عذر، والاعتكاف في رمضان،
وعشر ذي الحجة، وعدم التطلع إلى تحصيل الأملاك، وبناء الدور قد أسقط ذلك عن نفسه، وأعرض عن طلب المناصب من الإمامة والخطابة وإياها بعد ما عرضت عليه، وقلة التفاته إلى الأمراء، وأخذ نفسه بالأمر والنهي عن المنكر، لا يأخذه في الله لومة لائم، ثم قال لي: لما عزمت على التحديث، الله مطلع أنه ما حملني على ذلك حب الرياسة والتقدم بل قلت: متى أروي ما جمعت ويأتي بفائدة أخلفه بعدي صحائف، فاستخرت الله، واستأذنت أعيان شيوخي، ورؤساء البلد، وطفت عليهم فكل قال: ومن أحق بهذا منك؟ ، فشرعت في ذلك ثلاث وثلاثين، وذكره ابن النجار في تاريخه فقال: هو إمام المحدثين في وقته،
ومن انتهت إليه الرياسة في الحفظ والإتقان والمعرفة التامة بعلوم الحديث والثقة والنبل، وحسن التصنيف والتجويد والثقة، وبه ختم هذا الشأن.
روى عنه جماعة في حياته سماعًا وإجازة، قال: وقرأت بخط الحافظ معمر بن الفاخر في معجمه، أخبرني أبو القاسم علي بن الحسن الدمشقي الحافظ من لفظه بمنى إملاء يوم النحر الأول، وكان أحفظ من رأيت من طلبة الحديث والشأن، وكان
شيخنا الإمام إسماعيل بن محمد يفضله على جميع من لقيناهم من أهل أصبهان وغيرها، وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي: سمعت أبا الخير البستي، يقول: سمعت أبا محمد المنذري الحافظ، يقول: سألت شيخنا علي بن المفضل الحافظ عن أربعة تعاصروا أيهم أحفظ.
فقال: من؟ قلت: ابن ناصر وابن عساكر، فقال: ابن عساكر، فقلت: الحافظ أبو موسى المديني، وابن عساكر؟ فقال: ابن عساكر، فقلت: الحافظ أبو طاهر السلفي، وابن عساكر؟ فقال: السلفي شيخنا، السلفي شيخنا.
قال الذهبي: معناه أنه وقر شيخه أن يصرح بابن عساكر أحفظ منه وإلا فهو أحفظ منه، وما رأى ابن عساكر مثل أبي حازم بذلك، قال: وكذلك رأيت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يميل إلى ذلك، قال: وقرأت بخط عمر بن الحاجب قال: حكى لي من أثق به أن الحافظ عبد الغني، قال: الحافظ ابن عساكر برجال الشام أعرف من البخاري بهم، وندم على ذلك السماع منه ندامة كلية رحمهما الله وأكرم مثواهما، وقال الحافظ أبو محمد عبد القادر الرهاوي: رأيت الحافظ السلفي، والحافظ أبا يعلى الهمذاني، والحافظ أبا موسى المديني ما رأيت فيهم مثل ابن عساكر، قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي: ومع
جلالته وحفظه يروي الأحاديث الواهية، والموضوعة ولا يبينها، وكذا كان عامة الحفاظ الذين بعد القرون الثلاثة إلا ابن ساريك، أبعده الله عن ذلك، وأي فائدة في معرفة الرجال، ولمصنفات التاريخ والجرح والتعديل إلا كشف الحديث المكذوب وهتكه، وتبين أمره لئلا يروج على من لا يعلم، قلت: لقد صدق أثابه الله في هذا وبر ورشد وأنزل
من هذا بدرجات من يحتج بذلك مع علمه أو بجاهله فيدخل فاعل ذلك في قول القائل:
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة
…
وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
قال: وله شعر جيد عقيب مجالسه فمنه:
أيا نفس ويحك جاء المشيب
…
فماذا التصابي وماذا الغزل
تولى شبابي كأن لم يكن
…
وجاء مشيبي كأن لم يزل
فيا ليت شعري ممن أكون
…
وما قدر الله لي في الأزل
قال ابن الحافظ أبو محمد القاسم: توفي رحمه الله في حادي عشر رجب سنة إحدى وسبعين وخمس مائة، وحضر الصلاة عليه السلطان صلاح الدين، وصليت عليه في الجامع، والشيخ قطب الدين في الميدان الذي يقابل المصلى، ودفن بمقبرة باب الصغير، ورأى له جماعة منامات حسنة، ورثي بقصائد رحمه الله وأكرمه.
ومن مصنفاته المشهورة: التاريخ الكبير ثمان مائة جزء في ثمانين مجلدا، الموافقات اثنان وسبعون جزءا، الأطراف للسنن الأربعة
ثمانية وأربعون، عوالي مالك أحد وثلاثون، الثاني لحديث مالك العالي وغرائب مالك عوالي سبعة مجلدات، وعوالي الثوري مجلدان، معجم شيوخه اثنا عشر مجلدا، مناقب الشبان خمسون مجلدا، فضل أصحاب الحديث أحد عشر، والسباعيات سبعة، تبيين كذب المفترى على الشيخ أبي الحسن الأشعري مجلد، ذكر ترجمة حسنة للأشعري وطبقات أصحابه إلى زمانه، وذكر اعتقاده من كتابه الإبانة وغيرها من الكتب التي صار إليها الأشعري بعد رجوعه عن الاعتزال، ونزوعه طريقة أهل السنة
والاعتدال، ورد فيه على من رماه بالعظائم، ومن مناقبه وما يريه على الفضائل والعزائم.
وبالجملة فهو كتاب نافع يحتاج إلى الوقوف عليه كل فاضل بارع، وكتاب الزهادة في ترك الشهادة مجلد، فضل المحمد مجلد، فضل عاشوراء ثلاثة أجزاء، الأربعون الطوال، الأربعون الجهادية، الأربعون البلدية، الأربعون الأبدان، كتاب الزلازل ثلاثة أجزاء كبيرة متفرقة في فضائل البلدان ومن أحاديث أهلها، وله أربع مائة مجلس، وثماني مجالس في فنون شتى وفوائد كثيرة، وخرج لشيخه جمال الإسلام مشيخة، ولجماعة من مشايخه وأصحابه تاريخ كبير، وخرج في آخر عمره لنفسه كتاب الأبدال، ولم يتمه ولو تم لجاء في نحو مائتي جزء.
وقد تولي مشيخة دار الحديث النورية، وأملى على كرسي الحديث الذي بها، وله فيه مجلس مفيد ونظم نضيد في العربية وبرع فيها، إذ كان ما يمليه في خالص العنبر وتعينه وتبدله، فكان أولى من وضعت له دار الحديث، وأفضل من جلس في زمانه للإملاء والتحديث، فرحمه الله وأكرم مثواه.