الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لفنون الفلسفة بارعا في أصول الفقه، مفرط الذكاء فصيح الركان، كأنه لم يناظر أحدًا إلا أربى عليه، وكان علمه من أكثر عقله، قال فخر الدين المارديني: ما أدل هذا الشاب وأفصحه إلا أني أخشى عليه لكثرة نهوله، وانبهاره هلاكه، وذكر أن الفقهاء لما قربه الملك الظاهر غازي صاحب حلب قاموا عليه، وكتبوا إلى الملك الناصر صلاح الدين أنه يخشى أن يفسد عقيدة ولده غازي، فكتب صلاح
الدين إلى ولده الظاهر غازي بخط القاضي الفاضل أنه لا بد من قتله، ولا سبيل إلى أن يطلق ولا ينفى بوجه، فلما لم يبق إلا قتله، اختار هو أن يترك في بيته حتى يموت جوعا، ففعل به ذلك في أواخر سنة ست وثمانين، وعاش ستا وثلاثين سنة، قلت: إنما ذكرته في الطبقات ليعرف حاله، وليفرق بينه وبين الشيخ شهاب الدين السهروردي شيخ الصوفية، وأحد الصالحين الآتي ذكره في الطبقة التاسعة، وله من المصنفات التلويحات اللوحية والعرشية، وكتاب هياكل النور، وكتاب المعارج، وكتاب حكمة الإشراق، وكتاب المطارحات، وكتاب اللمحة وغير ذلك من الكتب المشتملة على الفلسفة، وعلم الأوائل التي
ساقها، قدر الله بسببها إلى قتله، وجعله مثلة بين الناس يرتدع به من كان على طريقته، ومنهجه، ولو أنه اقتفى بالآثار النبوية والأخبار المصطفوية المنقولة بالسند الصحيح عن خير البرية لأحسن من هذه البلية ولرفع يوم القيامة إلى الجنة العلية، ولكن كان ما وقع به مقدورًا، وكان على جبينه مسطورا.
الملك الناصر صلاح الدين يوسف
فاتح بيت المقدس، وباني الآثار الحسنة، وناصر الدين أسكنه الله تعالى الجنة بمنه وكرمه يوسف بن الأمير نجم الدين أبي المظفر أيوب بن شادي بن مروان بن يعقوب الديلي.
الملك الناصر صلاح الدين الذي فتح بيت المقدس من أيدي
الكفرة اللئام، ومن عبدة الصلبان والأوثان، بيض الله وجهه وأعلى درجته في منازل الجنان، كان مولده بتكريت وأبوه متولي قلعتها سنة ثنتين وثلاثين وخمس مائة، ثم قدموا حلب، فكانوا تحت كنف الأتابكي زنكي ملكها والد نور الدين الشهيد، وتربى صلاح الدين يوسف في خدمة عمه أسد الدين شيركوه وباشر والده نجم الدين أيوب نيابة بعلبك، ثم لما تملك نور الدين بعد أبيه سنة إحدى وأربعين، وترعرع صلاح الدين في أتابكية دمشق، وكان فيه إذ ذاك لعب وشرب، فلما دخل مع عمه إلى الديار المصرية لنجدة العاضد بسفارة شاور الوزير، وكان
من أمورهم ما هو مبسوط في غير هذا الموضع وقيل شاور المذكور، استوزر العاضد أسد الدين شيركوه، فلم يلبث فيها إلا قريبًا من شهرين حتى مات، فتولى صلاح الدين يوسف الوزارة بمصر للعاضد، وعاهد الله وتاب مما كان فيه وأناب، وسعى في الإصلاح وسداد الأمور، وأمر الخطباء بذكر الخليفة العباسي أمير المؤمنين المستضيء بأمر الله، ففعل ذلك بعد العاضد، ثم قدمه عليه في الذكر، ثم أمر بترك ذكر العاضد ففهم العاضد إيلافه وذهابه، فعاجل نفسه وتحسى سُمًّا حتى مات، وزال بموته ملك الفاطميين عن الديار المصرية وغيرها من البلاد ولله الحمد، قال الشاعر:
توفي العاضد المدعى
…
فما يفتح دريدعه فما
وعصر فرعونها انقضى
…
وإلى يوسفها في الأمور محتكما
فلما كان ذلك مكن الله تعالى وله الحمد الملك صلاح الدين
يوسف في البلاد، وتسلم الحواصل العاضدية بل الفاطمية بدمها، وما فيها من الأموال، والتحف، والكتب العظيمة التي لم تجد في الأقاليم مثلها، على ما ذكره الشيخ شهاب الدين أبو شامة في الروضتين، قلت كتب الملك صلاح الدين إلى نور الدين الشهيد بما وقع، وبعث بالهدايا العظيمة، والتحف العزيزة، وذلك في سنة سبع وستين، وجرت أمور يطول ذكرها، وابتنى صلاح الدين سور القاهرة ومصر، وبيتا بمباشرة الأمير قراقوش الخادم، ثم لما توفي الملك نور الدين سنة سبع وستين، وترك بعده في المملكة ولده الصالح إسماعيل، وهو صغير ابن
إحدى عشرة سنة، ففسد نظام الدولة بسبب صغر الملك، ودخل في الأمور الأمراء، وأطمعت الفرنج في الأطراف، وركب صلاح الدين إلى دمشق سنة سبعين فأخذها، وأقر حلب بيد ابن نور الدين مع مشارفة الأمور، وأمر ببناء قلعة على جبل المقطم بمصر سنة ست وسبعين، وفي سنة ثمان وسبعين عبر الفرات، وفتح حران، وسروج، والرها، والرقة، والبيرة، وسنجار، ونصيبين، وآمد، وحاصر الموصل، وملك حلب، وتسلم التواريخ، وسهروز، وفي سنة ثلاث وثمانين فتح طبرية، ونازل عسقلان، وكسر فيها الفرنج كسرة عظيمة على حطين، وأخذ صليبهم الأعظم عندهم، وكان الفرنج أربعين ألفا فقتل من نجا منهم، وقتل الرئيس
صاحب الكرك، ولاحق ما سبق منه من السب للجناب النبوي وأوقعه الله في أسر صلاح الدين، وكان قد نذر قتله فأمنكه الله منه وسار، فأخذ بيروت وعكا وقلعة لولب والسواحل.
وسار فأخذ القدس يوم الجمعة، فكان يوما مشهودا عظيما جدًا عمري المعنى، وكان أخذه إياها صلحا بعد قتال ليس بشديد، وكان هذا الفتح من أكبر سعاداته الدنيوية والأخروية،
وصار علما عليه لا يعرف ولا يميز إلا به، ويا حبذا صلاح الدين الذي فتح القدس، ومن فتوحاته أيضًا الكرك، ونابلس، وصيدا، وحصون كثيرة يطول ذكرها، ثم غالب ملة الفرنج على صلاح الدين انتصارا لصليبهم الأصغر، وجاءوا وحاصروا عكا، وجاء صلاح الدين لاستنفاذهم لحصرهم وحصروا، وفر المسلمون وجرت لهم حروب وخطوب يطول ذكرها، وقد أحسن إيرادها الشيخ شهاب الدين في الروضتين، فمكث لذلك قريبًا من ثلاث سنين إلى أن
حبل صبره رحمه الله، ثم استمرت يد الفرنج عليها، ففتحوها في يوم الجمعة، فإنا الله وإنا إليه راجعون.
فرجع صلاح الدين إلى دمشق كئيبا ومرض فقصده من لا خبرة له فلم يستمر في مرضه سوى أربعة أيام حتى مات رحمه الله بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة تسع وثمانين وخمس مائة بقلعة الجبل، وكان يوما عظيما على المسلمين كثر فيه البكاء والعويل والضجيج، وبكى أهل الأقاليم والآفاق حتى بكته الفرنج لحسن وفائه، وصدق عهوده رحمه الله فغسله الدولعي، وأخرج في تابوت، وصلى عليه القاضي فخر الدين ابن المزكي، وأعيد إلى الدار التي في البستان التي كان متمرضا فيها، ودفن في الصفة الغربية منها، ثم ولده الملك الأفضل على صاحب دمشق له قبة شمالي جامع دمشق،
ونقله إليها يوم عاشوراء من سنة ثنتين وتسعين، ومشى بين يدي تابوته، وأراد العلماء حمله، فقال: بل نريد منكم الدعاء، فصلى عليه عند باب السر القاضي فخر الدين أيضًا بإذن ولده السلطان الملك الأفضل، ودخل ولده لحده، وجلس هناك للعزاء ثلاثة أيام.
وكان رحمه الله حسن الخلق كريما شجاعا معظما حسنا عفيفا، توفي وليس في
خزنته سوى سبعة وأربعون درهما ودينارا صوري، وكان يحفظ الحماسة، وسمع الحديث من السلفي، والقطب النيسابور، وعبد الله بن بري وجماعة، وحدث وأسمع بين الصفين في مكان لم يسمع أحد فيه، وكان كثير الهيبة والمحبة للعلماء لا يخالف في رعيته، وكان الجيش يتشبهون بأخلاقه، وشمائله، وظرفه، وعلو سمته، وهديه، وحصل له من الملك ما لم يحصل لأحد ممن بعده من هؤلاء الأتراك من ملك الديار المصرية واليمن وأطراف المغرب، ودمشق، وحلب، والجزيرة، وكثيرا من الأقاليم والحصون والقلاع، وترك أولادا كثيرة منهم العزيز
عثمان صاحب مصر، والأفضل علي بدمشق، والظاهر غازي بحلب، فلما مات العزيز تملك الديار المصرية عمه الملك العادل أبو بكر بن أيوب، ثم جاء فأخذ دمشق من الأفضل علي، وأعطاه صرخد، وأقر الظاهر بحلب، لأجل أنه كان زوج ابنته غازية، ثم صار الملك في ذرية العادل إلا بحلب على ذرية صلاح الدين، أي كان آخرهم الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن العزيز بن الظاهر فتملك دمشق آخرا وبنى بها الناصر بيتين البرانية والجوانية، ثم تغير حال بني أيوب، وزال عنهم الملك، وصدق فيهم قول القاضي الفاضل: أنفق من مالك قبل البلاء، فملكوا، وحاصل القضية أنه افتتح ملك بني أيوب صلاح الدين يوسف،
وختم ملكهم لصلاح الدين يوسف ولله الأمر من قبل ومن بعد {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26] .