الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الترغيب في الصدقة والحث عليها وما جاء في جهد المقل
ومن تصدق بما لا يجب
1 -
عنْ أبي هُريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: منْ تصدَّق بعدْلِ (1) تَمرةٍ منْ كَسْبٍ طيِّبٍ (2)، ولا يَقْبل الله إلا الطَّيِّبَ، فإنَّ الله يَقْبَلُها (3) بيمينهِ (4)،
ثمَّ يربِّيها لصاحبها كما يُربِّى أحدُكُمْ فلُوَّهُ (5) حتى تكون مثل الجبلِ. رواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه.
2 -
وفي روايةٍ لابنِ خُزيمة: إنَّ العبد إذا تصدَّق منْ طيِّبٍ تقبَّلها الله منْهُ، وأخذها بيمينهِ فرَبَّاها كما يُربِّى أحدكمْ مهْرهُ أوْ فصيلهُ (6)، وإنَّ الرَّجل ليتصدق بالقمةِ فتْربو في يد الله، أوْ قال في كفَّ الله حتى تكون مثْلَ الجبلِ فتصدَّقوا.
3 -
وفي روايةٍ صحيحةٍ للتَّرمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله يقْبلُ الصَّدقة، ويأخذها بيمينه فيُربِّيها لأحدكمْ كما يربِّى أحدكم مُهْرهُ حتى إنَّ اللقمة لتصير مثل أحدٍ، وتصْديق ذلك في كتاب الله: ألمْ يعْلَموا أنَّ الله هو يقبل التَّوبةَ عن عبادهِ،
(1) مقدار.
(2)
حلال
(3)
كذا ط وع ص 292، وفي ن د: يتقبلها.
(4)
قال المازري: قد ذكرنا استحالة الجارحة على الله سبحانه وتعالى، وأن هذا الحديث وشبهه إنما عبر به على ما اعتادوا في خطابهم ليفهموا فكنى هنا من قبول الصدقة بأخذها في الكف، وعن تضعيف أجرها بالتربية، قال القاضي عياض: لما كان الشيء الذي يرتضي ويعز يلتقي باليمين، ويؤخذ بما استعمل في مثل هذا واستعير للقبول والرضا كما قال الشاعر:
إذا ما راية رفعت لمجد
…
تلقاها عرابة باليمن
قال: وقيل: عبر باليمين هنا عن جهة القبول والرضا إذ الشمال بضده في هذا. قال: وقيل: المراد بكف الرحمن هنا، ويمينه كف الذي تدفع إيه الصدقة، وإضافتها إلى الله تعالى إضافة ملك واختصاص لوضع هذه الصدقة فيها الله عز وجل. قال: وقد قيل في تربيتها وتعظيمها حتى تكون أعظم من الجيل أن المراد بذلك تعظيم أجرها، وتضعيف ثوابها. قال: ويصح أن يكون على ظاهره، وأن تعظيم ذاتها، ويبارك الله تعالى فيها، ويزيدها من فضله حتى تثقل في الميزان نحو قول الله تعالى:(يمحق الله الربا ويربى الصدقات). أهـ ص 99 جـ 7.
(5)
مهره - سمي بذلك، لأنه فلى عن أمه: أي فصل وعزل.
(6)
الفصيل: ولد الناقة إذا فصل في إرضاع أمه، ومعنى الله طيب: أي منزه عن النقائص، وهو بمعنى القدوس، وأصل الطيب: الزكاة والطهارة والسلامة من الخبث، والله أعلم.
ويَاخذ الصَّدقاتِ (1)،
ويمْحَقُ الله الرِّبا ويُرْبي (2) الصدقات. ورواه مالك بنحو رواية الترمذي هذه عن سعيد بن يسار مرسلا، لم يذكر أبا هريرة.
(إن العبد ليتصدق بالكسرة تربو عند الله عز وجل حتى تكون مثل أحد)
4 -
وعنْ عائشة رضي الله عنها عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ الله ليُربِّي لأحدكمُ التَّمرة والَّقمة (3) كما يربِّي أحدكم فلوَّه، أوْ فصِيلهُ حتى تكون مثل أحدٍ. رواه الطبراني وابن حبان في صحيحه، واللفظ له.
(الفلوّ) بفتح الفاء، وضم اللام، وتشديد الواو: هو المهر أول ما يولد.
(والفصيل): ولد الناقة إلى أن يفصل عن أمه.
5 -
وروي عنْ أبي برْزَةَ الأسْلميِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ العبد ليتصدَّق بالكسرةِ (4) تربو عند الله عز وجل حتى تكون مثل أحدٍ. رواه الطبراني في الكبير.
(6)
وروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل ليُدْخل بالُّلقمة (5) الخُبْزِ، وقبْصَةِ والتَّمْرِ، ومثلهِ مما ينتفع بهِ
(1) قال تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم 104 ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة من عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم 105 وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون) 106 من سورة التوبة.
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ من المسلمين صدقة (تطهرهم) من الذنوب، وحب المال، وتمنى بها حسناتهم، وترفعهم إلى منازل المخلصين (وصل عليهم) واعطف عليهم بالاستغفار لهم والدعاء (إن صلاتك سكن لهم) تسكن إليها نفوسهم وتطمئن بها قلوبهم وجمعها لتعدد المدعو لهم (ويأخذ الصدقات) يقبلها قبول من يأخذ شيئاً ليؤدي بدله سبحانه من شأنه قبول توبة التائبين، والتفضل عليهم أهـ بيضاوي.
اللهم إنا نتوجه إليك بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقبل توبتنا، فكما أن الصدقة المعطاة بإخلاص لك، ومحبة في ثوابك تقبل، كذلك نتوسل إليك بمحبتنا إلى سندنا الأقوى وحبيبنا وقرة عيوننا أن تتفضل علينا بالرحمة والقبول، وتهب لنا توفيقاً يزيدنا طاعة وإقبالا على الصالحات بمنك وكرمك.
(2)
يضاعف ثوابها، ويبارك في مال معطيها
(3)
يعني أن الصدقة وإن قل قدرها مثل اللقمة: (القطعة من طعام) يضاعف الله أجرها حتى توازي الجبل المعروف بمكة. وفيه الحث على الإنفاق، وإن قل وإعطاء المسكين شيئاً ولو حقر مثل التمرة.
(4)
القطعة من الخبز - والكسرة: القطعة من الشيء المكسور.
(5)
كذا د وع ص 292، وفي ن طـ: بلقمة أي يسبب دخول الجنة، وكسب نعيم الله، ونيل رضوانه لثلاثة: =
المسكين ثلاثة: الجنَّة ربَّ البيتِ الآمر به، والزَّوجة تُصلحهُ، والخادم الذي يناولُ المسكين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمْد لله الذي لمْ ينس خدمنا. رواه الحاكم والطبراني في الأوسط، واللفظ له في حديث يأتي بتمامه إن شاء الله.
(القبصة) بفتح القاف وضمها، وإسكان الباء، وبالصاد المهملة: هو ما يتناوله الآخذ برءوس أنامله الثلاث.
(ما نقصت صدقة من مال)
7 -
وعنْ أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما نقصتْ صدقة من مالٍ، وما زاد الله عبْدا بعفوٍ إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل. رواه مسلم والترمذي، ورواه مالك مرسلا.
8 -
وروى عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما يرفعه قال: ما نقصتْ صدقة منْ مالٍ، وما مدَّ عبْد يدهُ بصدقةٍ إلا ألْقيت في يد (1) الله قبْلَ أن تقع في يد السَّائل، ولا فتح عبدٌ باب مسْئلةٍ (2) له عنها غني إلا فتح الله له باب فقرٍ (3). رواه الطبراني.
9 -
وروي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيُّها النَّاس توبا إلى الله قبل أن تموتوا وبادروا بالأعمال الصَّالحة قبل أن تشغلوا وصلوا الذي بينكم وبين ربِّكمْ بكثرة ذكركمْ له (4)، وكثرة الصَّدقة في السِّرِّ والعلانية ترْزقوا وتنصروا وتجبروا (5). رواه ابن ماجه في حديث تقدم في الجمعة.
= أ - صاحب المنزل الآمر الذي يسمح.
ب - الزوجة التي تساعد.
جـ - الخادم.
(1)
الله تعالى منزه من مشابهة الحوادث، وليست له يد بالمعنى المفهوم من يدنا، وإنما هذا لتقريب الأفهام، إن الله يعطف بالرحمة على المعطى، ويزيده كرامة، ويمده بإحسان، ويضاعف ثوابه، ويقبل عليه برعايته وبركاته.
(2)
سؤال
(3)
ذلة وضعة وشره نفس وطمع.
(4)
أي داوموا على ذكر الله وحمده وتسبيحه واستغفاره، والصلاة على حبيبه صلى الله عليه وسلم.
(5)
يبين صلى الله عليه وسلم أن الإنفاق لله يجلب سعة الرزق، ويقضي الحاجات، ويكون سبب الفوز والنجاح والشفاء، ونيل المأمول، ومعنى تجبروا: تجب دعواتكم وتغتنوا، وفي النهاية (وفي حديث الدعاء) (واجبرني واهدني): أي أغنني، من جبر الله مصيبته: أي رد عليه ما ذهب منه وعوضه، وأصله من جبر الكسر أهـ وفي أسماء الله تعالى الجبار: أي الذي يقهر العباد على ما أراد من أمر ونهى، وقيل: هو العالي فوق خلقه.
10 -
ورُوى عنْ عائشة رضي الله عنها أنَّهم ذبحوا شاةً، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ما بقي منها؟ قالتْ: ما بقي منها إلا كتفها. قال: بقي كله كلُّها غير كتفها (1).
رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، ومعناه: أنهم تصدقوا بها إلا كتفها.
11 -
وعنْ أبي هُريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول العبدُ مالي مالي (2)، وإنَّما له منْ مالهِ ثلاثةٌ: ما أكل فأفني (3)، أوْ لبسَ فأبْلى (4) أوْ أعطي فاقتني (5)
ما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس رواه مسلم.
(1) تصدق صلى الله عليه وسلم بلحم الشاة كلها إلا كتفها القطعة الأمامية فقط، ثم سأل صلى الله عليه وسلم سؤال بداعة وكمال: ما بقي منها؟ وأجاب صلى الله عليه وسلم ليعلم المسلمين أن الذي يذهب لله هو الباقي ثوابه الخالد بنعيمه الجزيل الأجر قال تعالى: (ما عندكم ينفذ وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون 97 من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) 98 سورة النحل، وفيه الحث على الصدقة، والإكثار من الإحسان.
(2)
أحب مالي.
(3)
فأذهب.
(4)
أخلق وتقطع.
(5)
كذا ط وع ص 393، وفي ن د: فأبقى، والمعنى يميل الإنسان إلى جمع المال، ويشتاق إليه، ولكن نصيبه من ماله ثلاثة:
أ - يتنعم به المطعومات ويتذوقه ويتلذذ به.
ب - أنواع الملابس والزينة والمركب والأثاي والأبهة.
جـ - الصدق وتشييد المكرمات، فإذا لم يستفد الإنسان في حياته من هؤلاء فلا فائدة في ماله، وهو ذاهب الى ورثته. قال تعالى:(يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين 31 قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون 32 قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) 33 من سورة الأعراف. (زينة الله) من الثياب، وما يتجمل به كالقطن والكتان والحيوان كالحرير والصوف والمعادن كالدروع (الطيبات) المستلذات من المآكل والمشارب، وفيه دليل على أن الأصل في المطاعم والمبلابس وأنواع التجملات الإباحية (الفواحش) ما تزايد قبحة جهرها وسرها (والإثم) الذنب، وقيل: شرب الخمر (والبغي) الظلم أو الكبر، واجتنبوا الإلحاد في صفاته تعالى سبحانه، والافتراء عليه تهكماً بالكفرة كقولهم: الله أمرنا بها. قال الشاعر:
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت
…
أن السلامة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها
…
إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخير طالب مسكنه
…
وإن بناها بشر خاب بانيها
أين الملوك التي كانت مسلطنة
…
حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها
…
ودورنا لخراب الدهر نبنيها =
12 -
وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّكُمْ مالُ وارثهِ أحبُّ منْ مالهِ؟ قالوا يا رسول الله: ما منَّا أحد إلا ماله أحبُّ إليه قال: فإنَّ ماله ما قدَّم ومال وارثهِ ما أخَّر. رواه البخاري والنسائي.
13 -
وعنْ أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينا رجُل فلا فلاةٍ من الأرض فسمع صوتاً في سحابةٍ: أسقِ حديقة فلانٍ، فتنحَّى ذلك السَّحاب فأفرغ ماءه في حرَّة، فإذا شرجة من تلك الشِّراج قد استوعبت ذلك الماء كلَّه فتتبَّع الماء، فإذا رجل قائم في حديقةٍ يحوِّل الماء بمساحته، فقال له عبد الله ما اسمك؟ قال: فلان للاسم الذي سمع في السَّحابة، فقال له: يا عبد الله لم سألتني عن اسمي. قال: سَمِعْتُ في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسْقِ حديثة فلانٍ لاسمكَ فما تصْنع فيها: قال أما إذا قلْتَ هذا، فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثهِ وآكل أنا وعيالي ثلثهُ، وأردُّ ثلثه (1).
رواه مسلم.
= وقال آخر:
غداً توفى النفس ما كسبت
…
ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم
…
وإن أساءوا فبئس ما صنعوا
(1)
يقص لك صلى الله عليه وسلم حكاية المتصدق (فأتصدق بثلثه) يسوق الله له غيثاً، ويبعث له مطراً ويرسل له مساء مسخراً من قبل الله يتوجه لزراعة ذلك الرجل الصالح المحسن، وقد أسمعه الله كرامة له صوت ذلك الذين في السحاب:(اسق حديقة فلان) وسط صحراء لا نبات فيها. والدرس من هذا الحديث العذب طلب الإنفاق لله، وكثرة الصدقة، والعمل لله والله يهب الأرزاق، ويعطي البركة للمزكين. قال تعالى:
(وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد).
أين الملحدون المنكرون كرامة الأولياء، وهذا رجل في بستانه شاهد عمله رجل آخر سمع صوتا في السحابة ومشى مع مسيل الماء، فسأل عن صاحب البستان فطابق الاسم المنادي فاستفهم: فما تصنع فيها؟ فأجاب.
أ - ينفق ثلث إيراد الحديقة لله.
ب - وينفق على أهله وأسرته الثلث الثاني.
جـ - ويشتري ما يلزم للزراعة من الثلث الأخير.
هل يتعظ المسلمون بهذا، ملائكة الله تسوق الأمطار لسقي الصالحين، ورى أرضهم، إن من نظام الله البديع أن سخر ملائكته لأعمال اقتضتها حكمته سبحانه، ومنها الموكلون بالسحاب، وقد سمعت الأمر (اسق حديثة فلان). قال تعالى:
أ - (أفرأيتم الماء الذي تشربون 68 أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون 69 لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون) 70 من سورة الواقعة.
فأنت ترى نعم الله العظيمة، ومنها: الماء العذب الذي نشربه ينزلهن الله من السحاب حسب إرادته تفضلا =
(الحديقة): البستان إذا كان عليه حائط.
= على عباده، ولو شاء لجعله ملحاً - من الأجيج الذي يحرق الفم. سبحانه نحمده ونشكر فضله، ومن شكره الإنفاق في الخير، والصدقة على المحتاجين، وعمل البر، وقال تعالى في بيان فضله، ودلائل قدرته.
ب - (أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون) 60 من سورة النمل.
سبحانه لا يقدر على إنبات الحدائق المختلفة الأنواع المتباعدة الطباع غيره، فأنفقوا حباً في ثوابه.
جـ - وقال تعالى: (أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجزر فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون) 27 من سورة السجدة. الجزر: الصحراء.
د - وقال تعالى: (وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهوراً 49 لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا) 50 من سورة الفرقان. (بشرا) مبشرا قدام المطر ليترعرع النبات. أناسي جمع إنسي أو إنسان.
هـ - وقال تعالى: (وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا الموتى لعلكم تذكرون) 57 من سورة الأعراف.
سقت لك هذه الآيات لتعلم أن ماء الأنهار من الله تعالى، وأصله من السحاب عسى أن تتقي الله، وتشكر له سبحانه فضله وإحسانه إليك، وتجتهد في كثرة الإنفاق في عمل البر، وتشييد المكرمات، وفعل الصالحات وترسم أمامك حب الخير، وأداء الزكاة، ووفرة الصدقات، واقتد بذلك الصالح الذي وجه الله له السحاب فسقى زرعه. فحافظوا أيها المسلمون على الإنفاق رجاء وفرة ماء النيل. قال تعالى:
أ - (وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم تظلمون) 60 من سورة الأعراف.
ب - وما تنفقوا من خير يوف إليكم) وأداء الزكاة خلة ثالثة للمتقين الكرماء في قوله تعالى:
جـ - (هدى ورحمة للمحسنين 3 الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون 4 أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون 5) من سورة لقمان وقال تعالى:
د - (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)91. (العدل): حب الحق، والتوسط في الأمور، وتوحيد الله، والجود قال عليه الصلاة والسلام: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). (وإيتاء ذي القربى): وإعطاء الأقارب ما يحتاجون إليه. الفحشاء): الإفراط في متابعة القوة الشهوية كالزنا، فإنه أقبح أحوال الإنسان وأشعنها. (والمنكر): القبيح الذي نهى عنه الشرع، وما ينكر على متعاطيه في إثارة القوة الغضبية (والبغي): الاستعلاء والاستيلاء على الناس، والتجبر عليهم.
وقال تعالى:
هـ - (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون).
أنفق أيها المسلم لتندرج في سلك الذين شملهم برحمته، ولتندمج في عقد المتقين المشمولين برعايته. (اتفقوا) المعاصي. (محسنون) في أعمالهم بالولاية والفضل، أو مع الذين اتقوا الله بتعظيم أمره، والذي هم محسنون بالشفقة على خلقه، ومن الرأفة الزكاة وإخراج الصدقة، وإذا اطلعت على أشعار العرب وجدت المروءة السامية والرغبة في الإحسان، والتفاخر بالجود.
قال دعبل الخزاعي الشاعر المشهور لتعرف موسيقى طربه غليان قدره واعتماده على الله تعالى في طلب الرزق: =
(الحرة) بفتح الحاء المهملة، وتشديد الراء،: الأرض التي بها حجارة سود.
= بانَتْ سُلَيْمى وأَمْسَى حَبْلُهَا انْقَضَبَا
…
وَزَوَّدُوكِ، وَلَم يَرْثُوا لَكَ الْوَصَبَا
قالتْ سلامة ُ: أين المالُ؟ قلتُ لها:
…
المال ـ ويحك ـ لاقى الحمدَ فاصطحبا
الحمدُ فرق مالي في الحقوقِ، فما
…
أبقين ذماً، ولا أبقينَ لي نشبا
قالتْ سلامة ُ: دعْ هذي اللبون لنا،
…
لِصِبْيَة ٍ، مِثْلِ أَفْرَاخِ الْقطا، زُغُبا
قُلْتُ: احْبسِيَها، فَفِيهَا مُتعة ٌ لَهُمُ
…
إنْ لَمْ يُنِخْ طارِقٌ يَبْغي القِرى سَغِبا
لمَّا احتبى الضيفُ واعتلتْ حلوبتها
…
بَكَى الْعِيالُ، وَغَنَّتْ قِدْرُنَا طَرَبا
هذي سبيلي، وهذا ـ فاعلمي ـ خلقي،
…
فارضي به، أو فكوني بعض من غضبا
مَا لَا يَفٌوتُ، وَمَا قَدْ فَاتَ مَطْلَبُهُ
…
فَلَنْ يَفُوتَني الرِّزْقٌ الَّذِي كُتِبا
أسعى لأطلبَه والرِّزقُ يطلبني
…
والرِّزْقُ أَكْثَرُ لِي مِنِّي لَهُ طَلَبا
هل أنتَ واجدُ شيءٍ لو عنيتَ به
…
كالأجرِ والحمد مُرتاداً ومكتسبَا؟
اهـ من الأمالي نوادر ص 99.
وإن الله تعالى بعث لنا النعم لنتمتع بخيراتها وننفق ونأكل على شريطة استعمالها فيما يرضي الله قال تعالى:
أ - (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طمعوا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين) 94 من سورة المائدة.
(فيما طعموا): مما لا يحرم عليهم. (اتقوا) المحرم، وثبتوا على الإيمان، والأعمال الصالحة. (ثم اتقوا) ما حرم عليهم كالخمر. (وآمنوا) بتحريمه. (ثم اتقوا): ثم استمروا وثبتوا على اتقاء المعاصي.
(وأحسنوا): وتحروا الأعمال الجليلة، واشتغلوا بها. قال البيضاوي: باعتبار المراتب الثلاث في المبدأ والوسط والمنتهى. أو باعتبار ما يتقي فإنه ينبغي أن يترك المحرمات توقيا من العقبات والشبهات، تحرزا عن الوقوع في الحرام، وبعض المباحثات تحفظا للنسف عن الحسنة، وتهذيباً لها عن دنس الطبيعة أهـ (المحسنين) فلا يؤاخذهم بشيء. وفيه أن من فعل ذلك صار محسنا، ومن صار محسنا صار لله محبوباً.
وإن من الإحسان العطف على الفقراء. والإنفاق على البائسين، وإخراج جزء من المال لله والمساعدة على فعل البر وإنشاء مشروعات الخير لتكسب المحامد، وهذه تعاليم الله تعالى لبني إسرائيل. قال البيضاوي: إن بني إسرائيل لما فرغوا من فرعون، واستقروا بمصر أمرهم الله سبحانه وتعالى المسير إلى إريحاء من أرض الشام وكان يسكنها الجبابرة الكنعانيون، وقال: إني كتبتها لكم دارا وقرارا فخرجوا اليها، وجاهدوا من فيها، فإني ناصركم، وأمر موسى عليه الصلاة والسلام أن يأخذو من كل سبط كفيلا عليهم بالوفاء بما أمروا به فأخذ عليهم الميثاق، واختار منهم النقباء، وسار بهم، فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون الأخبار، ونهاهم أن يحدثوا قومهم، فرأوا أجراما عظيمة، وبأسا شديداً، فهابوا ورجعوا. وحدثوا قومهم. ونكثوا الميثاق إلى كالب بن يوقنا من سبط يهوذا ويوشع بن نون من سبط أفرانيم بن يوسف - قال تعالى:(وقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسل وعزرتموهم وأقرضتهم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل 13 فيما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين) 14 من سورة المائدة. (وعزرتموهم): نصرتموهم وقويتموهم. (قرضاً حسناً): بالإنفاق في سبيل الخير (لعناهم): طردناهم من رحمتنا، أو ضربنا عليهم الجزية، أو مسخناهم. (قاسية) لا تنفعل عن الآيات والنذر. (مما ذكروا به) من التوراة، أو من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم قال ابن مسعود =
(والشرجة) بفتح الشين المعجمة، وإسكان الراء بعدها جيم، وتاه تأنيث: مسيل الماء إلى الأرض السهلة. (والمسحاة) بالسين والحاء المهملتين: هي المجرفة من الحديد.
14 -
وعنْ عدِّي بن حاتم رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما منْكُمْ من أحدٍ إلا سيُكلِّمهُ الله ليْس بينه وبينهُ ترْجمان (1) فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم، فينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدَّم، فينظر بين يديهِ فلا يرى إلا النَّار تلقاء وجههِ، فاتَّقوا النَّار ولو بشقِّ تمرةٍ (2).
وفي رواية: من استطاع منكم أن يستتر من النَّار ولوْ بشقِّ تمرةٍ فليفعل. رواه البخاري ومسلم.
15 -
وعنْ عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليقِ أحدكم وجههُ النَّار (3) ولوْ بشقِّ تمرةٍ (4). رواه أحمد بإسناد صحيح.
16 -
وعنْ عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة اشتري من النَّار، ولو بشقِّ تمرةٍ فإنَّها تسدُّ من الجائع مسدَّها من الشَّبعان. رواه أحمد بإسناد حسن.
= (قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية). وفيه تنبيه على أن العفو من الكافر الخائن إحسان فضلا عن العفو عن غيره. احتوى الميثاق والمعاهدة على خمس مواد:
أولا: أداء الصلاة. ثانيا: الزكاة. ثالثا: الإيمان بالرسل. رابعا: تأييدهم والعمل بشريعتهم وحبهم. خامساً: الإنفاق في عمل الخير، وتشييد الصالحات.
هذا عهد الله لأولاد آدم يعملون بقرآنه، وإلا أزال نعمته منهم، وسلب فضله، وأخذ خيره وبعث الجهل وفشا الشقاق، وسادت الفوضى، وانتزعت البركة، ووقتئذ تتلى المواعظ فلا تتأثر القلوب، ولا تتعظ الأفئدة (ونسوا حظاً مما ذكروا به). قال الشاعر:
إذا جادت الدنيا عليك فجد بها
…
على الناس طراً إنها تتقلب
فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت
…
ولا البخل يبقيها إذا هي تذهب
(1)
يبين صلى الله عليه وسلم وقوف الإنسان يوم القيامة للحساب ويرى بنفسه جلال الله وعظمته ويدرك هيبته وأنواره فيلتفت يميناً ثم شمالا، فلا يجد إلا عمله في حياته إن خيراً وإن شراً، ثم أمر صلى الله عليه وسلم أن نتجنب نار جهنم في الآخرة ولو بالتصدق بما يوازي نصفص تمرة. وفيه الحث على الصدقة وإن قلت، وفعل الخير، وإن حقر.
(2)
ليجعل له وقاية وحصناً يبعده عن لهب جهنم ولويهم، ويريد الإنفاق وإن قل.
(3)
في ع: من النار.
(4)
تمنع الجوع، وتدعو النفس إلى الجود، وتحثها على عمل الطاعات، وتشوقها إلى الخير وتعودها الإحسان.
17 -
ورُوي عنْ أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعوادِ المنبر يقول: اتَّقوا النَّار ولو بشقِّ تمرةٍ فإنَّها تقيم (1) العِوَجَ، وتدْفعُ ميتة السُّوء وتقع من الجائع (2) موقعها من الشَّبْعان. رواه أبو يعلى والبزار، وقد روي هذا الحديث عن أنس وأبي هريرة، وأبي أمامة، والنعمان بن بشير، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.
18 -
وعنْ جابرٍ رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: لكعْبِ بن عُجْرَة: يا كعْب بن عجْرة: الصَّلاة قُرْبانٌ (3)، والصِّيام جُنَّة (4)، والصَّدقة تُطفي الخطيئة (5) كما يُطفي الماء النَّار، يا كعْب بن عجرة: الناس غاديان (6) فبائع نفسه فموثق رقبته، ومُبْتاع نفسه في عتق رقبتهِ رواه أبو يعلى بإسناد صحيح.
19 -
وعنْ كعْب بن عُجرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا كعْب بنَ عُجْرة إنَّه لا يدخل الجنَّة لحم ودم نبتا على سُحتٍ النَّار أولى به (7).
يا كعب بن عجرة: النَّاس غاديان فغادٍ (8) في فكاكِ نفسه فمعتقها، وغادٍ فموثِقها يا كعبُ يا كعب ابن عجرة: الصَّلاة قربانٌ، والصوم جنَّة، والصدقة تُطفي الخطيئة كما يذهب الجليد على الصَّفا. رواه ابن حبان في صحيحه.
20 -
وعنْ معاذ بن جبل قال: كنْتُ مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فذكر الحديث إلى أن قال فيه: ثم قال: يعني النَّبي صلى الله عليه وسلم: ألا أدُلك على أبواب الخير؟ قلت: بلى (9) يا رسول الله. قال: الصَّوم جُنَّة، والصَّدقة تُطفي الخطيئة كما يطفئ الماء النَّار. رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، ويأتي تمامه في الصمت وهو عند ابن حبان من حديث جابر في حديث يأتي في كتاب القضاء إن شاء الله تعالى.
(1) الصدقة تدل على حسن الخاتمة، وتبعد السومات، وتزيل المكاره.
(2)
وتسد رمق الجائع وتنفعه.
(3)
تقربك إلى رحمة الله وتجلب رضاه.
(4)
وقاية له من السوء.
(5)
تزيل أثر الذنب.
(6)
ذاهبان وقاصدان: أي هما صنفان يعمل ليبعد من جهنم، ويفك أسهر من العذاب. وآخر يعمل سوءاً، ويغضب ربه، فيستحق العذاب ويحق عليه الذل والأسر.
(7)
أكل أموال الناس بالباطل كالرشوة والظلم والسرقة والنهب والمكس وكل مال أخذه بلا طريق شرعي يحرم الله عليه الجنة فلا يدخلها.
(8)
ذاهب لإزالة العذاب بالعمل الصالح في حياته. والثاني ذاهب إلى تمكين عرى الذل، وإدخال جهنم بما يقترفه من الخطايا.
(9)
نعم دلني.
21 -
وعنْ أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الصدقة لتطفئ غضب الرَّبِّ وتدفع ميتة السُّوء (1).
رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: حديث حسن غريب، وروى ابن المبارك في كتاب البر شطره.
الأخير، ولفظه:
(إنَّ الله ليدْرأبالصَّدقة سبعين باباً (2) منْ ميْتة السُّوء).
(ما نقص مال عبد من صدقة)
(يدرأ) بالدال المهملة: أي يدفع، وزنه ومعناه.
(1) الاحسان إلى الفقراء، والإنفاق في الخير يبعد سوء الخاتمة، ويرشد إلى المحامد، ويضمن حسن العاقبة كما قال تعالى:
أ - (والعاقبة للتقوى) أي حسن العاقبة لأهل التقوى.
ب - (وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها باذن ربهم تحيتهم فيها سلام).
وقال تعالى لحبيبه صلى الله عليه وسلم ليعلم أمته: (إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير) 18 من سورة فاطر. (بالغيب): غائبين عن عذابه، أو عن الناس في خلواتهم، ومن تطهر من دنس المعاصي، وأنفق في الخير جازاه الله بالنعيم على تزكيته، على أن عدم الإنفاق قد يجر إلى الإلحاد، وعدم الصدقة وراءها قسوة القلب وغفلته عن الله، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى توحيد الله والاستقامة في العمل:(فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون) فامتناعهم عن الزكاة كما قال البيضاوي: لاستغراقهم في طلب الدنيا، وإنكارهم للآخرة لبخلهم، وعدم إشفاعهم على الخلق.
وإن الله تعالى أمر أزواج خير الخلق صلى الله عليه وسلم: (وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله): أي في سائر ما أمركن به ونهاكن عنه. وقد عد سبحانه خصالا عشرة يقوم به رجال أبرار أطهار أخيار منها: (والمتصدقين والمتصدقات) - في قوله تعالى: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما) 36 من سورة الأحزاب.
فانظر رعاك الله إلى هذا الثواب الجزيل وقد ضمن الله حسنى الخاتمة للمتفق في البر.
(2)
يخبرك صلى الله عليه وسلم فائدة الصدقة أن تدفع سبعين بابا من أبواب الأذى والشر، وتجلب رضا الله ورحمته وإحسانه ووقايته من المكاره. قال تعالى:
أ - (وأن تصدقوا خير لكم).
ب - (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) 69 من سورة العنكبوت.
جاهدوا فينا: عملوا الصالحات وبذلوا النفس والنفيس في حقنا، وجلب رضانا. (لنهدينهم) سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا - أو لنزيدنهم هداية إلى سبل الخير، وتوفيقا لسلوكها كقوله تعالى:(والذين اهتدوا زادهم هدى). وفي الحديث: (من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم)، (وإن الله لمع المحسنين): بالنصر والاعانة. أهـ بيضاوي. =
22 -
وعنْ أبي كبْشة الأنماريِّ رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله صلعليه وسلم يقول: ثلاث (1) أقسم عليْهنَّ، وأحدِّثكمْ حديثاً فاحفظوه قال: ما نقص (2) مالُ عبدٍ من صدقةٍ، ولا ظلم عبد مظلمةً صبر عليها إلا زاده الله عزَّا، ولا فتح عبد باب مسْألةٍ (3) إلا فتح الله عليه باب فقرٍ (4)، أوْ كلمةً نحوها، وأحدِّثكمْ حديثاً فاحْفظوه. قال إنَّما الدنيا لأربعة نفرٍ: عبدٌ رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتَّقي فيه ربَّه (5)، ويصل فيه رحمه (6)، ويعْلم لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً فهو صادق النِّيَّة يقول: لوْ أنَّ لي مالاً لعملت بعمل فلانٍ فهو بنيَّتهِ فأجْرهما سواء، وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً يخبط في ماله بغير علمٍ (7)، ولا يتَّقي فيه ربَّه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا فهذا بأخبثِ (8) المنازل، وعبد لمْ يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول: لوْ أنَّ لي مالاً لعملت فيه بعمل فلانٍ فهو بنيَّتهِ، فوزرهما (9)
سواء. رواه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
23 -
وعنْ أبي هريرة رضي الله عنه قال: ضرب رسول الله (ما نقص مال عبد من صدقة)
(يدرأ) بالدال المهملة: أي يدفع، وزنه ومعناه. مثل البخيل والمتصدِّق: كمثل رجلين عليهما جُنَّتان (10) من حديدٍ قد
= أخبرك صلى الله عليه وسلم أن الصدقة طريقة الله موصلة إلى رحمة الله جالبة رضاه مبعدة سخطه طاردة أي أذى لك أيها المسلم.
(1)
كذا ع ص 295، وفي ن ط، وفي ن د: ثلاثة أقسم.
(2)
قل.
(3)
سؤال.
(4)
احتياج وذمة وضعة واحتقار وشدة طمع وازدراء قومه.
(5)
يخاف الله ويعمل صالحا.
(6)
يزور أقاربه ويمدهم بخير.
(7)
ينفق ماله ابتغاء شهواته.
(8)
أردأ. وأفظع.
(9)
ذنبهما: بين طبيب النفوس صلى الله عليه وسلم رغبات الانسان في الحياة:
أولاً: رجل موفق مسدد الخطوات بر صالح وغني وعالم، فاستعمل بماله ما يشيد له المكرمات الصالحات ونفعه الله بعمله فأثمر في غرس المحامد، وفعل المكارم، فأفاد واستفاد.
ثانياً: عالم وفقير فعمل بعلمه وتمنى لو اغتنى لفعل خير فثوابه ثواب من فعل.
ثالثاً: غنى شرير أطلق عنان ماله في فعل المفاسد، وارتكاب المحارم وطغى وبغى وقطع أقاربه، وحرم المسكين، فهذا في الدرك الأسفل من النار وأردأ عاقبة، وبئس مآله.
رابعاً: رجل فقير ولكن نيته خبيثة منعه عن الموبقات ضيق يده ولم يخش الله ولم يرجه سبحانه، ويتمنى لو يغتني لأجرم وسلك سبيل الدعارة، فكأنه فعل ذلك، وعوقب أشنع عقاب، وباء بسوء العاقبة. نسأل الله السلامة.
(10)
درعان، واحدها جنة:(أي وقاية). وفي ع: جبتان ص 296.
اضْطُرَّتْ أيديهما (1) إلى ثديِّهما وتراقيهما (2)، فجعلَ المتصدِّق كلَّما تصدَّق بصدقةٍ انبسطت (3) عنْه حتى تغشى (4) أنامله، وتعفوا أثره (5)، وجعل البخيل كُلَّما همَّ بصدقةٍ قلصت (6)، وأخذتْ كلُّ حلقةٍ بمكانها (7).
قال أبو هريرة: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بأصبعيه هكذا في جيبه يُوسِّعها ولا تتوسَّع (8).
رواه البخاري ومسلم، والنسائي، ولفظه:
مثل المنفق المتصدق والبخيل: كمثل رجلينِ عليهما جبَّتان، أوْ جبَّتان من حديدٍ من لدنْ ثديِّهما إلى تراقيهما، فإذا أراد المنفق أن ينفق اتَّسعت عليه الدِّرعُ، أو مرَّتْ حتى تجنَّ بنانه، وتعفو أثره، فإذا أراد البخيل أن ينفق قلصتْ ولزمتْ كلُّ حلقةٍ موْضعها حتى (9) أخذت بترقوتهِ، أو برقبتهِ، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: أشْهد أنَّه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوسعها (10) ولا تتَّسع.
(الجنة) بضم الجيم، وتشديد النون: كل ما وقي الإنسان ويضاف إلى ما يكون منه.
(التراقي) جمع ترقوة بفتح التاء، وضمها لحن: وهو العظم الذي يكون بين ثغرة نحر الإنسان وعانقه.
(وقلصت) بفتح القاف واللام: أي انجمعت وتشمرت، وهو ضد: استرخت وانبسطت.
(1) أي شملت الأيدي والثدي والعضوين المجاورين للعنق فهي تشبه القميص الذي ستر هذه الأعضاء فتتسع على المحسن المتصدق، وتضغط على البخيل وتؤلمه.
(2)
عظمتان بارزتان عند الكتف.
(3)
اتسعت.
(4)
تغطي.
(5)
تجعله وتكمله.
(6)
ضغطت عليه وعذبته.
(7)
كذاع وط، وفي ن د: مكانها.
قال النووي: معنى تقلصت: انقبضت، ومعنى يعفوا أثره: أي يمحي أثر مشيه بسبوغها وكمالها، وهو تمثيل لنماء المال بالصدقة والإنفاق، والبخل بضد ذلك، وقيل: هو تمثيل لكثرة الجود والبخل، وأن المعطى إذا أعطى انبسطت يداه بالعطاء، وتعود ذلك، وإذا أمسك صار ذلك عادة له، وقيل: معنى يمحو أثره: أي يذهب بخطايا ويمحوها، وقيل: في البخيل قلصت ولزمت كل حلقة مكانها: أي يحمي عليه يوم القيامة فيكوى بها، والصواب الأول، والحديث جاء على التمثيل لا على الخبر عن كائن. وقيل: ضرب المثل بهما لأن المنفق يستره الله تعالى بنفقته، ويستر عورته في الدنيا والآخرة كستر هذه الجنة لابسها، والبخيل كمن ليس جنة إلى ثدييه فيبقى مكشوفا بادي العورة مفتضحا في الدنيا والآخرة. هذا آخر كلام القاضي عياض رحمه الله تعالى. أهـ ص 109 - جـ 7.
(8)
كذا ط د ع ص 296، وفي ن د: تتسع.
(9)
كذا ع ود، وفي ن ط: حتى إذا أخذت.
(10)
كذا ع ود، وفي ن ط: يوسع.
(والجيب) هو: الخرق الذي يخرج الإنسان منه رأسه في الثوب ونحوه.
24 -
وعنْ مالكٍ رحمه الله أنَّه بلغه عن عائشة رضي الله عنها أنَّ مسكيناً سألها وهي صائمة، وليْس في بيتها إلا رغيف، فقالت لمولاةٍ (1) لها: أعطيها إيَّاه، فقالتْ ليس لك ما تُفْطرين عليه، فقالت: أعْطيها إيَّاه. قالتْ: ففعلتْ، فلما أمْسينا أهدى لها أهل بيتٍ، أوْ إنسان ما كان يُهدى لها شاةً وكفنها فدعتها عائشة، فقالت كلي من هذا خير من قرصكِ.
25 -
قال مالك: وبلغني أنَّ مسكيناً استطعم (2) عائشة أمَّ المؤمنين رضي الله عنها وبين يديها عنبٌ، فقالتْ لإنسان خذْ حبَّةً فأعْطهِ إيَّاها فجعل ينظر إليها ويعجب (3) فقالت عائشة رضي الله عنها: أتعجب كم ترى في هذه الحبَّة من مْثقال ذرةٍ (4)؟ ذكره في الموطأ هكذا بلاغاً بغير سند. (قوله) وكفنها. أي ما يسترها من طعام وغيره.
26 -
وعنْ أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قال رجلٌ: لأتصدَّقنَّ بصدقةٍ، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدَّثون تصدِّق الليلة على سارقٍ، فقال: اللهمَّ لك الحمد على سارق لأتصدقنَّ بصدقةٍ، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانيةٍ فأصبحوا يتحدَّثون تصدِّق الليلة على زانيةٍ. قال: اللهمَّ لك الحمد على زانيةٍ لأتصدقنَّ بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني فأصبحوا يتحدَّثون تصدَّق الليلة على غنيٍ. قال: اللهمَّ لك الحمد على سارقٍ وزانية وغنيٍ فأتى
(1) خادمة. معناه أن السيدة عائشة رضي الله عنها جادت بما عندها ثقة بالله، واعتماداً على الرزاق جل وعلا وإجابة للسائل كما أمر صلى الله عليه وسلم، فأثابها الله سبحانه، وعوضها خيراً، وزادها برا وأجراً وإحساناً ونعما - (شاة وطعاما وكل ما يلزم) فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم.
(2)
طلب طعاما.
(3)
كذا ع وط، وفي ن د: يتعجب
(4)
معناه أتصدق بهذا لأنال بوزنه حسنات من الله جل وعلا سبحانه المنفق المعطي المخلف. قال تعالى:
أ - (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين) من سورة سبأ.
ب - (وأقرضوا الله قرضاً حسناً وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خير وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) سورة المزمل.
قال البيضاوي: يريد به الأمر في سائر الانفاقات في سبيل الخيرات، أو بأداة الزكاة على أحسن وجه والترغيب فيه بوعد العوض كما صرح به (وأعظم) من متاع الدنيا (واستغفروا الله في مجامع أحوالكم فإن الإنسان لا يخلو من تفريط أهـ.
فقيل له: أمَّا صدقتك على سارقٍ: فعلَّهُ أن يسْتفَّ عن سرقتهِ، وأمَّا الزَّانية (1): فلعلَّها أن تستعفَّ عن زناها، وأمَّا الغنيُّ: فلعله أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله. رواه البخاري، واللفظ له، ومسلم والنسائي، وقالا فيه:
فأتى، فقيل له: أمَّا صدقتك فقد تُقُبِّلت، ثمَّ ذكر الحديث:
27 -
وعنْ عُقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كلُّ امرئٍ في ظلِّ صدقته حتى يقضي بين الناس. قال يزيد: فكان أبو الخيْرِ مرْثد: لا يخطئه يوم إلا تصدَّق فيه بشيءٍ، ولوْ بكعكةٍ (2) أوْ بصلةٍ. رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.
28 -
وفي رواية لابن خزيمة أيضاً عنْ يزد بن أبي حبيبٍ عنْ مرثد بن أبي عيد الله اليزبيِّ: أنَّه كان أوَّل أهل مصر يروح إلى المسجد، وما رأيته داخلاً المسجد قطُّ إلا وفي كمِّه صدقة: إما فلوس، وإما خبزٌ، وإما قمح. قال: حتى ربما رأيت البصل يحمله: قال: فأقول يا أبا الخير إنَّ هذا ينتنُ ثيابك، قال فيلوق: يا أبن أبي حبيب أما إني لم أجد في البيت شيئاً أتصدق به غيره، إنه حدَّثني رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ظلُّ المؤمن يوم القيامة صدقته.
29 -
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الصدَّقة لتطفئ عن أهلها حرَّ القبور (3)، وإنما يستظلُّ المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته. رواه الطبراني في الكبير والبيهقي، وفيه ابن لهيعة.
30 -
وعن الحسن رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما
(1) قال النووي في باب ثبوت أجر المتصدق، وإن وقعت الصدقة في يد فاسق ونحوه - وفيه ثبوت الثواب في الصدقة وإن كان الآخذ فاسقاً وغنيا ففي كل كبد حرى أجر، وهذا في صدقة التطوع، وأما الزكاة فلا يجئ دفعها إلى غني. أهـ ص 110 - جـ 7.
(2)
معناه يوم القيامة تكون الصدقة ظلة على صاحبها، وواقية له من عذاب الله، وجنة من الهول، ولو قلت مثل قطعة من الخبز أو البصل. وهذا رجل يأخذ من بيته ما وجده، ولا يبالي بحقارته رجاء أن توجد له في الصالحات ظلل تقيه أهوال يوم الحساب، فاجتهد أخي أن تتصدق ليقيتك الله شر ذلك اليوم، ويلقيك فضرة وسروراً.
(3)
الصدقة في الدنيا تسبب نعيم القبر، وتزيل لهب النار منه.
يروى عن ربِّه عز وجل أنه يقول: يا ابن آدم. افزع (1) من كنزك عندي، ولا حرق، ولا غرق، ولا سرق أو فيكه أحْوج (2) ما تكون إليه. رواه الطبراني والبيهقي، قال هذا مرسل، وقد روينا عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(إنَّ الله إذا استودع شيئاً حفظه).
31 -
وروي عن ميمونة بنت سعد أنَّها قالت: يا رسول الله: أفتنا عن الصَّدقة؟ فقال: إنها حجاب (3) من النَّار لمنْ احتسبها (4) يبتغي بها وجه الله عز وجل. رواه الطبراني.
32 -
وعنْ بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يخْرج رجلٌ شيئاً من الصَّدقة حتى يفك عنها لحيى (5) سبعين شيطاناً. رواه أحمد والبزار والطبراني وابن خزيمة في صحيحه، وتردد في سماع الأمشق من بريدة، والحاكم والبيهقي، وقال الحاكم: صحيح على شرطهما، ورواه البيهقي أيضاً عن أبي ذر موقوفا عليه قال:
ما خرجتْ صدقة حتى يفك عنها لحيا سبعين شيطاناً كلُّهم ينهى عنها.
33 -
وعنْ أنسٍ رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً منْ نخلٍ، وكان أحبَّ أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيِّبٍ. قال أنس: فلمَّا نزلت هذه الآية: لنْ تنالوا البرَّ حتى تنفقوا مما تحبُّون. قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله: إن الله تبارك وتعالى يقول: لن تنالوا البرَّ حتى تنفقوا مما تحبُّون، وإنَّ أحبَّ أموالي إليَّ بيرحاءُ، وإنَّها صدقة أرجو برَّها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بخٍ، ذلك مال رابحٌ، ذلك مال رابح. رواه البخاري ومسلم والترمذي ومسلم والترمذي والنسائي مختصراً.
(بيرحاء) بكسر الباء وفتحها ممدوداً: اسم لحديقة نخل كانت لأبي طلحة رضي الله عنه
(1) ادخر وجد وأنفق من مالك مدخراً ثواب ذلك عندي، سبحانه يحفظ هذا من الضياع فلا يصيبه أي تلف، ثم يثيبه، ويقدم له الجزاء الأوفى عند موته، يفتح له نعيم الجنة، ويغلق عليه رحماته فيدرك جزاء إحسانه، ويبعد عنه الحساب والأهوال.
(2)
أقدم لك هذا عند الشدة واحتياجك إلى من ينقذك من العذاب.
(3)
ساتر ومانع وواق.
(4)
أعطاها طالباً وثواب الله فقط.
(5)
معناه إخراج الصدقة يؤلم سبعين شيطانا رجيما حرصوا على عدم أدائها.
وقال بعض مشايخنا: صوابه بيْرحي: بفتح الباء الموحدة، والراء مقصوراً، وإنما صحفه الناس.
وقوله (رابح) روى بالباء الموحدة، وبالياء المثناة تحت.
34 -
وعن أبي ذرٍ رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله: ما تقول في الصَّلاة؟ قال: تمام العمل (1). قلتُ: يا رسول الله: تركتُ أفضل عملٍ في نفسي أوْ خيره؟ قال: ما هو؟ قلتُ: الصَّوم؟ قال: خير وليس هناك. قُلت يا رسول الله: أي الصَّدقة وذكر كلمة. قلت: فإن لم أقدر؟ قال: بفضل (2) طعامك. قلت: فإن (3) أفعل؟ قال: بشقِّ (4) تمرةٍ. قلت: فإن لم أفعل؟ قال: بكلمة طيبةٍ (5). قلت: فإن لم أفعل؟ قال: دع الناس (6) من الشِّرِّ، فإنَّها صدقة تصَّدق بها على نفسك. قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تريد أن لا تدع (7) فيك من الخير شيئاً. رواه البزار، واللفظ له وابن حبان في صحيحه أطول منه بنحوه، والحاكم، ويأتي لفظه إن شاء الله.
35 -
وروى البيهقي، ولفظه في إحدى رواياته قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا يُنْجِي العبد من النَّار؟ قال: الإيمان بالله - التصديق بوجوده سبحانه وتعالى، والثقة به (8). قُلت يا نبي الله: مع الإيمان عمل؟ قال: أن ترضخ (9) مما خوَّلك (10) الله، وترضخ مما رزقك الله. قُلْتُ يا نبيَّ الله، فإنْ كان فقيراً لا يجد ما يرضخ؟ قال: يأمر بالمعروف (11) وينهى (12) عن
(1) حسن أدائها وإتمام أركانها وسنتها.
(2)
ما زاد عن حاجتك وحاجة عيالك تصدق به.
(3)
كذا ص 298 ود، وفي ن ط: ان.
(4)
تصدق إن لم تجد شيئاً بنصف تمرة، أو بما يوازي قيمتها ليكون لك القدح المعل مع المتصدقين فتجود النفس بما تلك.
(5)
تصدق بطيب الكلام، وحسن الألفاظ، واجتناب الكلام البذيء.
(6)
اترك الشر، ولا تسع في الضرر، وكن محضر خير، ورسول سلام، وداعي إصلاح ومودة.
(7)
ان لا تترك. جواب بديع: أي لا بد للإنسان أن يكون فيه ذرة من خير، ولا يخلو من محامد، فهذا أبو ذر رضي الله عنه يكثر من - فإن لم أفعل - فيسهل عليه صلى الله عليه وسلم الجواب، ويدعوه إلى عمل ولو قل من نصف تمرة أو ألفاظ حسنة عذبة، أو اجتناب الشرور، وترك القبائح، وإلا فياخيبة من لم يفعل ذلك، ولم تكن في صحيفته حسنات من الصالحات، ويقول صلى الله عليه وسلم:(تريد أن لا تدع فيك من الخير شيئاً) أي تود يا أبا ذر ألا يكون لك شيء من المكارم وإن حقر - وفيه أن الإنسان يضرب بسهم صائب في الإنفاق وتشييد الطيبات، ويتصدق بما زاد عن طلباته الضرورية، ويحسن القول، ويتقي الله.
(8)
التصديق بوجوده سبحانه وتعالى، والثقة به.
(9)
نعطي عطاء قليلا.
(10)
ملكك الله، والتخول: التعهد.
(11)
يرشد إلى الخير وينصح، ويدعو إلى الفضائل، وبحث على اجتناب الرذائل، وينهى عن القبائح.
(12)
فليساعد الأحمق، وليقبض على يد المجرم، وليمنع الأشرار.
المنكر. قُلْتُ: إن كان لا يستطيع أن يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر؟ قال: فليعنِ الأخرق. قلت: يا رسول الله: أرأيت إن كان يحسنُ أن يصنع؟ قال: فليعنْ مظلوماً (1). قُلتُ: يا نبي الله! أرأيت إن كان ضعيفاً لا يستطيع أن يعين مظلوماً؟ قال: ما تريد أن تترك لصاحبك (2) من خير ليمسك (3) أذاه عن الناس. قلتُ يا رسول الله: أرأيت إن فعل هذا يدخله الجنَّة؟ قال: من منْ عبدٍ مؤمن يُصيب خصْلةً من هذه الخصال إلا أخذت بيده (4) حتى تدخله الجنَّة.
36 -
ورؤى عن رافع بن خديجٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصَّدقة (5) تسدٌّ سبعين باباً من السوء. رواه الطبراني في الكبير.
37 -
وعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: باكروا (6)
بالصَّدقة، فإنَّ البلاء لا يتخطَّى الصَّدقة. رواه البيهقي مرفوعا وموقوفا
(1) فليزل آلام المكروب وإضرار المصاب ويبعد الباطل، ويحق الحق ويغث المستغاث، وينجد المتألم.
(2)
كفى هذا الضعف، ألا تحب ألا يكون لك عمل صالح ومروءة تثاب عليها؟.
(3)
ليمنع ويصد.
(4)
المعنى أن الخصلة المحمودة تقوده إلى نعيم الجنة، وتضيء له سبل الاحترام، وفيه الحث على عمل البر والضرب بسهم في تنفيذ أوامر الله، واجتناب مناهيه.
(5)
الإحسان والإنفاق لله تمنع الشرور، وتصد الأذى وتقفل سبعين بابا من الضرر والهلاك والفقر والمرض وهكذا من الأعمال المؤلمة المؤذية، وفيه الحث على عمل الخير ابتغاء وجه الله ليجاب الطلب ويزول الكرم، ويفك العسير.
(6)
أسرعوا بتقديم صدقة لله فإنها تمنع المصائب ولا تعدوها الآلام، وكائن رأينا من مريض شفاه الله لا حسانه ومسألة عسيرة سهلها الله بالصدقة، ودين زال بفعل الخير لله، وآمال يسر الله وجودها بالإنفاق، وقد أجد في قوله تعالى:(ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيدكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) دليلا ناجحا، ودواء شافيا للوصول إلى نصر الله ولإغداق رحمته على المحافظ على أداء الصلاة والزكاة، فهذا أمر منه سبحانه وتعالى بالكف عن القتال، وإقامة الصلاة، وإخراج الزكاة حتى يأتي نصر الله، ويشرق فتح الله. الاستفهام تعجبي! أي تعجب يا محمد من قومك كيف يكرهون القتال، مع كونهم قبل ذلك كانوا طالبين له، وراغبين فيه، منهم: عبد الرحمن بن عوف، والمقداد بن الاسود، وسعد بن أبي وقاص، وقدامة بن مظعون، وجماعة كانوا بمكة يتحملون أذى الكفار، والله يأمرهم بالتحمل والصبر، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة أمروا بالقتال، وكراهتهم غلبت الرأفة عليهم أو لمحبهم المعيشة. قال الصاوي: ولما نزلت الآية أقلعوا عما خطر ببالهم، وشمروا عن ساعد الجد والاجتهاد، وجاهدوا في الله حق جهاده. أهـ، ودليلنا العكوف على عبادة الله مع الإخلاص في إقامة هذين الركنين: الصلاة، والزكاة. قال تعالى:(الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً) 77 من سورة النساء. يسر الله للمسلمين الخروج إلى المدينة وبقي بعضهم إلى فتح مكة حتى شعروا بالعزة، وجعل الله لهم من لدنه خير ولي وناصر، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ولما خرج صلى الله عليه وسلم استعمل عتاب أبي أسيد فرأوا منه الولاية والنضرة كما أرادوا. =
على أنس، ولعله أشبه.
38 -
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصدَّقوا، فإنَّ الصدقة فكاككم من النار. رواه البيهقي من طريق الحارث بن عمير عن حميد عنه.
39 -
وروى عنْ عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: باكروا (1) بالصدقة، فإن البلاء لا يتخطَّاها (2) رواه الطبراني، وذكره رزين في جامعة وليس في شيء من الأصول.
= قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان ينصر الضعيف من القوي حتى كانوا أعز بها من الظلمة، هذه أوامر الله يا أخي للمستضعفين (من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا) 76 سورة النساء، والقرية، مكة: قوم ضعفوا عن الهجرة مستذلين ممتحنين، ولكن حافظوا على أداء اثنتين:(الصلاة والزكاة) حتى استجاب الله دعاءهم، ونصرهم نصرا مؤزورا. قال البيضاوي: وإنما ذكر الولدان مبالغة في الحث، وتنبيها على تناهي ظلم المشركين بحيث بلغ أذاهم الصبيان، وأن دعوتهم أجيبت بسبب مشاركتهم في الدعاء حتى يشاركوا في استنزال الرحمة واستدفاع البلية، وقيل: المراد به العبيد والإماء، وهو جمع وليد. أهـ بيضاوي ص 145.
ما أشبه حالتنا اليوم بحالة صدر الإسلام في الضعف والذلة، ولكن شتان بين عملنا وعمل رجاله الأبطال رضوان الله عليهم. إنهم أدوا أوامر الله بإخلاص وعزيمة قوية فصبروا ونجحوا، وفتح الله لهم فتح مبينا فبدل الله ذلهم عزا، وفقرهم غنى. ونحن الآن في سنة 1374 هـ نرى تقصيراً في حقوق الله، ورجالاً نفوسهم غافلة عن طاعة الله وذكر الله، والصلاة والزكاة لله. ألم يأن للمسلمين أن يتوبوا ويصلوا ويزكوا ويستقيموا رجاء أن الله يعزهم كما أعز أهل مكة، ويرعاهم برحمته وإحسانه، فإنه تعالى أمرهم بالقتال، فجاهدوا واستبسلوا في سبيل نصر دين الله، ولكن دعاني إلى ذكر هذه الآيات حي الشديد لأمر الله لأولئك الصابرين المحتسبين المستضعفين بالصلاة والزكاة حتى أراد الله فقواهم، وأشرق شمس الإسلام وأضاء الحق، وعم نوره. قال تعالى لحبيبه صلى الله عليه وسلم:(لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد 197 متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد 198 لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار) 199 من سورة آل عمران.
قال البيضاوي: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد أمته، أو تثبيته على ما كان عليه، والمعنى: لا تنظر إلى ما الكفرة عليه من السعة والحظ، ولا تغتر بظاهر ما ترى من تبسطهم في مكاسبهم ومتاجرهم ومزارعهم. روى أن المؤمنين كانوا يرون المشركين في رخاء ولين عيش، فيقولون: ان أعداء الله فيما نرى من الخبر وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت. قال عليه الصلاة والسلام (ما الدنيا في الآخرة الا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع؟) أهـ بيضاوي.
وشاهدنا الزهادة في المتاع الغاني، والدعوة إلى التصدق في جنب ما أعد الله للمحسنين.
(1)
سارعوا بها.
(2)
أي لا يجاوزها، يعني لا يلحق صاحبها، وفيه طلب الإقبال على الإنفاق لله رجاء أن يصد العوادي، ويمنع المصائب، ويخفف سبحانه في قضائه، ويلطف في قدره.
40 -
وعن الحارث الأشعريِّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ الله أوْحى إلى يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام بخمس كلماتٍ أنْ يعمل بهنَّ، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهنَّ، فذكر الحديث إلى أن قال فيه: وآمركمْ بالصدقة، ومثل ذلك كمثل رجل أسره (1) العدوُّ، فأوْثقوا يده إلى عنقهِ، وقرَّبوه ليضربوا عنقه فجعل يقول: هل لكم أن أفدى نفسي (2) منكم، وجعل يُعطي القليل والكثير حتى فدى نفسه. الحديث رواه الترمذي وصححه، وابن خزيمة، واللفظ له، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، وتقدم بتمامه في الالتفات في الصلاة.
41 -
وعنْ رافع بن مكيثٍ، وكان ممَّنْ شهد الحديبية رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حُسنُ الملكة (3) نماء وسوء (4) الخلق، شؤم (5) والبرُّ (6) زيادة في العمر، والصَّدقة تطفيُّ (7) الخطيئة، وتقي (8) ميتة السُّوء. رواه الطبراني في الكبير، وفيه رجل لم يسم، وروى أبو داود بعضه.
42 -
وعنْ عمر بن عوف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ صدقة المسلم تزيد في العمر، وتمنعُ ميتة السُّوء، ويذهب الله بها الكبْر والفخر. رواه الطبراني من طريق كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده عمرو بن عوف، وقد حسنها الترمذي، وصححها ابن خزيمة لغير هذا المتن.
43 -
وعن عمر رضي الله عنه قال: ذُكرَ لي أنَّ الأعمال تباهي (9) فتقول:
(1) وقع في شركهم وذل.
(2)
أن أقدم فدية وعوضاً عني: كذا الصدقة تفدي الإنسان من الآلام والأمراض بمعنى أنها تكون سبباً لتخفيفها وإزالتها.
(3)
الذكاء الوقاد والفكر الصائب هبة من الله تعالى.
(4)
الغضب والكدر والشتم والشقاق والحسد، وهكذا من النقائص.
(5)
وبال ويجر السوء والأذى.
(6)
فعل الخير وتشييد الصالحات والعمل المحمود يكون سبباً لزيادة العمر بمعنى أن الله يتكرم بحفظ صحة البار، ويجعل له سيرة حسنة، ويحفظ وقته من الضياع في اللغو بل يبارك فيه. والبر ضد العقوق، فكأن إطاعة الوالدين، والإحسان إليهما سبب طول العمر. والبر: الصدق، وفلان يبر خالقه، ويتبرره: أي يطيعه. وإني أشاهد من أطاع الله متعه بكمال الصحة، وحسن حاله، وأزال آلامه، وأطال عمره.
(7)
تزيل الذنب.
(8)
وتمنع سوء الخاتمة والهلاك بحالة شنيعة رديئة.
(9)
كذا ع ص 300، وفي ن د: تتباهى: أي تفتخر وتناظر وتجادل.
الصَّدقة أنا أفضلكم. رواه ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما.
44 -
وعنْ عوف بن مالكٍ رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده عصاً، وقدْ علَّق رجل قنْو (1) حشفٍ (2)، فجعل يطعن (3) في ذلك القنو، فقال: لو شاء رب هذه الصَّدقة تصدَّق بأطيب من هذا، إنَّ ربَّ هذه الصَّدقة يأكل حشفاً يوم القيامة. رواه النسائي واللفظ له، وأبو داود، وابن خزيمة، وابن حبان في صحيحهما في حديث.
45 -
وعنْ أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: منْ جمع مالاً حراماً، ثمَّ تصدق به لمْ يكن له فيه أجْر، وكان إصْره (4) عليه. رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم، كلهم من رواية دراج عن ابن حجيرة عنه.
46 -
وعنْ أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: خير الصَّدقة ما أبقيت (5) غني، واليد العليا (6) خير من اليد السُّفلى (7)، وابدأ بمن تعول (8) تقول امرأتك: أنفق عليَّ، أو طلقني، ويقول مملوكك: أنفق عليَّ، أوْ بعني، ويقول ولدك إلى من تكلنا؟ رواه ابن خزيمة في صحيحه، ولعلّ قوله: تقول امرأتك. إلى آخره من كلام أبي هريرة مدرج.
47 -
وعنه رضي الله عنه أنَّه قال يا رسول الله: أي الصَّدقة أفضل؟ قال:
(1) عذق (سباطة).
(2)
أردا التمرع 300.
(3)
يضرب أي يذم، ويبين صلى الله عليه وسلم رداءة هذه الصدقة، وقلة ثوابها عند الله، وتمنى أن ذلك الرجل يتصدق بأحسن وأبدع منها لأنها ستقيه يوم القيامة، وتكون طعاماً له يوم لا يجد شيئاً يصد عن الأهوال، ويدفع عنه الظمأ والجوع، وفيه الحث على اختيار الطيب في الإنفاق، والتصدق من الشيء المفيد القيم. قال تعالى:(لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون). هذا نوع من عذاب الله يوم القيامة فتقدم الملائكة له أرادا التمر، وفيه ما فيه ليسيغه جزاء بخله، وعدم عنايته بالصدقة الطيبة، و (إن الله طيب، ولا يقبل إلا طيبا).
(4)
ذنبه. وفيه الحث علي طلب الحلال، والتصدق من الحلال.
(5)
ما أفادت وتركت أثراً يمنع السؤال، وأزالت جوعا، ودفعت فقراً، وقدمت عملا يفيد.
(6)
المعطية.
(7)
السائلة. والمعنى الكريم الجواد خير من الشحاذ الذليل بالسؤال.
(8)
تكفيه معاشه، وتنفق عليه، وتقدم له اللازم. عاله شهراً: كفاه معاشه، وفيه الحث على الإنفاق على الزوجة والخادم والأبناء.
جهدُ (1) المقلِّ بمنْ تعول. رواه أبو داود، وابن خزيمة في صحيحه والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم.
48 -
وعنْ أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبق درْهم مائة ألف درهمٍ، فقال رجل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال رجل له مال كثيرٌ أخذ منْ عرضهِ مائة ألف درهم تصدَّق بها، ورجل ليْس له إلا درهمان فأخذ أحدهما فتصدَّق به (2). رواه النسائي، وابن خزيمة، وابن حبان في صحيحه، واللفظ له، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.
(قوله) من عرضه بضم العين المهملة، وبالضاد المعجمة: أي من جانبه.
49 -
وعنْ أمِّ بجيد رضي الله عنها أنَّها قالتْ: يا رسول الله إنَّ المسكين ليقوم على بأبي فما أجد له شيئاً أعطيه إيَّاه، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنْ لمْ تجدي إلا ظلفاً محرقاً فادْفعيه إليه في يده (3). رواه الترمذي وابن خزيمة.
وزاد في رواية: لا تردِّي سائلك ولوْ بظلفٍ محرقٍ. وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (الظلف) بكسر الظاء المعجمة للبقر والغنم بمنزلة الحافر للفرس.
50 -
وعنْ أبي ذرّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعبَّد عابد من بني إسرائيل، فعبد الله في صومعةٍ (4) ستين عاماً، فأمطرت الأرض فاخضرَّتْ، فأشرف (5) الرَّاهب منْ صومعته، فقال: لوْ نزلت فذكرتُ الله، فازددتُ خيرا، فنزل ومعه رغيف، أوْ رغيفان فبينما هو في الأرض لقيته امرأة فلم يزل يكلِّمها حتى غشيها (6)،
ثمَّ أغمي عليهِ، فنزل العدير يسْتحمُّ،
(1) طاقة، أي إخراج شيء من قليل بمعنى أن الإنسان يرى نفسه فقيراً، ولكن يجود من القليل ابتغاء ثواب الله وكرمه، وانتظار فضله، ثم أمر صلى الله عليه وسلم باعطاء الصدقة لمن يهمك أمره. بفتح الجيم وضمها ع 301.
(2)
يبين لك صلى الله عليه وسلم ثواب الصدقة الخارجة من مال الفقير يضاعف أجرها مئات لأن الغني يجود عن سعة، وينفق من كثرة، ولكن الفقير يدعوه إيمانه بربه إلى الإنفاق وينتظر رزق الله.
(3)
معناه قدمي للسائل ما وجد ولو قل، فثوابك مضاعف.
(4)
مكان عبادة النصارى.
(5)
نظر إليها.
(6)
تقرب إليها وجامعها. يبين صلى الله عليه وسلم أن الصدقة برغيف أو رغيفين كانت سبب زيادة الحسنات، فرجحت كفة الصدقة أمام الفاحشة، وتجلى عليه ربه بالرضوان والرحمة، وعفا عنه، وإن تعجب فعجب طاعته ستين سنة أمام هذه الكبيرة تضاءل وزنها، وخف حجمها، ولم تنفعه جزاء ارتكابه هذه الموبقة، ولكن عاطفة الإحسان لله في لمحة أدخلته في جنة الله، وطاشت دونها هذه الكبيرة. =
فجاء سائل، فأوْمأ إليه أنْ يأخذ الرَّغيفين، ثمَّ مات فوزنتْ عبادة ستين سنةً بتلك الزَّنْية فرجحت الزَّنية بحسناته ثمَّ وضع الرَّغيف أو الرغيفان مع حسناته، فرجحتْ حسناته فغفر له. رواه ابن حبان في صحيحه، ورواه البيهقي عن ابن مسعود موقوفاً عليه، ولفظه:
إنَّ راهباً عبد الله في صوْمعتهِ ستِّين سنةً، فجاءت امرأة فنزلت إلى جنبه، فنزل إليها فواقعها ست ليالٍ، ثمَّ سقط (1)
في يده فهرب فأتى مسجداً فأوى فيه ثلاثا يطْعمُ
= وفيه الحث على الصدقة، والتباعد عن الفاحشة، وانتظار ثواب الله، ووجود خشيته، والطمع في جزائه قال تعالى:(والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم) 2 من سورة القتال. قال البيضاوي: يعم المهاجرين والأنصار والذين آمنوا من أهل الكتاب وغيرهم. (كفر عنهم سيئاتهم): سترها بالإيمان وعملهم الصالح. (وأصلح بالهم) حالهم في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد وقال تعالى مبينا حال الدنيا وأن الزكاة جزء من المال، وفيها الخير كله:(إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم 37 إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم 38 هأنتم هؤلاء تدعون لتنفقون في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) 39 من سورة القتال (أجوركم) ثواب إيمانكم وتقواكم (ولا يسألكم أموالكم) أي جميع أموالكم بل يقتصر على جزء منها يسير كربع العشر أو العشر (فيحفكم): فيجهد كم يطلب الكل. (تبخلوا) فلا تعطوا، ويخرج الله تعالى بالزكاة الأحقاد، ويزيل الشقاق.
إن عبادة ذلك الرجل قاصرة عليه لا يتعدى ثوابها لغيره، وهي لغني حميد سبحانه، فلم تنفع إزاء معصية حاسبة الله عليها ولكن مر بخاطره الكرم وعلاج البخل، والتحلي بالجود والسخاء: فتصدق برغيف أو اثنين، فقبل الله صدقته فضاعف ثوابه، فثقل ميزانه، فرجحت عن الفاحشة، فغفر الله له.
(1)
ندم واستغفر، وأقر بذنبه، فعفا الله عنه، ومتعه بفضله. قال تعالى:(سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم 22 ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير 23 لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور 24 الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد) 25 من سورة الحديد. (مصيبة) كجدب وعاهة في الأرض (ولا في أنفسكم) كمرض وآفة إلى مكتوبة في اللوح المحفوظ مثبتة في علم الله تعالى. (نبرأها): نخلقها - والضمير للأرض أو للمعصية أو للأنفس. (بما آتاكم) بما أعطاكم الله منها فإن من علم أن الكل مقدر هان عليه الأمر، والمراد به نفي الأسى المانع عن التسليم لأمر الله، والفرح الموجب للبطر والاختيال، والمختار بالمال يضن به غالباً، ومن يعرض عن الإنفاق، فإن الله عني عنه، وعن إنفاقه محمود في ذاته لا يضره الأعراض عن شكره: ولاينفعه التقرب إليه بشكر من نعمه. وفيه تهديد، وإشعار بأن الأمر بالإنفاق لمصلحة المنفق أهـ بيضاوي.
آمنت بالله واعتقدت أن الصدقة تنفع صاحبها، وتكون سبب غفران ان ذنوبه وزيادة رزقه:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
…
لا يذهب العرف بين الله والناس
فوائد الصدقة كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم
أولا: تنمية ثواب الصدقة وزادة أجرها وادخارها عند الغني الوهاب (يقبلها بيمينه ثم يربيها). =
شيئاً فأتى برغيفٍ فكسره فأعْطى رجلاً عن يمينهِ نصفه، وأعطى آخر عنْ يسارهِ نصفهُ
= ثانيا: يضع الله البركة في المال الباقي، ويبعد عنه المصائب، ويزيده نماء وربحاً (ما نقصت صدقة من مال).
ثالثاً: الصدقة سبب زيادة الرزق ونصر الله وعنايته بالمتصدق (ترزقوا وتنصروا وتجبروا).
رابعاً: يسخر الله للمتصدق ما يفيده من سقى أرض ومساعدة ووجود مال ومحبة الأصدقاء (اسق حديقة فلان) وفيه يبارك الله في ماء الأنهار لتروي الأرض المزكاة.
خامساً: تبعد صاحبها عن النا، وتفك عنه ضيق الدنيا والآخرة (اتقوا النار ولو بشق تمرة).
سادساً: الصدقة تزيل الخطايا وتغسل صحيفة صاحبها من الأدناس وتطهرها من الذنوب (تطفئ الخطيئة). وقد أعلمنا قائد الحكمة، ومبعث الرحمة عابداً راهباً أخطأ فأفحش فلم ينفعه عمله إلا صدقة رغيف أورغيفين أطفأت خطيئته (رجح الرغيف).
سابعاً: الصدقة تصد الرزايا، وتمنعالحوادث، وتجلب حسن الخاتمة، فيموت المحسن على فراشه مبرشاً بنعيم الله لا يموت برصاص، ولا يقتله قاتل، ولا يحسد، ولا يذم، ولا يقتل مؤامرة، ولايعاكس، (وتدفع سبعين بابا من ميتة السوء) كالحسد والكيد والدس والتآمر والفقر وموت البغتة، وهكذا من العواقب القبيحة الرذيلة السيئة.
ثامناً: الصدقة درع قوي يلبسه المحسن فيقيه عاديات الدهر، وحوادث الزمان (جنة تغشي أنامله وتعفو أثره).
تاسعاً: الصدقة كشجرة يستظل بها المحسن: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد) 31 من سورة آل عمران (ظل المؤمن يوم القيامة صدقته).
عاشراً: الصدقة تهدم حصون الشياطين، وتكسر أنيابهم، وتحطم قيودهم وترد كيدهم، وتصد بغيهم. (يفك عنها لحيا سبعين شيطاناً) المعنى أن الشيطان يضع أنيابه ولحيه عند ما يهم المتصدق أن ينفذ الإنفاق فيوسوس له بالبخل والشح والفاقة، وعدم احتياج هذا السائل، وهكذا من الغواية فمن تصدق فك أغلاله، وأزال وساوسه، وأنفق لله، فحماء الله من أذاهم، ووقاه شرورهم، وحفظه من إضلاله، وأبعد عنه أضراره. قال تعالى يحكي عن الشيطان:(قال فيما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم 16 ثم لآتينهم ممن بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين 17 قال اخرج منها مذموما مدحوراً لمن تبعك منهم لأملئن جهنم منكم أجميعن) 18 من سورة الأعراف.
أحد عشر: الصدقة تضع البركة في العمر بإذن الله تعالى، وتجلب الصحة، وتدعو إلى والوئام، وتجلب محبة الناس، وتقيم حصونا منيعة من قلوب الفقراء ليحفظوه بأنفسهم، وليدعو له بخير، وليصدوا عنه كل باغ، ويحرسوه، ويتمنوا خدمته وراحته (صدقة المسلم تزيد في العمر).
وإليك أيها الأخ أقدم آية عزاء يوم الاحتضار تبلغ النفس أعالي الصدر. (التراقي) وتقول ملائكة الموت أيكم يرقى بروحه (ويظن) المحتضر. (الفراق) وتلتوى ساقه بساقه، فلا يقدر على تحريكهما، أو شدة فراق الدنيا بشدة خوف الآخرة. لماذا؟ لأنه كان لا يتصدق، ولا يزكي ماله، ولا يؤدي حقوق الله من صلاة وغيرها، ومصداق ذلك قوله تعالى:(وجوه يومئذ ناضرة 23 إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أنه يفعل بها فاقرة كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق وظن أنه الفراق والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى) 32 من سورة القيامة.
(ناضرة) بهية متهللة .. (ناظرة): مستغفرة مطالعة جماله بحيث تغفل عما سواه، أو منتظرة إنعامه (باسرة): شديدة العبوس. (فاقرة) داهية تكسر الفقار. (المساق): سوقه إلى الله وحكمه إن شاهدنا: (فلا صدق): أي حال ذلك الرجل مؤلم لأنه كان بخيلا وشحيحاً لم يزك ولا يصل.
اللهم بلغنا رضاك لنراك.
(الإنفاق خصلة الأبرار)
ولقد أجمع العقلاء على حقارة الدنيا، ورغب عنها المتقون الذين استبدلوا بحبها طاعة الله وأنفقوا فنالوا =
فبعث الله إليه ملك الموت فقبض روحهُ فوضعت السِّتون في كفَّةٍ، ووضعت السِّتَّة في كفةٍ
= الجنة، وفازوا بالتمتع بالأزواج المطهرة الحسان، وأحاطتهم رحمة الله، وعمهم رضوانه مع الأبرار الصالحين والله تعالى يعينهم بقوله:(الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار 17 الصابرين الصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار) 18 من سورة آل عمران.
قال البيضاوي: حصر لمقامات السالك على أحسن ترتيب، فإن معاملته مع الله تعالى إما توسل، وإما طلب والتوسل إما بالنفس، وهو منعها عن الرذائل، وحبسها على الفضائل، والصبر يشملها، وإما بالبدن، وهو إما قولي: وهو الصدق، وإما فعل، وهو القنوت الذي هو ملازمة الطاعة، وإما بالمال، وهو الإنفاق في سبيل الخير، وأما الطلب فبالاستغفار لأن المغفرة أعظم المطالب بل الجامع لها، وتخصيص الأسحار لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة لأن العبادة حينئذ أشق، والنفس أصفى، والروع أجمع سيما للمجتهدين، قيل إنهم كانوا يصلون إلى السحر ثم يستغفرون ويدعون. أ. هـ بيضاوي ص 93.
وقد عد الله الإنفاق من صفات المؤمنين في قوله تبارك وتعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم 72 وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم) 73 من سورة التوبة.
(عزيز): طالب على كل شيء لا يمتنع عليه ما يريده. (حكيم): يضع الأشياء في مواضعها. (طيبة): تستطيبها النفس أو يطيب فيها العيش، وفي الحديث (إنها قصور من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت الأحمر).
فأنت ترى المنفقين والمزكين معدودين في صفوف العظماء الأبطال الذين رضي الله عنهم وأرضاهم، فحظوا بنعيم جنته (ورضوان من الله أكبر) لأنه المبدأ لكل سعادة وكرامة، والمؤدي إلى نيل الوصول، والفوز باللقاء إذ يتجلى الخالق العظيم جل وعلا ويقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً) حديث شريف.
الصدقة من العمل الصالح، وقد قال تعالى:
أ - (ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا) 12 من سورة الطلاق، وقد أخبر سبحانه وتعالى من المنافقين الفاسقين البخلاء الذين يحضون الأنصار على عدم الإنفاق.
ب - (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينفضوا ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون) 8 سورة المنافقون. سبحانه بيده الأرزاق والقسم.
جـ - (يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم) 10 من سورة التغابن.
(ليوم الجمع): الحساب والجزاء. (التغابن): يغبن فيه بعضهم بعضاً لنزول السعداء منازل الأشقياء لو كانوا سعداء وبالعكس مستعار من تغابن التجار أهـ بيضاوي. بمعنى أن الكفار يأخذون منازل المؤمنين في النار لو ماتوا كفاراً، ويغبن المؤمنون الكافرون بأخذ منازلهم في الجنة لو آمنوا، والتغابن ليس على بابه لأن هذا سرور للمؤمنين، والله أعلم.
ولا يحض على طعام المسكين
إن أقبح العقائد الكفر بالله تعالى، وأشنع الرذائل البخل، وقسوة القلب، وهذه عبارة البيضاوي يفسر حاول رجل قدم كتابه بشماله فعذب عذابا عسير لماذا؟ لسببين:
أ - لا يؤمن بالله. =
فرجحتْ، يعني السِّتة، ثمَّ وضع الرَّغيف، فرجح، يعْني رجح الرَّغيف السِّتَّة.
= ب - لا يحث على بذل طعام المسكين أو إطعامه.
نعوذ بالله من مال وراءه العقاب، وحر المصائب والويلات لأن صاحبه بخيل، وفي الحقوق شحيح، فكل عمله قبيح، وعاقبته سيئة، ولن تجد أصدق حديثا من كلام الله تعالى مبينا حال المؤمنين الصالحين وحال الفاسقين الكافرين العصاة المذنبين. قال عز شأنه:(فأما من أوتي كتابه بيمنه فيقول هاؤم اقرءوا وكتابيه 20 إني ظننت أني ملاق حسابية فهو في عيشة راضية في جنة عالية قطوفها دانية كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية، وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغني عني ماليه هلك عني سلطانية خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين فليس له اليوم ههنا حميم ولا طعام إلا من غسلين لا يأكله إلا الخاطئون) 38 من سورة الحاقة. (ماليه): أي مالي وما يتبعني. (سلطانيه): حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا، أو ملكي وتسلطي على الناس. (فاسلكوه) فأدخلوه فيها بأن تلقوها على جسده، وهو فيما بينها مرهق لا يقدر على حركة. قال الصاوي كأنه قيل: ما باله يعذب هذا العذاب الشديد؟ فأجيب: لا يؤمن بالله، ولا يحض، وقال البيضاوي: تعليل على طريقة الاستئناف للمبالغة، وذكر العظيم للإشعار بأن تارك الحض بهذه المنزلة، فكيف بتارك الفعل. وفيه دليل على تكليف الكفار بالفروع. أهـ بيضاوي ص 786. (حميم): قرب يحميه. (غسلين) غسالة أهل النار وصديدهم. (الخاطئون): أصحاب الخطايا، من خطئ الرجل إذا تعمد الذنب، لا من الخطأ المضاد للصواب.
إن شاهدنا: (ولا يحض) فكأن البخيل ويأمر الناس بالبخل متخلق بأخلاق الكفار فيعذبه الله انتقاما منه على تقصيره في الإنفاق لله، ويا ليته يسكت بل يدعو إلى التشبه به ليكون قدوة سيئة في الإجرام والاعسار وأداة منع، وباب شر، وطريق ضر، وبوق حرمان، وقد قال الإمام علي كرم الله وجهه: ألا أنبئكم بالعالم كل العالم من لم يزين لعباد الله معاصي، ولم يؤمنوا مكروه، ولم يؤيسهم من روحه: أي العالم الكامل علما من دعا إلى الله، وحذر الناس من الوقوع في المناهي، ولم يقطع أمامهم من رحمته، وقال الشاعر:
فما يمر خيال الغدر في خلدي
…
ولا تلوح سمات الشر في خالي
قلبي سليم ونفسي حرة ويدي
…
مأمونة ولساني غير ختال
اتصف المنفقون بمكارم الأخلاق كما أخبر الله تعالى في كتابه العزيز
أقرأ سورة المعارج تجد قوله تبارك وتعالى: (إن الإنسان خلق هلوعاً 20 إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) 26 (هلوعاً) شديد الحرص قليل الصبر. (الشر): الضر، يجزع ويتكدر ويضجر. (الخير): السعة والخيرات، يبالغ بالإمساك والبخل:
قال البيضاوي: طبائع جبل الإنسان عليها، ثم استثنى سبحانه قيل لمضادة تلك الصفات لها من حيث انها دالة على الاستغراق في طاعة الحق، والإشفاق على الخلق، والإيمان بالجزاء، والخوف من العقوبة، وكسر الشهوة، وإيثار الآجل على العاجل، وتلك ناشئة من الانهماك في حب العاجل، وقصور النظر عليها.
اندرج المنفقون فيمن كملهم الله بتوفيقه، فأدركوا لذة طاعة الله في الجود، وتشييد الصالحات بالإنفاق، فتنزهوا عن الدناءة، والأخلاق الذميمة، وسمت صفاتهم الحميدة، وعملوا بآداب الله بتنفيذ أوامره، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو لنا قدوة حسنة. =
51 -
وعن المغيرة بن عبد الله الجعفيِّ قال: جلسنا إلى رجلٍ من أصحاب النبيِّ.
= انتقل بعد ذلك إلى قراءة سورة (المؤمنون) تجد استدراج الله تعالى للأغنياء، والتنبيه على أن المال والبنين إمداد من الله، وليس فيهما دليل على مسارعة الخير. قال جل شأنه:(أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين 56 نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون 57 إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون 58 والذين هم بآيات ربهم يؤمنون 59 والذين هم بربهم لا يشركون 60 والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون 61 أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون 62 ولا نكلف نفساً إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون) 63 من سورة المؤمنون.
(أنما نمدهم): أي أن ما نعطيهم ونجعله لهم مدداً، والخير غير معاقب عليه، وإنما المعاتب عليه اعتقادهم أن ذلك خير لهم - وهذا في الكفار، ولكن أريد أن أشبه البخيل غير للنفق في مشروعات الخير بأولئك الذين قست قلوبهم خلت من الإيمان بالله المعطي المخلف. (مشفقون): حذرون خائفون من عذاب الله، وإن شاهدنا:(والذين يؤتون ما آتوا): أي يعطون ما أعطوه من الصدقات، وقرئ:(يأتون ما أتوا) أي يفعلون ما فعلوا من الطاعات، وقلوبهم خائفة أن لا يقبل منهم، وأن لا يقع على الوجه اللائق، فيؤاخذ به (يسارعون): أي يرغبون في الطاعات أشد الرغبة، فيبادرون بها، أو يسارعون في نيل الخيرات الدنيوية الموعودة على صالح الأعمال بالمبادرة إليها كقوله تعالى:(فآتاهم الله ثواب الدنيا) فيكون إثباتا لهم ما نفي عن أضدادهم. (سابقون) لأجلها فاعلون السبق، أو سابقون الناس إلى الطاعة، أو الثواب، أو الجنة.
(وسعها): قدر طاقتها. يريد به التحريض على ما وصف به الصالحين، وتسهيله على النفوس (كتاب): يريد به اللوح، أو صحيفة الأعمال. (بالحق): بالصدق لا يوجد فيه ما يخالف الواقع. (لا يظلمون): بزيادة عقاب، أو بنقصان ثواب أهـ بيضاوي. وهل تجد أسمى صفة من الإقدام على الإنفاق ثقة بالله واعتقاداً بحسن جزائه سبحانه وتعالى.
اعتراف أهل سقر بأعذارهم منها: (ولم نك نطعم المسكين)
يفصل الله بين الخلائق فيذهب العصاة والكفرة الفسقة إلى جهنم، فيتحادث المجرمون: ما سلككم في سفر 43 قالوا لم نك من المصلين 44 ولم نك نطعم المسكين 45 وكنا نخوض مع الخائضين 46 وكنا نكذب بيوم الدين 47 حتى أتانا اليقين 48 فما تنفعهم شفاعة الشافعين) 49 من سورة المدثر.
أيها المسلم: هذا إقرار من الجهنميين، وكان من صفاتهم البخل وانعدام الخير منهم، ولا يعطون الفقراء:
أ - لا يؤدون الصلاة الواجبة.
ب - ولا يؤدون ما يجب إعطاؤه.
جـ - يشرعون في الباطل (مع الخائضين): الشارعين فيه.
د - يكذبون بيوم القيامة.
أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعمون الطعام على حبه
سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في الكرم والقدوة الحسنة في الإنفاق فلا غرو وأن يظهر أثر تعاليمه في أهله وأقربائه. قال البيضاوي في تفسيره:
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الحسن والحسين رضي الله عنهما مرضا، فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس، فقالوا: لو نذرت على ولديك، فنذر على وفاطمة رضي الله عنهما صوت ثلاث إن برئا فشفيا، وما معهم شيء، فاستقرض على من (شمعون الخيبري) ثلاث أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعا واختبزت خمسة أقراص، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم مسكين، فآثروه، وباتوا ولم يذوقوا =